يتواصل النداء بوجود خلل في المسرح التونسي، خلل يرده الكثيرون إلى النصوص، وإلى غياب وظيفة الدراماتورجي وإغراق المخرجين المسرحيين في لعب نمطي على عناصر فرجوية مستهلكة، ما أدى إلى الوضع المتذبذب الذي يعانيه هذا المسرح العريق، والذي ما زال ينبئ بإمكانات كبيرة ليتجاوز نفسه. في هذا الإطار كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الأكاديمي والكاتب المسرحي التونسي عبدالحليم المسعودي. بين الكتابة المسرحية، عبرت رحلتين من مسرحية “الروهة” مرورا بمسرحية “كعبة جهيمان” ككتابة فيها أبعاد جاهزية استباقية للعرض المسرحي لكن في رحلة “تائهون/ Dark Side” هناك كتابة دراماتورجية باعتبارها كتابة لخشبة المسرح فكيف كان العبور بين الرحلتين؟ عبدالحليم المسعودي: في الحقيقة ليس هناك عبور في كتابتي المسرحية. بل هنالك فسحة طارئة ضمن مسار الكتابة المسرحية التي خضتها في كتابة مسرحية “تائهون/Dark Side ” دراماتورجيا. ككاتب مسرحي أؤمن بالمشروع المسرحي ككتابة يكون طويل النفس على مدى ما تبقى لنا من الوقت مستقبلا. مسرحية “الروهة” ومسرحية “كعبة جهيمان” نصوص مسرحية تتنزل ضمن مشغل مسرحي أوسع يعتمد كتابة الراهن الحضاري في الثقافة العربية المعاصرة، ضمن ما أسميه بـ”كتابة التراجيديا الضائعة” أو المنفلة لوعينا التاريخي والحضاري المعاصر. أما هذا المشروع المسرحي فهو مسار أحقق عتباته بإيقاع ذاتي غير مرتهن إلى أي ظرفية ثقافية أو مسرحية أو طلبية أو غيرها، إنه مشروع وجودي ذاتي أعمل على اجتراحه من خلال علاقتي الفكرية والوجدانية والشعرية بهذه التراجيديا التي أضعنا موعد اللقاء بها في راهننا السياسي والحضاري المفزع. الكتابة المسرحية وهي تتناول كتابة الشخصيات لا تكتفي بمهارة التوليف أو التأليف وإنما هي عصارة جهد استقصائي دقيق أكتب هذا المشروع بتؤدة وبلذة مازوشية وسادية مطلقة، وبعنجهية وجنون الاعتقاد الراسخ والغرور النرجسي بأني أهم كاتب مسرحي ممكن النشوء أو الانقراض فجأة، وأن نتائج ووبال هذه الكتابة المسرحية لا يعنيان إلا صاحبها الذي يحسن النواح والتأبين وإقامة الحداد المستديم على وعود الصباحات الكاذبة. ما حدث مع مشروع “تائهون/ Dark Side” لا علاقة له بمشروعي الكتابي المسرحي الذي تعرفينه. بل هو مغامرة عملية دعاني إليها المخرج المسرحي نزار السعيدي لتحويل نص أولي هندسه هو كمنوال (canevas) إلى نص دراماتورجي مكتمل الأركان وفي علاقة وطيدة بمشروع عمل مسرحي يقام كعرض على الركح. إنه فعلا كما أشرت كتابة نص للركح بكل ما في ذلك من لزوميات وعقبات وبحث دائم عن اجتراح الوضعيات وبناء الشخصيات ورسم مآلتها الدرامية وعمل بحثي واستقصائي خاصة وأني أواجه الكتابة المسرحية لأول مرة باللغة التونسية المحكية بكل زخمها الدرامي والشعري ومخيالها الجمعي. وهذا أمر مختلف تماما عن الكتابة المسرحية الأخرى التي تكتب في محراب التأليف المسرحي. هذا لا يعني أن ما كتبناه من نصوص مسرحية بالعربية الفصحى يخلو من جهد بحثي و استقصائي و توثيقي، لكن الاختلاف في مغامرة “تائهون” يكمن في الكتابة الفورية لخشبة المسرح المفتوحة