جال السياسيون الأوروبيون في البلدان المجاورة لقارتهم بحثا عن إمدادات غاز جديدة لتحل محل تلك التي تهددها روسيا، وحصلوا على بعض الوعود في جولتهم التي نقلتهم من أذربيجان إلى مصر إلى دول الخليج ثم إلى إسرائيل، كما زاروا الجزائر أيضا، وهي أكبر دولة في أفريقيا وأكبر منتج للغاز، والتي لا تزال شريكا صعب المراس. وتصدر الجزائر الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى إسبانيا وإيطاليا، وعن طريق الناقلات من محطتين للغاز الطبيعي المسال، ولطالما لعبت الجزائر دورا مهما في معادلة الغاز في أوروبا، بصفتها ثالث أكبر مورد بعد روسيا والنرويج، حيث توفر نسبة 10 في المئة من واردات القارة. وزار الجزائر رئيس الوزراء الإيطالي المنتهية ولايته ماريو دراجي في الثامن عشر من يوليو وعاد بوعد من الرئيس عبدالمجيد تبون بتزويده بما قيمته 4 مليارات دولار من الغاز، وتقول شركة سوناطراك الحكومية إنها سلمت أكثر من ضعف الكمية المتوقعة لإيطاليا حتى الآن لهذا العام، ويعد خط أنابيب “ترانسمد” الذي يربط البلدان عبر تونس معطلا بغرض الصيانة، وبعد إعادة التشغيل المزمع في هذا الأسبوع، سيتسارع التصدير بشكل كبير لتلبية ذلك الهدف. وحققت الجزائر إنتاجا قياسيا من الغاز في العام الماضي حيث قفز الإنتاج إلى أكثر من 100 مليار متر مكعب، وهي مفاجأة بعد مضي فترة من الركود منذ 1999 عندما تذبذب الإنتاج بين 80 – 90 مليار متر مكعب سنويا، وتستهلك الدولة حوالي نصف إنتاجها من الغاز، وكان الاستخدام المحلي المتزايد يؤثر على صادرات الغاز، لكن زيادة الإنتاج أدت إلى وصول الصادرات إلى مستويات لم تصلها منذ عام 2008. روبن ميلز: الجزائر لن تلعب دور الملبي لاحتياجات أوروبا من الغاز ويقول المحلل الاقتصادي روبن إم ميلز إن تلك المعلومات ربما كانت بشارة كاذبة، حيث يعرقل قدرة الجزائر على مساعدة أوروبا في تجاوز أزمة الغاز، وتحقيق مكاسب كبيرة في نفس الوقت، عاملان أساسيان وهما القدرة الإنتاجية والسياسة. وتراجعت صادرات الغاز بشكل حاد في النصف الأول من عام 2022، وذلك بعد الرقم القياسي الذي حققته في عام 2021، في حين ارتفعت نسبة الصادرات إلى إيطاليا قليلا، وانخفض عبر خط أنابيب إلى إسبانيا والمغرب، كما تأثر الغاز الطبيعي المسال الذي يتم توريده عن طريق السفن. والوضع محير بعض الشيء، حيث تم قطع الإمدادات عن المغرب تماما بعد انتهاء صلاحية عقد خط أنابيب غاز المغرب العربي “جي.أم.أي” وبفضل الاضطراب السياسي الكبير بين الجزائر والرباط حول إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه وتطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل. ويمتد أنبوب “جي.أم.أي” إلى إسبانيا، وعلى الرغم من الخسارة فقد تم استبداله جزئيا بتصدير أعلى عبر خط أنابيب آخر، وهو خط “مدغاز” الذي يمتد مباشرة تحت البحر المتوسط من الجزائر إلى إسبانيا، إلا أن هذا ليس بديلا كاملا، حيث بدأت إسبانيا بتزويد المغرب من خلال إدارة خط ”جي.أم.أي” في الاتجاه المعاكس، مما أثار غضب الجزائر التي لا تريد أن يصل غازها بشكل دائري إلى منافستها، وأفادت سوناطراك في الرابع والعشرين من يوليو أن “ميدغاز” واجه تخريبا في الجزء الإسباني من أنبوبها تحت سطح البحر، لكن شركة “أنقاز” الإسبانية نفت ذلك، وربما كان المقصود من الحادث هو التحذير. وكان بإمكان الجزائر توجيه الغاز الذي لا يذهب إلى المغرب وإسبانيا إلى معامل الغاز الطبيعي المسال، التي تعمل بنسبة 40 في المئة فقط أو نحو ذلك من طاقتها. ومع ذلك، انخفضت الإمدادات من ذلك الجانب أيضا، وكان من الممكن أن يرتفع الطلب المحلي. ومع ارتفاع سقف إنتاج النفط الجزائري بموجب اتفاق أوبك+، فقد تحتاج الجزائر إلى إعادة ضخ المزيد من الغاز المنتج لدعم إنتاج النفط. ولا يبدو أن أيا من تلك