في ديوانه الأخير «سارقو النار» (الحركة الثقافية في لبنان)، يحشد الشاعر السوري عبد القادر الحصني مجموعة من القصائد المتباعدة من حيث أزمنة ولاداتها، وكأنّ الشاعر تعمّد في هذا التنوّع تقديم أعذار مسبقة، قبل أن يلومه قارئه على ما يعلنه من يأس وإحباط وهزيمة. فكان هذا التباعد بين أزمنة القصائد بمنزلة وثيقة تسوّغ الحالة التي وصل إليها المواطن العربي الذي يتحدّث الشاعر بلسانه. يتّكئ الشاعر على مجموعة من الشعراء، مستغلاً مناسبات خاصة بهم ليعلن رؤيته وتصوّره للواقع، حتى كاد أن يذوب صوته الشعري في تلافيف قصائد شعراء آخرين راح يشرح رؤاهم بأسلوب ينسجم وطبيعة ما يريد قوله ورسمه. فجاء ديوانه متخماً بقصائد المناسبات المطوّلة أحياناً، لكنّ هذا أسعفه في درء العتاب والملامة، إذ أشرك غيره في ما أراد طرحه، ليضعنا أمام مرايا حقائقنا. هكذا عرّى الشاعر عالم عربي أصبح الغرق فيه أوسع من أمداء البحّار وحركته وكأنّه يشرق بها لصغر حجمها أمامه، وهذا يذكّرنا بالمتنبي حين كاد أن يشرق به دمعُه «وأنّ ما عاد يجدي أن يخبّركم/بأنّ أكبر من بحاره الغرق» (ص81)، وكأنّ الأزمة التي تغتال قيمنا وتهدد وجودنا ليست وليدة الحاضر، بل هي متجذّرة فينا. وما دفع بالشاعر إلى اليأس أمام اجترار الأمةِ تاريخَها من دون أي تغيير يدفع بها إلى الأمام، فهي متحجّرة في غياهب آبارها التي تتلذّذ بعتمتها، حيث الحرية فيها قضبان، واتساع الوطن ضيّق بما يكبّله من سلاسل قمع وكبت «وأني بأقفاص أدور، ولو بدت/ على تلكم الأقفاص أشكالُ أمصارِ» (ص14). جعله محبطاً يقترب من الشعور بالدونية، أكثر ما يتمنّاه أن يكون أعمى وأصمّ. «ما أرى؟ ليتني أصمّ وأعمى/ عربٌ رحّلٌ وليلٌ ثقيلُ/ وبقايا أتباع فرسٍ ورومٍ/ صاحب الطول من بهم يستطيلُ...» (ص73). هي أمّة تكتفي بما قدّره لها حكّام عرفوا كيف يزرعون في العقول أنّه ليس من خيار ثالث أمام الشعب، فإمّا سيطرتهم أو سيطرة أعداء آخرين لا يقلّون عنهم بطشاً وتنكيلاً. وبدلاً من التنافس من أجل الأحسن، يتنافسون على تقسيم جسد الوطن «لكن يئست/ فقاتلي ومطبّبي ذئبان/ أيهما تراه الأذأبُ؟» (ص43). وليس من أمل يلوح في الأفق، طالما أنّ الناس راضون بقدر من صنع آلهة بشرية دستورها الاضطهاد، (كيف يُلغى شعبٌ، ليبقى إلهاً/واحداً فوق عرشه الاضطهادُ! (ص102). وهذا يتقاطع مع مقولة جبران: «والظلم واقف هناك والناس يدعونه الشريعة». وصرخة الشاعر ليست جديدة وانفعالية، إنما هي صرخة فعل تعود إلى عقدين، حين رفع الشاعر صوته مبكّراً ليحذّر من فناء البلاد وطمس تاريخها ومقدرات وجودها الحضاري، إذ يقول في قصيدة له عام 1994: «ليس هذا الذي يموت المغنّي/ إنّ هذي التي تموت البلادُ» (ص100). وتدّوي صرخة الشاعر أكثر في ربوع الفراغ، حين يفشي بسرّ وجعه في رحاب الشّعر، رامياً أنّاتِه الدفينةَ في قلب صديقه الشاعر جوزيف حرب، باحثاً عن عذر لمصابه، فيعلن أنّ الوجع مضاعفٌ حين يكون الموت من ذوي القربى. «أنا عذري إليك جوزيف أني/ قاتلاي المقتولُ والمقتولُ» (ص74). ولم يكتف الشاعر بجلد الواقع من الناحية السياسية والاجتماعية، إنّما يضرب بمشرطه على أوتار العصب الأكثر إيلاماً، مشيراً إلى مخاطر استغلال الديانات من أجل مآرب لا صلة لها بما جاءت الأديان من أجله «وحتّى الديانات التي شاء ربّها/ تآلفهم طرّاً بحبٍّ وإيثارِ/ أحالوا بها روح المحبة بغضةً/ فتنهاش أنيابٍ/ وتمزيق أظفارِ». (ص13). وعلى رغم هذا الجوّ الخانق، المغلّف بالسواد والهزيمة والموت، يُعلي الشاعر، ومن فوق منبر الدمار المعنوي، ومن على تكدّس القبور، صوته محذّراً من خطر أكثر تدميراً وسيطرة وإلغاء، فعبر غيرته على بلاده على رغم اليأس، ينبّه الحصني من اللجوء الأعمى إلى العدو الأساس كمخلّص لا بدّ منه «أخاف وقد حلّ الغزاة ببابنا/ انتظار خلاص اليائسين لجزّارِ» (ص18).
مشاركة :