التي تطالب طوال مسار البروفات بمتونها النصية وعلاقة ذلك باختيارات المخرج نزار السعيدي في رؤيته الإخراجية وصرامته في اختبار المكتب على راهنية الخشبة واستعدادات الممثلين. إنها كتابة دراماتورجية شاقة محكومة بإكراهات الواقع المسرحي الملموس الذي يلفظ كل مرويات ثرثارة لا تلتزم بعضوية المقصد الدرامي – المسرحي. في الحقيقة كانت هذه التجربة الكتابة الدراماتورجية في هذا المشروع مضنية وممتعة في نفس الوقت لأنها عملية بالأساس ولأنها امتحان لاذع لشخصي بوصفي القادم من النقد المسرحي ومن التدريس الأكاديمي ومن مجال المعرفة النظرية المسرحية. إنه اختبار مهم سيكون له أثر مستقبلي لا محالة على مشروع كتابتي المسرحية التي أشرنا إليها. حضيض تراجيدي سردية حول الشخصية التونسية سردية حول الشخصية التونسية الكتابة حول الشخصية التونسية الآن وهنا ما هي الأسئلة التي امتدت منها سياقات تائهون لنتحصل مسرحيا على شخصيات مسرحية بدقة تونسية محملة بأبعاد تاريخية تحدد بوصلة الحضيض التونسي اليوم فكيف جاء هذا الانتباه دراماتورجيا؟ عبدالحليم المسعودي: الكتابة حول الشخصية التونسية عموما ليست حكرا على المسرح بل هي مجال لا يخلو من الصعوبة والغواية بالنسبة إلى المؤرخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، ونعتقد أنه لم ينجز شيء ذو بال حول الشخصية التونسية في عمقها التاريخي والاجتماعي إلا بعض المحاولات النادرة التي لا تشفي الغليل رغم الاهتمام الظاهر والانتباه العاجل لضرورة كتابة سردية ثقافية ممكنة لهذه الشخصية التونسية. أما الكتابة حول الشخصية التونسية في حدود “الهنا والآن” كما تسميه فأعتقد أن هذا من اختصاص المسرح الذي يكرس نفسه ترجمانا خائنا كان أو وفيا لهذه الشخصية التونسية. هذا المسلك ليس أمرا خاصا بتجربة “تائهون” وإنما يستند على محاولات مسرحية سابقة قامت كتراكم يمكن الانطلاق منه. هناك مسرح تونسي معني بـ “التَوَانِسِيّة” La Tunisianité (نسبة إلى التوانسة كما عند الشاعر الصغير أولاد أحمد حين كتب “كتاب التوانسة”) في بعدها الاجتماعي والسياسي، أي على مستوى الذهنية والمخيال الجمعي في علاقته بالحياة اليومية قد دشنتها محاولات ما نسميه بـ”المسرح التونسي الجديد”، وأبرز علاماته أعمال فاضل الجعايبي التي لم تنفك تستنطق هذه الشخصية التونسية على الخشبة في فوريتها، أي زمانها “الآن” و في مكانها “الهنا”. كتابة نص لخشبة المسرح فيه الكثير من اللزوميات والعقبات والبحث الدائم عن اجتراح الوضعيات وبناء الشخصيات نعتقد أن تجربة الجعايبي – بكار في محاولتها كتابة هذه “الميثولوجيا اليومية” والتنصيص على أن هناك “كائن تونسي” L’Homo Tunisianus وجب كتابته مسرحيا ومساهمات توفيق الجبالي في اشتغاله على المنطوق اللغوي التونسي بشكل كلبي والذهاب به إلى شعرية ساخرة، دون أن ننسى تجربة رجاء بن عمار- الصايم وعزالدين قنون ونورالدين الورغي، وصولا إلى جيل مسرحي جديد منشغل بالراهن التونسي، فإن كل تلك الإسهامات مكنت البحث الإبداعي المسرحي من إدراك أن “التَوَانِسِيَّة” هي المجال الحيوي الأكثر نجاعة ووعورة