العوامل كاف تماما لتفسير الانخفاض في الإنتاج، ومع ارتفاع أسعار الغاز والغاز الطبيعي المسال في أوروبا، فإن الجزائر لديها حافز كبير لتعظيم حجم المبيعات، وربما تحاول ممارسة الضغط على زبائنها لرفع الأسعار في عقودهم، وقد وقعت بالفعل صفقة معدلة بسعر أعلى مع شركة إنجي الفرنسية، وفق ما يؤكده روبن إم ميلز وهو الرئيس التنفيذي لشركة قمر للطاقة ومؤلف كتاب “أسطورة أزمة النفط”. وعليه اقتصر دور الجزائر في ما يخص استبدال روسيا على خفض الصادرات الإجمالية مع تحويل الإمدادات من إسبانيا إلى إيطاليا، وهذا التحول ليس شيئا سيئا لأمن الطاقة الأوروبي، حيث تتمتع شبه الجزيرة الإيبيرية بقدرة استيراد فائضة للغاز الطبيعي المسال واتصال محدود للغاية ببقية القارة، بينما حصلت إيطاليا عادة على ما يقرب من نصف غازها من روسيا وربعه من الجزائر، لكن إذا تمكنت الجزائر من العودة إلى مستويات التصدير مثل التي كانت في النصف الأول من العام الماضي، فإن إضافة 10 مليارات متر مكعب سنويا ستكون مساهمة مفيدة إن لم تكن ضخمة لاستبدال 130 مليار متر مكعب من الغاز الروسي. ويرى المحلل الاقتصادي أن الجزائر لا تماري أو تداهن أي دولة، فمع ارتفاع أسعار المواد الهيدروكربونية، تحسن وضعها المالي المهتز، وهي تملك اليد العليا في المفاوضات، وتربطها علاقات قوية مع روسيا التي زارها وزير خارجيتها سيرجي لافروف في شهر مايو الماضي. المسار الدبلوماسي يجب أن يستمر لكي تساعد الجزائر في التخفيف من أزمة الغاز الأوروبية، وقد يتطلب الأمر تنازلات إسبانيا المسار الدبلوماسي يجب أن يستمر لكي تساعد الجزائر في التخفيف من أزمة الغاز الأوروبية، وقد يتطلب الأمر تنازلات إسبانيا ولطالما اتُهمت الجزائر بنقص الاستثمار، ووجود ظروف مالية غير جذابة، والبيروقراطية البطيئة جدا، مما أعاق تنمية قطاع الهيدروكربونات، لكن تم توقيع صفقات جديدة منذ اعتماد قانون النفط الجديد في عام 2019، ولاسيما مشروع نفطي بقيمة 4 مليارات دولار مع “أي.أن.أي” و”توتال إنرجي الفرنسية” و”أوكسيدنتال الأميركية” وكانت شركة “أي.أن.أي” الإيطالية نشطة بصورة كبيرة، حيث وافقت على أخذ كميات إضافية من الغاز عبر خط أنابيب “ترانسميد” والاستثمار في تعزيز الإنتاج الجزائري. وأعلنت سوناطراك عن اكتشاف كبير في أكبر حقل غاز لها في بداية شهر يوليو، المسمى “حاسي الرمل”، والذي سيتم تطويره بسرعة لإضافة 3.65 مليار متر مكعب من الإنتاج السنوي اعتبارا من شهر نوفمبر، وهو توقيت مناسب للغاية مع اقتراب فصل الشتاء الأوروبي. لكن الإضافات الرئيسية الجديدة الأخرى لن تصل حتى عام 2024، بينما تواصل سوناطراك التعامل مع الطلب المحلي المتزايد والانخفاض من الحقول المستنزفة. ويشدد روبن إم ميلز على أن المسار الدبلوماسي يجب أن يستمر لكي تساعد الجزائر في التخفيف من أزمة الغاز الأوروبية، وقد يتطلب الأمر بعض التنازلات المحرجة من إسبانيا، وسيكون التضامن الأوروبي مهما للحد من المنافسة بين مدريد وروما، ومن المحتمل أن تضطر شركات توزيع الغاز إلى دفع أسعار أعلى بكثير. وفي الجانب المشرق، يمكن لأوروبا أن تعرض المساعدة في معالجة 8 مليارات متر مكعب من الغاز الجزائري الذي يتبخر كل عام، والذي يتم حرقه في الحقول بسبب القدرة المحدودة على جمعه ومعالجته ونقله، ويمكن أن توفر الغاز الجزائري المحلي من خلال التعاون في الطاقة الشمسية الصحراوية. ويؤكد المحلل أن الجزائر لن تلعب دور المنقذ والملبي لاحتياجات أوروبا من الغاز، بسبب محدودية صادراتها وموقفها السياسي غير المنحاز وعملية صياغة قراراتها التي يغلب عليها التعقيد، ومع ذلك، فمع بعض الدبلوماسية الذكية والاستثمارات، قد يظفر الأوروبيون بالمزيد من الطاقة التي هم في أمسّ الحاجة إليها من صحراء الجزائر. ShareWhatsAppTwitterFacebook
مشاركة :