تضمّن الدستور التونسي الجديد الذي حظي بنسبة تصويت مقبولة في الاستفتاء الشعبي، الذي جرى الاثنين الماضي، التنصيص على إرساء المحكمة الدستورية بوصفها هيئة دستورية لفض النزاعات السياسية بين مختلف أطراف المشهد، في خطوة لتجاوز إخفاقات الماضي، بعد أن كانت المحكمة محلّ تجاذبات حزبية وبرلمانية في ما بات يعرف في تونس بـ”العشرية السوداء”. وكان تأسيس المحكمة الدستورية في تونس عنوان معركة سياسية بين الرئيس قيس سعيد ورئيس البرلمان المنحل وزعيم حركة النهضة الإسلامية (الحزب الحاكم سابقا) راشد الغنوشي، من أبرز فصول الصراع على الصلاحيات الذي اندلع بين الطرفين منذ الأشهر الأولى لتولي سعيد رئاسة البلاد بعد 2019. إبراهيم بودربالة: المحكمة الدستورية شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية وسبق أن رفض الرئيس سعيد قانون المحكمة الدستورية المعدل، لإرساء محكمة تهدد نفوذه وربما عزله من منصبه، مبررا ذلك بدوافع دستورية، إلا أن شخصيات سياسية رجحت أن يكون الرفض مدفوعا بأسباب سياسية حينها. ونصّ الدستور الجديد الذي تمت المصادقة عليه، بنسبة تتجاوز الـ90 في المئة، والذي قامت رئاسة الجمهورية بنشره مساء الخميس الثلاثين من يونيو 2022 في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، في بابه الخامس المتعلّق بالمحكمة الدستوريّة على استقلالية الهيئة. وجاء في الفصل 125 أنّ المحكمة الدستورية تتركب من تسعة أعضاء، ثلثهم الأول من أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب، والثلث الثاني من أقدم رؤساء الدوائر التّعقيبية بالمحكـمة الإدارية، والثلث الثالث والأخير من أقدم أعضاء محكمة المحاسبات. وينتخب أعضاء المحكمة الدستورية من بينهم رئيسا لها طبقا لما يضبطه القانون. وإذا بلغ أحد الأعضاء سن الإحالة على التقاعد، يتم تعويضه آليا بمن يليه في الأقدمية، على ألاّ تقل مدّة العضوية في كل الحالات عن سنة واحدة. وحجّر الفصل 126 من مشروع الدستور الجمع بين عضوية المحكمة الدستورية ومباشرة أيّ وظائف أو مهام أخرى. وقال عميد المحامين التونسيين إبراهيم بودربالة “المحكمة الدستورية هي هيئة قضائية ستنظر في حدود صلاحياتها في الطعون المقدمة إليها، وهي شكل من أشكال الممارسة الديمقراطية للنظر في الخلافات”. وأضاف بودربالة في تصريح لـ”العرب”، “الصراعات السياسية التي كانت موجودة بقوة بين أطراف المشهد الماضي وخصوصا بين مجلس نواب الشعب والمجلس الأعلى للقضاء، هي من عطّلت إرساء المحكمة، والآن توضحت المسألة بالدستور الجديد”. نجاة الزموري: نأمل أن تكون محكمة دستورية معينة في إطار الشفافية ويقول مراقبون سياسيون إن نص الدستور الجديد حسم مسألة المحاصصة الحزبية والعراقيل التي كانت تحول دون إرساء المحكمة الدستورية بعد 2011، ما عكس وجود دوافع سياسية لتعطيلها. واعتبر أمين عام التيار الشعبي زهير حمدي أن “ميزة الدستور الجديد في علاقة بالمحكمة الدستورية أنه تجاوز مسألة المحاصصة والتعطيلات السابقة المتعلقة بتركيبتها، وكانت هناك إرادة حتى لا يتم تأسيس المحكمة، أو تأسيسها بتحكم طرف بعينه في تركيبتها”. وقال حمدي في تصريحات لـ”العرب”، “الدستور الجديد تجاوز هذه المسألة ونصّ على سلاسة تركيبتها باعتبار تعيين قضاتها بصفتهم (9 قضاة الأكبر سنا والأقدم في الدوائر العليا)، وبمجرّد إصدار النص المتعلق بها ستتشكّل آليا”. وتابع الأمين العام للتيار الشعبي “المحكمة الدستورية هي ضامنة لاحترام مبدأ الشرعية وعلوية الدستور والقوانين المطابقة له، وهي هيكل مهم جدا في الدولة ودورها حيوي في الحياة السياسية، فضلا عن دورها في ما يتعلق بحالة الشغور في رئاسة الجمهورية، حيث يتولّى رئيس المحكمة الدستورية الإشراف على مصب الرئاسة في تلك الحالة”. ولئن أكّدت شخصيات حقوقية على أهمية إرساء المحكمة الدستورية كهيئة لفض النزاعات السياسية وخلق توازن بين مختلف مكونات المشهد، فإنها شدّدت على ضرورة تعيين أعضائها في كنف النزاهة والديمقراطية بعد مشاورات واسعة تعتمد خصوصا على عنصر الكفاءة. وقالت نجاة الزموري عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان “لا يختلف اثنان في أهمية المحكمة الدستورية، بعد أن كانت ضحية تجاذبات وعدم انتخاب أعضائها لخلفيات سياسية، كما أن المحكمة الدستورية المعينة خطر أيضا ولو سيتم بعثها بمقتضى قانون، وإذا عينها طرف واحد فستكون عرضة للموالاة”. زهير حمدي: الدستور الجديد تجاوز مسألة المحاصصة الحزبية وصرّحت الزموري لـ”العرب”، “نأمل أن تكون محكمة معينة في إطار النزاهة والشفافية، وتتوفّر على أناس مشهود لهم بالكفاءة وليس بالضرورة من الدائرة السياسية، ولا نسمح بالهروب من النقيض إلى النقيض في ظل التخوفات القائمة بشأن التعيينات المسقطة”. وأردفت الزموري “هناك منظمات محايدة ونزيهة وتزخر بكفاءات وطنية، ونريد استرجاع الثقة بين مؤسسة الرئاسة وهؤلاء، كما أن الرئيس قيس سعيد مطالب بتوسيع دائرة التشاور حتى تشمل أكثر أطراف وطنية ممكنة”. وحقّق الاستفتاء موافقة غالبية كبيرة من المشاركين فيه على مشروع الدستور الجديد الذي يمنح الرئيس سعيّد صلاحيات واسعة. وأعلن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فاروق بوعسكر مساء الثلاثاء قبول الهيئة مشروع نص الدستور الجديد للجمهورية التونسية المعروض على الاستفتاء بعد أن أيّده 94.6 في المئة من الناخبين. ويعلّق التونسيون آمالا كبيرة على الدستور الجديد لسد الثغرات الخطرة التي تضمنها دستور 2014، والتي أدت بالبلاد إلى حالة من الانقسام السياسي، فضلا عن تكريس أسس الممارسة الديمقراطية الحقيقية وتجاوز الخيبات الماضية.
مشاركة :