مسرحيات الشيخ محمد يونس القاضي أعمال رائدة في تاريخ المسرح المصري

  • 8/8/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تأثرت البدايات المسرحية في مصر على غرار بلاد الشام بالظروف السياسية، كما تأثرت بالفنون الشعبية وبخصوصية الجمهور، رغم انفتاحها واستلهامها من الحركة المسرحية الغربية. ولعل خصوصية المسرح العربي تتجسد مع رواده، وهو ما تبحث فيه الناقدة نجوى عانوس. يحمل الزجّال والشاعر الغنائي والمسرحي الشيخ محمد يونس القاضي (1880 ـ 1969) تاريخا متميزا ورائدا من الإبداع ونشر الثقافة الوطنية والنضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني، وقد تجلت عبقريته في الأغنيات الوطنية التي قدمها للشيخ سيد درويش بعد التقائهما عام 1917، لتمتد أشعاره إلى أساطين الغناء سيد درويش ومنيرة المهدية ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالغني السيد وصالح عبدالحي وليلى مراد، ولا تزال أغنياته السياسية التي اعتمد على نظمها الموروث الشعبي، وواكبت أحداث ومواقف سياسية كبيرة، تتردد حتى الآن مثل “يا بلح زغلول”، و”يا عزيز عينى بلدي يا بلدي”، “اهو ده اللى صار”، و”شال الحمام حط الحمام من مصر لما للسودان”، وهذه الأغنيات تسببت في اعتقاله 19 مرة. أيضا هو صاحب النشيد الوطني المصري “بلادي بلادي لك حبي وفؤادي” الذي لحن سيد درويش أجزاء منه عام 1923 وأكمل تلحينه محمد عبدالوهاب في السبعينات، وتجاوزت أعماله المسرحية التي كان لها دور بارز في تطور المسرح المصري 58 عملا مسرحيا متعدد الأوجه. رائد مسرحي يضم كتاب “مسرح محمد يونس القاضي.. دراسة تحليلية وتحقيق لنصوصه المسرحية” للمؤرخة والناقدة المسرحية نجوى عانوس تحقيقا وتقديما لثمانية أعمال مسرحية للقاضي مسبوقة بدراسة تستعرض التاريخ المسرحي له وتحلل الشخصيات والظواهر المشتركة في بنية المسرحيات مثل الاعتماد على المفاجآت والمصادفات وإقحام مناقشات فكرية لمعالجة القضايا الاجتماعية، والتخفي والارتجال وتأثر الحوار بالمأثورات الشعبية والمناجاة والخطابية، والوعظ وقيام الأغاني الوطنية للتعبير عن الحب والتوبة أو التعقيب على النهاية والأسى والظلم. أما المسرحيات المحققة فهي: اللي وقع يتصلح، البدر لاح، حاجب الظرف، المظلومة، حماتي، كلها يومين، الفهلوية، الدنيا وما فيها. تُلقي عانوس في دراستها الضوء على الظروف التي أحاطت بمسرح القاضي، لافتة إلى أن ضعف تيار المسرح التراجيدي في أثناء الحرب العالمية الأولى جاء نتيجة لفرض الحماية الإنجليزية على مصر وسوء الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومن ثم كان طبيعيا في مثل هذه الظروف أن تجنح الميول إلى الترفيه والتسلية، فكثرت المسارح الكوميدية كما انتشرت الدعوة إلى التمصير بعد ثورة 1919 وإلى التأليف المحلي الذي يعالج مشكلات مصرية، فاتجه الكتاب إلى الميلودراما التي ارتبطت منذ نشأتها بقضايا المصري وهمومه. ولدت الميلودراما الاجتماعية المصرية ولادة متواضعة على يد محام اسمه إسماعيل عاصم في منتصف التسعينات من القرن التاسع عشر، حيث أخرج، وفقا للباحث سيد علي إسماعيل، عدة مسرحيات ميلودرامية “هناء المحبين” 1889، “حسن العواقب” 1894، “صدق الإخاء” 1895، “الخل الوفي” 1897. كما كتب فرح أنطوان ميلودراما مصر الجديدة ومصر القديمة في 1913 وكتب عباس علام في 1915 أسرار القصور تحت اسم ملاك وشيطان، وهي تستوفي عناصر الميلودراما أكثر من الكوميدي. الكتاب يضم تحقيقا وتقديما لثمانية أعمال مسرحية للقاضي مسبوقة بدراسة تستعرض تاريخه المسرحي وأعماله وتضيف عانوس أن القاضي اتجه في هذه الظروف حيث انتشار الفودفيل على يد أمين صديقي وعلي الكسار وبديع خيري ونجيب الريحاني إلى كتابة مسرحيات مؤلفة وشارك في تأسس المسرح المحلي، ويقول أحد المعاصرين له “إنشاء المسرح المحلي هو غاية كل مصري وإلى