شكلت هجرة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأيامها الثمانية قصة ملهمة للعالم، تمكن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء" من تجسيدها في معرض معاصر، يشارك فيه أكثر من 70 باحثا وفنانا. معرض "الهجرة على خطا الرسول" جاء ليسلط الضوء على الإرث الضارب في عمق الجزيرة العربية، وأعظم رحلة في التاريخ بكل تفاصيلها، التي أدت إلى ولادة مجتمع يضم اليوم أكثر من 1.5 مليار مسلم. في مطلع العام الهجري السبت الماضي، مطلع العام الهجري الجديد، دشن الأمير سعود بن نايف أمير المنطقة الشرقية، معرض "الهجرة على خطا الرسول صلى الله عليه وسلم"، الأول الذي يتناول موضوع الهجرة بأسلوب معاصر، ويظهر سيرته العطرة بأفضل تقنيات العرض ليجوب دول العالم ويطلعهم على سيرة رسولنا الكريم. مسؤولون وباحثون في الفن والتاريخ الإسلامي، ومثقفون وضيوف من مختلف دول العالم، حضروا افتتاح المعرض الذي انطلق في الظهران مستقبلا زواره طيلة تسعة أشهر، ليتنقل بعدها إلى كل من الرياض وجدة والمدينة المنورة، ثم عدد من مدن العالم. في جولة لـ"الاقتصادية" في المعرض ومحطاته التي تصور بالفن هجرة الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، يتقفى بشيء من التفصيل مسيرة الرسول لمسافة نحو 400 كيلومتر، حينما غادر منزله إلى واحة يثرب في 622، التي عرفت لاحقا بمدينة الرسول، لتشكل وعي وثقافة مئات الملايين من المسلمين، وفرصة للتمعن في آثارها التي غيرت ولا تزال تغير مجرى التاريخ حتى الآن. هجرة غيرت وجه الأرض ثلاثة أعوام استغرقت "إثراء" للاستعداد والترتيب لإقامة معرض الهجرة على خطا الرسول، وفقا لمسؤولي المركز، يستقبل زواره مدة تسعة أشهر، وفي نيسان (أبريل) 2023 يودع الظهران إلى المتحف الوطني في العاصمة. وقد أسهم في المعرض مجموعة من الشركاء بقطع أثرية وتاريخية، أسهمت في تتبع تاريخ الهجرة النبوية، حيث شارك في هذه الرحلة الفنية والتاريخية الملهمة دار الفنون الإسلامية في جدة، والمتحف الوطني، ومجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية، ومؤسسة جبل التركواز التابعة لأمير ويلز، وهي مؤسسة خيرية تدعم الفنون والتراث في الشرق الأوسط. ويبرز المعرض الأحداث والقصص المرتبطة بالهجرة من خلال العرض المتحفي إلى جانب أفلام قصيرة ومشاهد تصويرية تفتح معها بابا للحوار والتبادل المعرفي وتصنع حالة من الارتباط الإنساني مع ما يطرحه المعرض من محتوى. الأنساق الاجتماعية والدينية في قريش جسدها المعرض بامتياز، قبل أن ينتقل بنا إلى بدء الرحلة، حيث مر النبي المصطفى ببيت رفيقه أبي بكر الصديق، مرورا بغار ثور ومعجزات الطريق، وصولا إلى لقاء الأحبة حينما وصل إلى يثرب واستقباله بنشيد "طلع البدر علينا". سرد الأحداث بابتكار بعد نحو 14 قرنا ونصف القرن، أعاد معرض الهجرة سرد الأحداث بطريقة مبتكرة، تصل بمعانيها لجمهور القرن الـ21، ومذكرا بهجرات سبقت هجرة الرسول، ذكرها القرآن الكريم، مثل هجرة نوح وإبراهيم ولوط وموسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، حيث ذكرت كلمة الهجرة في القرآن 31 مرة، 16 مرة منها أشارت إلى هجرة النبي المصطفى. ومن الآثار التاريخية المعارة إلى المعرض، يلفت الزائر طقوس وممارسات الجاهلية، وكذلك الشمائل المحمدية، وهي الأوصاف التي وردتنا عن ابن عمه وصهره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ونقلها كتاب الشمائل المحمدية للترمذي "892هـ"، وبجابنها لوح خشبي يتضمن وصفا شفهيا للرسول -صلى الله عليه وسلم-، مأخوذا عن السيرة المسجلة لابن الترمذي، في وصف جاء على شكل دائري مرسوم في قلب لوحة، تحيط بها أربع دوائر تتضمن أسماء الخلفاء الراشدين. ويرسم فنان آخر رسما خاصا لحذاء الرسول، مستوحيا هذه الأوصاف من حذاء للرسول يزعم وجوده في متحف طوب قابي في إسطنبول، فيما صنع حرفيون من الأندلس نسخة طبق