وغواية لكتابة هذه السردية حول الشخصية التونسية في بعدها الاجتماعي – الأنثروبولوجي وبعدها المسرحي – الدرامي الجمالي. نعتقد أن سردية “تائهون / Dark Side” قادمة من كل هذا الزخم ومدينة له في نفس الوقت. لكنها أيضا مدينة لأهم شيء يمكن أن يجعل المقترح المسرحي مقترحا خطيرا وضروريا ألا وهو الوعي التاريخي. وفي تقديري لا يمكن بناء مسرح ضروري كالحاجة القصوى دون وعي تاريخي. وهنا فإن الكتابة المسرحية وهي تتناول كتابة الشخصيات لا تكتفي بمهارة التوليف أو التأليف وإنما قبل كل شيء عليها أن تكون عصارة جهد استقصائي دقيق للشخوص في سياق واقعهم الاجتماعي وإدراك كنه مخيالهم الجمعي وفانتازماتهم ورهابهم وعنفهم وهشاشتهم في نفس الوقت. وهذا في تقديري لن يتحقق إلا بالنظر والتمحيص في اللغة أولا، لأن كل شيء يمر باللغة وعن طريقها وفيها، وهنا في ظني مربط الفرس. اللغة هي المجال الأوسع للتعبير عن هذا السقوط أو ما تسمينه بالحضيض. لا يمكن التعبير عن الحضيض إلا بإدراك قدرة هذه اللغة نفسها في حركتها اللامرئية من التسامي الشاهق للشعرية والنزول المدوي في الحضيض نفسه. وبناء على هذا يتدخل الوعي التاريخي بأسلحته النقدية والجدلية في احتلاب الشخصيات الدرامية واستبيان سجلات قولها وجعلها حية ونابضة وعدوانية تجاه المتلقي. إن كتابة شخصية “الضحضاح” (أداء رمزي عزيز) أو شخصية “الزهومة” (أداء محمد شعبان) على سبيل المثال في عمل “تائهون” لا يمكن تحقيقها دون الغوص في لغة تلك الشريحة نفسها واستكناه شفراتها وكوداتها التعبيرية وهذا لا يتم في نظري دون معرفة هذه الشخصيات في محيطها الحقيقي والانتباه إلى أقل “جستوس” صادر عنها واقتناصه وتوظيفه في العمل الدراماتورجي. طبعا حين نتحدث عن الوعي التاريخي نتحدث في الحقيقة عن الوعي السياسي. فشخصيات “تائهون” هي في قلب السياسي بوصفها مفردات تركيبية Puzzles لبناء المشهد السياسي منظورا إليه من زاوية الدراما. والمشهد السياسي لا يمكن في نظري إلا أن يكون حضيضا عاليا، أي حضيض تراجيدي بامتياز. حفيدة ما بعد بريشت "تائهون/ Dark Side" هي مواصلة لاستكمال واستكناه المشروع العريض الذي نسميه نقديا بـ"تيار المسرح التونسي الجديد" ماهي الحلقات المسرحية التونسية المرجعية التي تنتمي إليها مسرحية “تائهون” جماليا داخل المسرح التونسي؟ عبدالحليم المسعودي: كنت أفضل أن أجيبك أن مسرحية “تائهون/ Dark Side” هي عمل لقيط بلا نسب وبلا شجرة قرابة. هذا سيجعلني على الأقل – ولا أدري إذا كان الأمر ينطبق على قناعة المخرج نزار السعيدي شريكي في هذا المشروع – أتلذذ بهذه اللقاطة المشتهاة والتي سوف تدعي فيما بعد أنها بصدد تأسيس مسرح بديل يقطع مع تجارب المسرح التونسي السابقة. أعتقد أن المسرحية من زاوية مخرجها نزار السعيدي هي تواصل في نفس الحفريات التي قام بها هذا المخرج في أعماله السابقة كمؤلف مخرج سواء في “أنتليجنيسيا” أو في “قصر السعادة” وهي تجربة على أهميتها غير منقطعة عن الانتماء إلى الاتجاه الذي خطه خاصة الفاضل الجعايبي في تناوله الحفر في الواقع اليومي التونسي. أما فيما يخصني كدراماتورج