"البعبع" نص مسرحي يدعو إلى الثورة على العولمة

  • 7/29/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

حين تنوي الخوض في نص مسرحي مكتوب ماثل أمامك فأنت كالمبحر الذي لا هم له سوى التوغل أكثر فأكثر في أعماق النص. وهذا ما نجد أنفسنا بصدده مع مسرحية “البعْبعْ” لرمضان العوري وقد خصها بعنوان ثان أسفل صفحة الغلاف: “مأساة في خمسة فصول”. وتعتبر المسرحية الصادرة في كتاب، عن دار زينب للنشر، استباقا للوضع الوبائي الذي اجتاح العالم مخلفا أشكالا عديدة من الدمار. وهي منجز يطرح بشكل استعاري رمزي هموم الواقع العربي وما خلفه اجتياح العولمة له وتهديدها لكينونته وتحويله إلى مجرد مسخ. صاحب النص متورط في الممارسة المسرحية تدريسا، كتابة ونقدا منذ أن استقر في ذاته، لما كان طفلا، خوف من صورة قناع كرنفالي ضخم بابتسامة عريضة وأسنان مخيفة، ليصل إلى هضم هذا القناع والإقبال عليه تدبرا وتحليلا لألوانه الراسخة في ذاكرته منذ زمن طفولته. ثم تحولت رهبة القناع هذه إلى توجه مسرحي حداثي وتجريبي ينهل من مدارس مسرحية مختلفة ويسلك سبلا فنية ومقصدية شائكة لتجسيد رؤيته المسرحية. وليس هذا العمل الأول للعوري الذي ألف العديد من الأعمال المسرحية منها ما صدر ومنها ما لا يزال مخطوطا، وهو صاحب أول معجم للغة المسرحية. كما أنه بصدد الإعداد لمؤلف يعنى بنشأة المسرح في تونس من منظور أنثربولوجي، وهو القائل عن علاقته بالمسرح “لقد لبست به زمانا ولبسني دهرا”. وقد كان لنا معه لقاء بمناسبة الاحتفاء بمسرحيته “البعبع” أوائل هذا الشهر في مدينة منزل تميم الساحلية التونسية بتنظيم من نادي أحباء الكتاب. لقاء أحسنت تنظيمه وتسييره الأستاذة مريم عبروقي وقد حضره كتاب ونقاد قدموا مداخلات تدارست مكامن الأهمية في هذا النص المسرحي مع عرض ركحي لاستهلال المسرحية من قبل الفنان نور السعيد طعم الله وفريقه المسرحي. المأساة المعاصرة مسرحية "البعبع" سخرية هدامة تنتقد عطالة اللغة وفوضى الكيان الإنساني الفاقد لأبسط مقومات التواصل نسأل رمضان العوري بداية عن الجنس الدرامي لمسرحيته “البعبع” خاصة وأنه قد وسمها في الغلاف بكونها مأساة في خمسة فصول مع ما يثيره هذا التصنيف من إشكالات لدى القارئ، ليفيدنا بأن “من أبرز العناصر التي تحدد سمات الجنس الدرامي النفس، وهو كما ذكرنا في مؤلفنا ‘معجم اللغة المسرحية‘ عبارة عن مناخ ذهني أو عاطفي يسعى المتكلم إلى تبليغه للمتلقي بالاعتماد على وسائل لغوية وأسلوبية وبلاغية متنوعة. أي أن طبيعة النفس تتحدد بالتأثير الذي يحدثه في نفس المتلقي، وفي مسرحية ‘البعبع‘ كان النفس بينيا يقوم على التناقض لأن المسرحية تندرج في جنس ‘المأساة المعاصرة‘”. ويضيف “كان الرهان الذي أرقني كثيرا وأنا أنسج هذه المسرحية، هو الحصول على نفس بالتوفق إلى مزيج متقن وتوازن دقيق بين المأساوي والهزلي؛ فلا مذاق للمأساوي يطغى ولا مذاق للملهاتى يعلو وإنما هي وضعية ‘اللعب بين بين‘ كما يقول تياري غالاب. لكأنك تمشي على خيط رفيع وتحاذر ألا ينقطع فيفسد المزيج وتبطل المتعة المرجوة. والبينية هي سمة المأساة المعاصرة، هي ابتسامة تخالطها تكشيرة أردتها أن تنفذ إلى صميم الوعي فتحركه وتقض مضجعه”. وبهذا التمثل الذي يبوح به كاتب النص ندرك أن المأساوي في المسرحية لون من الاشتغال المقصود على الصراع، لذلك يضيف العوري قائلا “هنالك تحول جذري في الصراع ومفْرداته. لقد قطعت المأساة المعاصرة مع التمثلات الغيبية مقصية بذلك الصراع مع الآلهة، كما كرسه المسرح الإغريقي والروماني قديما، ليتغير ويصبح إنسانيا. إنها مأساة الإنسان يحيك خيوطها أخوه الإنسان سواء في ما يحمله من أهواء مدمرة أو ما يصيبه في علاقته بالآخر من كوارث، فردا كان أو مجموعة. وصراع الإنسان في نص ‘البعبع‘ يتجسد في مقارعة القوى المتنفذة المهيمنة في العالم التي تفرض التدجين والاستلاب وتخنق كل نفس للمقاومة لذلك يصبح الفعل عبثيا والمسرحية عبثية. ومن مظاهر ذلك عطالة اللغة والخواء