الأصل عنه في القرن الـ13 الميلادي، وفقا لرواية عالم الحديث المغربي ابن عساكر. إلى الصورة ووهج الشاشة، حيث يشارك المخرج العالمي أوفيديو سالازار بمجموعة من الأفلام التي تعكس جزءا من روحانية وقدسية الأماكن التي صورت فيها طريق الهجرة، مستخدما تقنيات عدة من طائرات الدرونز، والتصوير على فترات، والتصوير بالأشعة دون الحمراء في محاولة لرواية الحكاية عبر إعادة تشكيلها بمشاهد درامية ومسرحية مقدمة من فنانين وممثلين سعوديين. الرحلة مصدرا للإلهام الفنانة السعودية الدكتورة زهرة الغامدي أكدت في حديث لـ"الاقتصادية" أن عملها الذي حمل اسم "المؤاخاة" استغرقها خمسة أشهر من العمل، مصنوع من قماش وطين، ويجسد في مفهومه حالة المهاجرين والأنصار، من خلال المصاعب التي عاناها المهاجرون أثناء الهجرة، وإيثار الأنصار المتمثل في استقبالهم المهاجرين في منازلهم. وجمعت الغامدي بين مرونة الأقمشة ونعومة الطين، إذ غمست الأقمشة في الوحل وربطتها معا بأحجام مختلفة، حيث تهدف هذه العقد إلى الإشارة للعلاقات الوثيقة الغنية بالإيثار والحب بين الأنصار والمهاجرين. أما الفنانة عائشة أمجد، فأعادت تصور الخريطة الجغرافية لطريق الهجرة، مستخدمة ألوانا مائية على ورق واسلي مصنوع يدويا، وأحبارا من قشرة الذهب 24 قيراطا، ورسمت نقاطا على الخريطة توضح جميع الأحداث البارزة للهجرة، وتقول عن عملها إنه لطالما ارتبط رمز الوردة بالرسول، فحرصت على استخدامها كرمز لخطواته التي شقت أرجاء الصحراء الجافة وأنارتها، وينطلق مسار الورد بدءا من غار ثور في مكة، ويقودنا لقصة أم معبد الأسرة، ومرورا بإرسال سراقة بن مالك لتتبع الرسول، وانتهاء بأطراف المدينة المنورة، حيث قامت بتصوير بعض المعالم مثل قباء ومسجد الرسول، وكذلك ناقة القصواء التي حملته، تعلقت به وأحبته، ولم تطق فراقه بعد وفاته، فرفضت الماء والطعام حتى فارقت الحياة مفطورة الفؤاد بعده. ويقدم المعرض عددا من المقتنيات الفنية مثل المحراب الذي نحته محمد صديقي بهاتي، النحات العالمي الذي عمل على أطول اللوحات الرخامية الخطية في العالم، وسجادات الصلاة الثلاث التي عملت عليها الفنانة والمصممة البريطانية - الأفغانية مريم عمر، وتعكس المشهد المعماري الغني للمدينة المنورة. كما يمكن مشاهدة ستارة منسوجة من مسجد الرسول علقت في الحجرة النبوية الشريفة، ومبخرة من المسجد النبوي، وستائر وكسوة اكتسى بها المسجد، وأعمال فنية تعكس الرحلة بتقنيات إبداعية. يبتعد عن الإطار التقليدي يقول عبدالله الراشد مدير مركز "إثراء"، "إن الهجرة على خطا الرسول ليس معرضا فحسب، بل هو مشروع نوعي متكامل يتم تقديمه بأسلوب معاصر وبطريقة استثنائية وغير مسبوقة، من خلال معرض عالمي متنقل يضم مجموعة من القطع والمقتنيات الأثرية يشمل 14 محطة تفاعلية صممت بدقة عبر خبراء محليين وعالميين، وفيلم وثائقي، وكتاب يروي قصة الهجرة، حيث عكف المركز على إعداد وتصميم المعرض مدة ثلاثة أعوام بمساعدة أكثر من 70 باحثا وفنانا وبالتعاون مع شركائنا ليخرج للعيان، معرض ينافس المعارض الدولية يبتعد عن إطار التقليدية في طرائق العرض". وأشار الراشد في كلمته في حفل التدشين إلى أن المعرض يتناول استعراض مجموعة من القطع الأثرية من منسوجات ومخطوطات ومقتنيات، تعكس ثراء الحضارة الإسلامية، حيث عقد المركز عدة تعاونات وشراكات مع عدد من الجهات المحلية والعالمية تتضمن توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات مهدت لتعاون مشترك فيما يخص قطاع الفنون الإسلامية، سعيا للنهوض بهذا القطاع الحيوي والعمل على تطويره من عدة جوانب تتناول الجانب الحضاري والفني والثقافي، كما يعتمد هذا المعرض بشكل كبير على أعمال الأستاذين عاتق البلادي والدكتور عبدالله القاضي اللذين بحثا في روايات الهجرة السابقة بتوسع من خلال الجمع ما بين العمل الميداني والبحوث الأدبية التقليدية.
مشاركة :