فإنني أعتقد أن “تائهون/ Dark Side” هي مواصلة لاستكمال واستكناه المشروع العريض الذي نسميه نقديا بـ”تيار المسرح التونسي الجديد” بكل ذراها الجمالية الكبرى التي ثبتتها تجارب فرقة المسرح الجديد ومسرح فاضل الجعايبي وهذا أمر لا يحتاج التدليل عليه. لكنني أعتقد أن “تائهون/ Dark Side” في جوهرها تتنزل في خضم الجدل القائم ما بعد اكتمال بناء “الدراما الحديثة” والفتوحات البريشتية على مستوى الكتابة والدراماتورجيا، لذلك فإنه على المستوى النظري عمل النص على أن يكون تمثلا لمغامرة احتضان تقنية بنية العمل المفتوح كما بلورها المنظر الألماني فولكر كلوتز Volker Klotz والمغلق في الآن نفسه عبر تقنيات المراوحة بين ملحمية أصيلة ودرامية متقنة. وهي مراوحة في الكتابة في علاقة عضوية بالجيولوجيا، أي أن محصلة الكتابة الدراماتورجية قامت على مراوحة بين التكتوني (tectonique) الصارم المغلق واللاتكتوني (atectonique) الحر والمفتوح وما ينطبق على المقول والحركات الأساسية في النص ينطبق على الشخصيات . إن الكتابة الدراماتورجية في “تائهون/ Dark Side ” هي كتابة حفيدة لما بعد بريشت فيها من هاينر ميللر ما فيها وفيها من هندكه ما فيها. أما على المستوى الجمالي والبصري فإنها تلهث وراء سمت صعب قد حققه بامتياز روميو كاستلوتشي. ويبقى الثابت أن هذا المقترح المسرحي يستمد قوته من موضوعه الأساس ألا وهو حرج الهوية، الهوية التونسية على السطح الجيولوجي المتحرك الذي مثلته هذه العشرية من تاريخ تونس المعاصر ولكن من زاوية التلصص على الحضيض. الدراماتورجيا والكتابة Thumbnail كيف كانت العملية الدراماتورجية مع الخشبة والممثل والتصور الإخراجي؟ هل هي توليد مسرحي من النص إلى الخشبة إلى الممثل أم أن هناك طريقا أخرى؟ عبدالحليم المسعودي: ليست ما تسمينه بـ ”العملية الدراماتورجية” في الحقيقة إلا تحليا مبدئيا عندنا باستعدادات ذهنية لكتابة الشخصية وهي تتجه إلى مصائرها المسرحية عبر استيعاب ذهني لإمكانيات الممثل وهو ينتقل من ذاتية الشخص إلى موضوعية الشخصية. بعبارة أكثر دقة فإن هذا التحلي الدراماتورجي هو ما يسميه برنار دورت بـ “الحالة الذهنية الدراماتورجية” والتي تعني بالنسبة إلي الكتابة من خلال المناطق الرخوة عند الممثل، أي الانتباه لهشاشته الخفية ومحاولة استغلال ذلك الانطباع عن تلك الهشاشة المزعومة عنده في صياغة الشخصية، وهو ما يعني أن التعويل الدائم على استحضار شخص الممثل ليعين سيرورة الكتابة دون دراية هذه الممثل بذلك. أعتقد أنها عملية تلصص شاقة لتحقيق هذا التوافق بين الشخص والشخصية. ولذلك أعتقد أن دور الممثل وحضوره والمعرفة الشخصية (إن لم أقل الحميمية) كانت حاسمة في نهوض كتابة هذه الشخصيات. وتأتي هذه العملية الدراماتورجية أيضا على خلفية المقترح المسرحي والإخراجي. أنا أسأل دائما ونحن بصدد الكتابة المخرج نزار السعيدي عن تصوره المسرحي لوضعية الشخصية فوق الخشبة لكي تكون الكتابة الدراماتورجية أيضا كتابة مسرحية بالأساس. فالحوار المتواصل بين الدراماتورج والمخرج مهم للغاية لإنجاح مصائر الشخصيات. اختيار نزار السعيدي