اليوم لم نجد في هذا الميدان إنسانا خطواته واسعة غير الأستاذ محمد يونس القاضي، وقدم في العام الماضي رواية ‘المظلومة’، ثم ‘حرم المفتش’، ثم ‘حماتي’. ألف اثنتي عشر رواية أخرج منها اثنتين ولديه عشر روايات تحت الطلب وهي: المساواة، الطاعة، المداحة، حاجب الظرف، الجنون فنون، الوكيل، حلاوة البخت، بنت غلطة”. وتوضح أن القاضي علل عدم تقديمه الكثير من المسرحيات المؤلفة وعرضها في المسرح بأن المسارح كانت تفضل المسرحيات الأجنبية المعربة، وكان المخرجون يتهافتون عليها مثل عزيز عيد، فيقول في حوار بينه وبين أحد الصحافيين عام 1926 “رأيي أن المدير الفني للفرقة لم يدرس أخلاق الأمة المصرية ولا يعرف شيئا من عاداتها”. إجابة عن سؤال هل يوجد في مصر مدير فني يخرج رواية مصرية؟ يجيب “يوجد اثنان هما عبدالعزيز خليل وعمر وصفي لأن كليهما رب بيت وصاحب عائلة ونشأ في بيئة مصرية”. وعن سؤال عن عزيز عيد، يقول “عزيز عيد أذكر أنه مثل دور شاهين في رواية ‘كلها يومين’ وأيضا دور حواش في ‘التالته تابته’ وفي كلتا الروايتين كان يأخذ رأيي بصفتي المؤلف”. كما يضيف القاضي تعليلا آخر وهو أن “الروايات المعربة قيمتها المادية أقل بكثير من المؤلفة، فالمادة لها دخل في إحجام مديري الفرق عن المسرحيات المؤلفة، فهم يبخلون بثمن الروايات المؤلفة”. وتتوقف عانوس مع شخصيات القاضي في مسرحياته، ففي مسرحية “مظلومة” نتعرف على شخصية كاتب المحامي الذي يشتري شهود الزور بأسعار “متهاوده” ويلقن الشهادات، ويخون موكله ويعطي الخصم المبايعة في مقابل المال، فهو لا يهتم إلا بالمال. وشخصية العسكري في مسرحية “كلها يومين” الذي يحرص على تطبيق القانون بشكل يؤدي إلى الضرر، فيمنع أحد المواطنين من إنقاذ الناس في الأجزخانة في أثناء نشوب حريق وذلك برفضه كسر الباب. وشخصية زقزوق التي استمدها من مسرحة “مرحب” لأمين صدقي لكنه في مسرحية “البدر لاح” يقوم زقزوق بدور كشكش في رحلته إلى بلد أجنبي، يقوم زقزوق برحلة إلى زنجبار ويعقد مقارنة بين زنجبار ومصر ليفضل في النهاية العودة إلى مصر. وقد اهتم القاضي بشخصية الخادم فلم تعد مخلوقات قليلة القيمة فهي شخصيات رئيسية في بعض مسرحياته وشخصيات ثانوية في بعضها الآخر تقوم بمساعدة البطل. أيضا أبدع شخصيات من الطبقة الشعبية لا تقوم بوظيفة درامية وإنما أبدعها لتقديم المشاهد الاستعراضية الغنائية كما في مسرحية “كلها يومين” أو لحرصه على نقل الشخصيات من واقع الأسرة المصرية. كما أبدع شخصية خوفو ليشهد المصريون على الأجنبي ماركو ولينصح بالابتعاد عن تقليد الأجانب والمحافظة على أموال اليتامى والإخلاص في العمل والاتحاد والعطف على الأرامل واليتامى. أساليب فنية حللت عانوس الظواهر الفنية المشتركة في بنية مسرحيات القاضي، مشيرة إلى أن القاضي استمد ظاهرة الاعتماد على المفاجآت والمصادفات من التقليد الشعبي، فمسألة القدر والمكتوب من أبرز المسلمات، وربما مكن لمسألة الحظ والقدر في التفكير الشعبي أيضا، فالظروف التاريخية والاجتماعية المظلمة التي مر بها الشعب المصري في عصور المماليك والإقطاع ومحاولاته الكثيرة للتخلص منها، كانت تسلمه في بعض الأيام إلى محن أخرى، فضَعف إيمانه بالعقل واطمأن إلى المصادفة، والاعتماد على المفاجأة، والصدفة ليست عيبا من عيوب الميلودراما ولكن العيب هو المبالغة في استخدامها. القاضي أقحم النهايات السعيدة المفاجئة نتيجة لتأثره بعنصر المفاجأة الشعبي وتلبية لرغبة الجمهور كما كانت له بصمته الخاصة أقحم القاضي النهايات السعيدة المفاجئة نتيجة لتأثره بعنصر المفاجأة الشعبي، وتلبية لرغبة الجمهور الذي يطالب دائما بالنهايات السعيدة، فيفاجئنا القاضي مثلا في مسرحية “المظلومة” بنهاية سعيدة لم يمهد لها، فسرعان ما يندم الابن المدلل إسماعيل الذي طرد أمه وأبيه وأخته ويتوب، وسرعان ما تتحول زوجة الأب نظله القاسية العنيفة التي تدبر المؤامرات لمنيرة ابنة زوجها للتخلص منها ولحرمانها من الميراث إلى أم عطوف، وفجأة يكتشف عفيفي براءة منيرة من تهمة الخيانة فيتزوجها، وتنتهي المسرحية نهاية مفاجئة سعيدة. وتلفت إلى إقحام القاضي للمناقشات الفكرية لمعالجة القضايا الاجتماعية مما يعطل تطور الحدث في المسرحية، مثلا يناقش في “المظلومة” مدى جواز الهبة للابن، أي هل يجوز للأب وهب كل أملاكه للابن وحرمان الابنة، وهل من الضروري موافقة الابن الموهوب له؟ وفي مسرحية “كلها يومين” يناقش مشكلة البطالة وأسبابها وضرورة عدم انتظار الشباب للوظائف الحكومية والعمل في الأعمال الحرة. وأيضا قضية التمدن وإلى أي حد يجب أن يستفيد المصري من الغرب ومشكلة الزواج من الأجنبيات. وفي “الدنيا وما فيها” يناقش قضية المال في مقابل الحب والتمسك بالشرف والأخلاق المصرية، وهذه القضية الأخيرة سبق أن اهتم بها بديع خيري ونجيب الريحاني في العديد من مسرحياتهما مثل الجنيه المصري، لو كنت حليوة، الدلوعة، الفلوس. وتوضح عانوس أن الحوار في مسرح القاضي تأثر بالمأثورات الشعبية التي تحفل بالخطابة والإطناب والمبالغة والفكاهة اللفظية واللهجات الخاصة وسيلة من وسائل الإضحاك والأمثال الشعبية والأغاني والألحان. وحول وظيفة الأغاني، تقول “بدأ المسرح بداية غنائية مما يدل على تأثر مسرحنا بالتراث الشعبي منذ بدايته، ومن المعروف أن شاعر الربابة كان يقص السير الشعبية مستخدما الربابة، تلك الآلة الموسيقية الشعبية في إنشاده، أما الأراجوز وخيال الظل فالغناء والموسيقي يصاحبان عروضهما. هذا بالإضافة إلى أن الضغط السياسي كان عاملا على تأليف المسرح بالغناء، فقساوة الحكام أبعدت المؤلفين عن النقد فاستخدموا الغناء كوسيلة للتنفيس عن المشاعر المكبوتة وازدهر المسرح الغنائي منذ الحرب العالمية الأولى إذ كان في كل فرقة من الفرق توجد أوركسترا كاملة الأفراد”. وتتابع “أضف إلى هذه الأسباب التي أدت إلى كتابة القاضي للمسرحية الغنائية سببا آخر وهو أنه كان يكتب المسرحيات للسيدة منيرة المهدية ملكة الطرب والغناء وقتئذ وقد نالت إعجاب الجمهور لجمال صوتها وليس لجمال تمثيلها، فوجود الأغاني كان يتناسب مع منيرة المهدية ويرضي الجمهور ويؤدي إلى إقباله على المسرح”. وترى عانوس أن القاضي كان يحشر الأغاني حشرا في المسرحيات فلا تقوم بوظيفة درامية، فهي إما للتعبير عن الحب أو للتعبير عن الروح الوطنية والإشادة بحب مصر أو لتقديم النصيحة المستفادة من المسرحية للقارئ أو للتعبير عن المآسي والظلم الذي تعرضت له الشخصية الرئيسية. تغني منيرة في بداية مسرحية المظلومة: ما أحلى الزمن لما يصافيك ويبلغك كل الآمال واللي تحبه يكون موافيك فرحة ما تتقدرش بمال وغنت للتعبير عن الحب: في روض محاسن حبيبي قطفت ورد الخدود وبنظرة أطفي لهيبي أمتى بنظره يعود يابو عيون فيها استخى المنون وإن كنت تعطف يبقى فيها المنى قلبي انجرح لكن بسهم العيون وجروحي تشفيها بساعة هنا يا نسيم بلغ سلامي للحبيب واشكر إليه واللي شفته في غرامي عمري ما أحكي عليه. وترى عانوس أن القاضي اعتمد الفكاهة في مسرحياته على عنصر التورية والجناس والتلاعب اللفظي والقافية والقفشة التي يتوسل بها الحوار لإضحاك المتفرج إذ لا تؤدي إلى تطوير الموقف أو تنبع منه ولا تسعى لإلقاء الضوء على الشخصيات. كما استخدم الأمثال الشعبية وأنطق بها شخصيات مصرية شعبية أصيلة تأكيدا لواقعيتها فضلا عن استخدامها كحيلة أو زينة لتكسب الحوار جمالا، وقد ساعدته الأمثال في الوصول إلى هدفه التعليمي والتعبير عن مشكلات البيئة المصرية، فالأمثال بطبيعتها ذات طابع تعليمي مثال ذلك في مسرحية “يا قاعدين يكفيكم شر الجايين ـ ابعد عن الشعر وغني له ـ قال يا معدل على الناس عدل على روحك ـ الظفر ما يطلعش من اللحم ـ يا داخل بين البصلة وقشرتها ما ينوبك إلا صنتها.

مشاركة :