واللامعنى ودفع العلامات إلى التناقض دون المساس بالحبكة المسرحية. فقد حرصت على إبقائها واضحة المعالم”. وهذا ما يجعل مسرحية “البعبع” ضربا من السخرية الهدامة باعتبارها امتدادا لعطالة اللغة وفوضى الكيان الإنساني الفاقد لأبسط مقومات التواصل مادام الجهاز الكلمي للإنسان قد أصابه وباء غريب ،هو داء البعبعة المستهدف لملكة النطق فتتفكك الكلمة وتتشظى الأصوات لتتطاير في عالم اللامعنى. صراع الإنسان في نص "البعبع" يتجسد في مقارعة القوى المتنفذة المهيمنة في العالم يعتبر كل ما في المسرحية امتدادا لمأساة اللغة الإنسانية التي اجتاحها الوباء وأتلف صواتمها وأربك قدرة الشخصيات على النطق، وهو داء “ظهر في حارة قديمة بالمدينة العتيقة وبالتحديد في وكالة بن عبدالله قرب الأسواق” أو هو كما جاء على لسان عالم الصوتيات وهو أحد شخوص المسرحية “ظاهرة لسانية بامتياز وهي متصلة بتعامل الأصوات والملاحظ أن أحدها يسيطر على بقية الصواتم ولكنه يتضخم إلى درجة أنه يبتلعها كلها”. إنه الانفجار الصوتي الأعظم، تتخيله المسرحية وتضع كل شخوصها في خدمته وتراوح بين الواقع والمتخيل العلمي الغرائبي تقصدا لفضح حالة الضياع الإنساني الوجودي التي تتردى فيها شعوبنا العربية. فمأساة تلاشي اللغة التواصلية تجعلنا نتردى إلى مراتب الحيوانية، ليكون الهدف كما يقول العوري “ليس فقط رسم فظاعات البعبعة بكل الألوان القاتمة والوقوف على نتائجها الكارثية المؤدية إلى تدمير ممنهج للكيان البشري وانكفائه إلى حيوانية مذلة مقيتة، إذ أصبح يعيش كالسوائم بعد أن سقط في فخاخ العولمة ووقع تعليبه فكريا وثقافيا واجتماعيا وإنما الدعوة الملحة عبر ما تم اكتنازه في كل العلامات المتنوعة إلى الخروج عن سياسة التدجين الممنهج والاستلاب، دعوة الخروج عن القطيع هذه هي الفعل الأيديولوجي التسييسي في مسرحية البعبع”. ويتابع “لقد دعا إلى التمرد الشاعر منذ البداية حين رسم بالكلمات وحش البعبع الخرافي الضاري (وهو رمز العولمة)، المتربص في الكهوف والجاثم عبر فحيحه على صدور البشر يخنق منهم الأنفاس ويجردهم تدريجيا من إنسانية الإنسان، ويحيلهم إلى مجرد أصداف خاوية لا تردد إلا صدى صوته.” الشخصية المسرحية المسرح تحرر من الخوف المسرح تحرر من الخوف انبنت “البعبع” على نمط مخصوص من الشخصيات العشرين التي تضمها الخشبة، غير حاملة لأسماء أو كما يفيدنا كاتب النص “هي حوامل اسمية فضفاضة مشفوعة بأرقام (بعبع 1، بعبع 2، بعبع 3) دلالة على التفسخ وفقدان الهوية كما في أعمال ميترلنك وسترينبورغ، وكذلك على فقدان الفرادة والإرادة. ويضيف “هذا البناء معتمدٌ في الإبداع الحديث عامة منذ مطلع ستينات القرن العشرين سواء في الرواية أو في المسرح. وهو كاشف عن بناء إشكالي يسم الشخصيات المتشظية؛ إما بمفعول الاستنساخ مثل عالم الجينات العربي (قصي عدنان 1، قصي عدنان 2) نتيجة الدخول قسرا في سباخ الإلغاء؛ فالقوى المتنفذة عمدت إلى استنساخه لتعويضه في بيته والمخبر حتى تستولي على أبحاثه وتمنعه من إيجاد دواء لمرض البعبعة، أو بمفعول التفكك؛ فحتى الشخصية الرئيسية وأعني بها الشاعر الذي حافظ على سماكته وانسجام بنائه، فقد أصابه الفصام في نهاية المسرحية، وتجلى وذلك من خلال حوار مزيف بين أنا وأنت ينغلق بأن لا شيء ينبت في الصحراء ولن يزهر إلا التيه. فالفصام منتهى الفظاعة لهذه الشخصيات، فقدرها أن تفقد سماكتها ووحدتها وأن تفرغ من كل سماتها وأن تكون خاوية كالأصداف تصهر في دائرة الانسحاق الذي يفرزه الغزو الثقافي الكوني وهيمنة النظام العالمي الجديد.” يتابع العوري “لقد جمعت هذه الشخوص بين الحقائق العلمية التجريبية والخيال العلمي والفنتازيا والخيال الجامح لتدفع المتلقي إلى التأمل والتفكر تبصرا لواقعه واستشرافا لمستقبله دون تماه معها بل بمباعدة تحدث صدمة وتبني وعيا. وذلك هو دأب المسرح الناجع الفاعل الحامل لعبء الرسالة والمستعيد لمتاريس الكيان من أمن لغوي وهووي”. ShareWhatsAppTwitterFacebook

مشاركة :