في رؤيته الإخراجية على الانكشاف المسرحي وإقامة الجدل بين الإنارة والظلمة في بناء المشاهد يوجه بشكل مباشر عملية الكتابة الدراماتورجية في هندسة كتابة الشخصيات في مقولها وأفعالها. وهذا الحوار بيني كدراماتورج وبين المخرج هو الذي مكننا من التغلب على غياب شخصية “إشراق” وتعويض حضورها بسردية ملحمية أعلت من شعرية هذه الكتابة نفسها. إن الجدل المتواصل بين العملية الدراماتورجية وبين المقترح الإخراجي هو الذي أعطى للكتابة السير في طرق أخرى خاصة القدرة على استكناه بيوغرافيات سرية ونائية للشخصيات. أغلب المخرجين يعولون على صناعة الفرجة وعلى خبراتهم الإخراجية المتآكلة أصلا انطلاقا من أشباه حكايات ضحلة إذا أردنا مفهمة الدراماتورجيا كفعل مسرحي تونسي يمكن أن نبني له مسارا، فكيف تراه وأنت بصدد تأسيس جيل أكاديمي مسرحي في المعهد العالي للفن المسرحي بتونس؟ عبدالحليم المسعودي: سؤالك هذا صعب للغاية. صعوبته كصعوبة الفكاك من فخ محكم. أولا لأن مفهمة الدراماتورجيا مسألة صعبة المنال. وبالمناسبة هناك كتاب صغير ومهم عنوانه “ما الدراماتورجيا؟” (Qu’est-ce que la dramaturgie?) للباحث الفرنسي جوزيف دانان يعبر فيه عن صعوبة الإمساك بمفهوم الدراماتورجيا الهارب. وهو يقترح من أجل ذلك الإمساك به من خلال قراءة تواجه الواقع المسرحي على مشارف بداية القرن الحادي والعشرين في ظل الرغبة الجامحة في طرد الدراما من المسرح نفسه. وهو ما يعني أنه ليست هناك دراماتورجيا بعينها أو دراماتورجيا في المطلق. وفي تقديري لابد من إجراء قراءة موضعية لمفهمة الدراماتورجيا كفعل مسرحي تونسي، وهذا أمر لم يتم بشكل واضح وجلي. في مسرحنا التونسي لا يمكن أن نتحدث فعلا عن دراماتورجيا أو عن دراماتورجي يكون مرافقا للمخرج المسرحي الذي يعتقد نفسه قد تحول إلى مؤلف. بل إن وظيفة الدراماتورج لا وجود لها أصلا. لأن ثمة جريمة قد ارتكبت في حق المؤلف المسرحي نفسه باسم التأليف الجماعي، باسم الكتابة المسرحية، وغيرها من عناوين الأساليب المضللة التي حولت المسرحي إلى مجرد صانع فرجة. إن مسرحنا التونسي يتحرك اليوم بلا نصوص حقيقية، بل يتحرك بلا حكاية أو خرافة (fabula) أصلا. وأغلب المخرجين يعولون على صناعة الفرجة وعلى خبراتهم الإخراجية المتآكلة أصلا انطلاقا من أشباه حكايات ضحلة لن تكون قادرة على صياغة سردية مسرحية حول الراهن التونسي. والناظر إلى المسرح التونسي سيقف على أنه مسرح يتحاشى صناع فرجته منذ أربعين عاما تناول كبريات الأعمال المسرحية من الريبرتوار المسرحي الإنساني فلا إيشيل ولا أرسطوفان ولا شكسبير ولا موليار ولا تشيخوف ولا سترندبارغ ولا بريشت ولا أونيل ولا تينسي وليامز ولا جورج شحادة ولا حتى سعدالله ونوس. وهذه الحالة جعلت غالبية ما يقدم على مسارحنا من أعمال على قدر كبير من الضحالة الفكرية والتأميلية والشعرية والجمالية. إن اللغة التي هي أساس المسرح والتي هي أساس المحمل الفكري والرؤيوي تغيب عن المسرح مقابل ثرثرة متحذلقة وعبارات جاهزة وقفشات مقولية وصراخ هستيري لا مبرر له وغياب مطلق لسجلات القول وتبايناتها عند الشخصيات