فاجأتني مقالة جريئة قرأتها في مجلة هارفارد بزنس ريفيو لإحدى الشخصيات العامة التي تعترف على الملأ بخمسة أخطاء فادحة ارتكبتها في أعمالها التجارية. ومكمن استغرابي أن يوثق شخص إخفاقاته بالتفصيل، وبكل شفافية، في أشهر مجلة موجهة للمهتمين بالإدارة عمومًا، وبإدارة الأعمال التجارية خصوصًا. عندما تتجول في المكتبة العربية لا تكاد تجد كتبًا تتناول قضية "الفشل" وحيثياته، بل تجد سيرًا ذاتية توحي لك بأن طرق أصحابها كانت مفروشة بالورود، علمًا بأن الفشل هو إحدى خطوات النجاح. ولولا مرارة الفشل لما أدرك المرء حلاوة النجاح. ولا يعي قيمة المعلومة التي ترشدك إلى الطريق الأقل وعورة إلا من ضاع في أتون الصحاري بلا دليل ولا نظام تتبع الملاحة. روعة الفشل أنه درس قاس يصعب نسيانه. غير أن مشكلة كثير منا أننا نتراجع عند أول محاولة لم يحالفها النجاح. وهناك من يتسرع بالحكم على المشروع برمته بالفشل من أول خطوة يخطوها. أتذكر عندما ظهرت أغنى كاتبة في التاريخ أمام طلبة جامعة هارفارد، في حفل تخرجهم، لتفاجئهم بأنها ستتحدث عن "الفشل". هنا استغرب الحضور، ومضت جي كي رولينج مؤلفة سلسلة روايات "هاري بوتر" تقول: "صحيح أنكم تخرجتم في جامعة هارفارد، لكنكم حتى الآن لا تعرفون شيئًا عن معنى الفشل. فأنا شخصيًا أعد أكبر فاشلة عرفتها حتى الآن. فقد فشلت في زواجي، وبقيت وحيدة بلا وظيفة. وحاولت توجيه جهودي نحو أمر أحبه وهو الكتابة وفشلت في إقناع نحو 12 ناشرًا لقبول رواياتي. وبعد محاولات كثيرة نجحت في نشر الروايات". وحقًا باعت بعد ذلك، بحسب صحيفة التايمز اللندنية، نحو نصف مليار نسخة، وهو عدد هائل في عالم الكتابة، حققت على إثرها حتى عام 2022 صافي ثروة بلغت 820 مليون جنيه إسترليني. وتقول إنها مدينة للفشل لأنه جعلها تكتشف أمورًا لم تكن لتعرفها عن نفسها مثل العزيمة والإصرار وغيرهما. في العالم الغربي تقل سياط النقد التي تلاحق أولئك الذين ينشرون تجاربهم. والسبب أن بعض الشخصيات العامة لا تجد من دائرتها المقربة من يقف لها بالمرصاد، ولا من يقاوم نشر أي شيء يوحي باعترافات جريئة أو سلبية، بخلاف ما يحدث في عالمنا العربي، لذا تجد سيرنا الذاتية العربية عبارة عن مثاليات مسطرة، وحافلة بكل شيء سوى محطات الصراحة المنتظرة. فعندما يصور لنا كاتب سيرته بأن عبقريته وعلو كعبه هما ما أسهما في نجاحه، فإنه في الواقع يخدع القارئ، خصوصًا المندفع لخوض غمار التجارب من دون تروٍ. ما نحتاج إليه هو مزيد من الجرأة، وأن يكون وجود الأخطاء أمرًا طبيعيًا في الحياة، وفهم أنها لا تنتقص من قدرنا بقدر ما تشير إلى أننا حاولنا، ذلك أن من لا يعمل لا يخطئ، وأولئك المكبلون بأصفاد الحذر وحدهم يحرمون من لذة التجربة والخطأ. وما أروع شعور المرء حينما يعلن على الملأ أنه قد أخطأ في مشروع تجاري، أو قرارٍ مصيري على الصعيد المهني أو الشخصي، لكنه تدارك هذا الخطأ عبر كذا وكذا. اقرأ أيضًا د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل».. الحكومة الكندية لشعبها: في الحركة بركة! وتجدر الإشارة إلى قضية مهمة وهي أنه ما كان سببًا في إخفاقات المرء قد لا يكون سببًا ممكنًا في حالات أناس آخرين لاختلاف التوقيت أو المكان أو طبيعة الاستعداد أو شخصية من يقود المشهد. وهذا سبب وجيه آخر لا ينبغي أن يدفعنا باتجاه التردد أو الخشية من الإقدام على قرارات مصيرية مدروسة. الفشل نقمة لمن يبحث عن شماعة يعلق عليها إخفاقاته، وهو نعمة لمن يدرك أن فشله خطوة نحو طريق النجاح.
مشاركة :