إذا كان ثمة طبعا شخصيات. وأعتقد أنه لا يمكن بناء مسرح قادر على الصمود وقادر على أداء وظيفته الحضارية دون مسرح محمول على سيرورة لغة وأفكار وكتابة. في مسرحنا التونسي لا يمكن الحديث عن دراماتورجيا أو عن دراماتورجي يرافق المخرج المسرحي الذي يعتبر نفسه مؤلفا ولنقولها صراحة إن مسرحنا التونسي بلا كتاب مسرحيين وبلا دراماتورجيين ولا شعراء. بمعنى آخر مسرح بلا أفكار وبلا رؤى. بل هناك من المسرحيين صناع الفرجة وهم في الغالب قليلو التكوين ومتواضعو الدراسة يسخرون من الكتابة المسرحية والتأليف المسرحي بل يدّعون في مسرحهم تجاوز الدراما و يتموضعون فيما بعدها ويفتخرون بما يقدمونه من أخلاط علفية مركبة على أساس أنها إبداعات تجريبية في غاية التجاوز للحداثة وما بعدها. المسرح قد يتحمل نرجسية المبدع الحقيقي ولكن لا يمكنه تحمل نرجسية “المسرحي” الجاهل والسمسار والمهرجاني والتاجر والزبوني. لقد أشرت في مقدمة سؤال إلى وجوب بناء مسار للفعل المسرحي التونسي انطلاقا من مفهمة الدراماتورجيا، هذا أمر لا يتوقف عليّ شخصيا في سياق العمل الأكاديمي في المعهد العالي للفن المسرحي، ولكنه يتوقف على الأفق الذي يمكن أن يكون في هذه المؤسسة التعليمية العالية. وفي تقديري فإن المعهد بإمكانه أن يضطلع بتحقيق هذه المهمة في إعادة الوعي لدى الطلبة بأهمية الكتابة المسرحية وأهمية النصوص والقدرة على معاشرتها. ذاك هو الأساس تربية الطلبة على عشق النصوص والإقبال على التعامل معها، وهذه مسألة بيداغوجية في الظاهر لكنها في الحقيقة تكشف عن طبيعة تصورنا للمسرح الذي نريده مستقبلا. كل ما يمكن أن أقوله لك وبشكل يقيني أننا بعيدون كل البعد عن تدريس المسرح بوصفه مجالا حياتيا، ربما نقوم بتعليم بعض المهارات أو بعض المسائل النظرية العامة ولكننا لم نصل بعد إلى تعليم المسرح كضرورة وهذا أمر يطول الحديث عنه. ما هو النص المسرحي التونسي اليوم هل هو لحظة مسرحية أم هو امتداد تاريخي بين ما يحدث وبين الجمالية كحركة ولحظة يقظة؟ عبدالحليم المسعودي: النص المسرحي التونسي هو كل هذه التوصيفات التي ذكرت. فاللحظة المسرحية هي ذروة كل نص ومبتغاه في الفرجة المسرحية الحيّة. لكن الأهم هو قدرة هذا النص المسرحي التونسي على البقاء لأنه الوحيد المتبقي من الجهد المسرحي العابر. أتمنى شخصيا أن يؤسس المسرح التونسي لنفسه ريبرتوارا للأجيال القادمة تستمر من خلاله حيوات النصوص المسرحية كيف ما كانت أساليب نشأتها. أعتقد شخصيا أن النص المسرحي التونسي سيكون مرتهنا مستقبلا إلى حالة الوعي التاريخي لدى كاتبه أو منشئه. فالتأليف الإنشائي والتوليف المتحذلق والارتجال الإسعافي لمجرد الارتجال ولمجرد إنشاء الفرجة لا يمكن أن يؤسس لنص مسرحي تونسي. النص المسرحي التونسي في تقديري نص شعري بالمعنى الجليل والمأساوي للشعر يكتب عند عزلة الكاتب في غفلة الجموع ويكشف عنه بشكل فضائحي فوق الخشبة… وهو نص مسرحي منتظر ستكتبه شبيبة مسرحية قادمة مكتملة شروط الوعي وإرادة التغيير. وإن كل ما نقوم به على المستوى الشخصي هو تنبيه إلى ضرورة قيام هذا النص المسرحي الجديد.
مشاركة :