إنغمار برغمان.. سينمائيّ من زمن آخر

  • 8/11/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

مات برغمان ! ولم تطمس مرارة هذا الخبر القاسي بلاغة أعماله السّينمائيّة، المجدولة بنفاسة سريّة ما انفكّت تتفاعل بشكل ثابت وموصول مع تخوم الوعي البشري، بل إنّها أبانت عن ملامح مبدع فنيّ نسيج وحده، استخدم السّينما على نحو مدهش، كمجسّ بالغ الحساسيّة، للإفصاح عن قضايا ما فتئت تؤرقه، والتي كان شريط «سرابند» (2004) خلاصة رائعة لها. لا يمكن لأعماله، العصيّة على التّصنيف، أن تثمّن بوصفها علامة «حداثة» سينمائيّة، حتّى وإن كانت مساهمته في مجال السّرد مصدراً للغة سينمائيّة دقيقة، داعمة للانخراط الجسدي لكلّ شخصيّة في سير وتدافع الأحداث. كان هذا السّينمائيّ لا يولي اهتماماً لـ«جنس الأفلام» التي ينتج، متجنّباً بذلك خطأ الوقوع في أعمال كلاسّيكيّة تحرص على اِسترضاء الإنتيليجنسيا البرجوازيّة، إذ كان برغمان يؤثر على العكس من ذلك، أجهد نفسه حدّ الإفناء، كيما تنبثق من نسيج أفلامه الانفعالات الأشدّ تناقضاً والمشاعر الأكثر جوهريّة، أي تلك التّفاصيل المهيبة التي جعلت منه كاتباً استثنائيّاً ومبدعاً سينمائيّاً متمكّناً وأصيلاً. من «مدينة مينائيّة» إلى «سرابند»، لا أثر لأيّ مهرب في تلك الأعمال، إذ لا وجود لغير بحث حميميّ صبور، عسير وآسر، في خدمة إخراج سينمائيّ صارم ووقور. ففي كتابه «صور»، كان برغمان قد أسرّ لنا بما يلي:«...لقد ألفيت نفسي مكتوفاً وأنا أواجه بصورة جسديّة أفلامي، التي غالباً ما تشكّلت في أحشائي، في قلبي ودماغي، في أعصابي وأمعائي، وما ساهم في ولادتها هي تلك الرّغبة التي لا اسم لها، تلك الرّغبة الأخرى التي قد نسمّيها «سعادة الحرفيّ»، سعادة سوف تجعلها أعمال هذا السّينمائيّ تنكشف وتتجسّد في العالم المرئيّ». إنّ التراكب بين رغبته في التّصريح وتجلية الأشياء وتطهيرها، للغوص في أخاديد روح قلقة، كما التمشّي السّينمائي الرّصين، بوصفه طاقة أثيرة متلمّسة لحالات مباغتة من الكشف، كان قد مثّل ولا شكّ الخيمياء الأكثر حميميّة لأعمال برغمان. وكخليط رشيق من الفرجة والفنّ، ظلّت تلك الأعمال أشبه بتقاطع للطّرق تتداخل عنده الأحلام والوقائع، وظلّ برغمان موهوباً للتّيه في متاهاتها، بين المتعة والارتجال.. بين الوجيعة والسّحر. أخبار ذات صلة الملتقيات الأدبية إثراء للمشهد الثقافي الصالونات الأدبية.. فضاءات معرفية وإنسانية مشهد من أحد أفلام برغمان (أرشيفية) مشهد من أحد أفلام برغمان (أرشيفية) رؤية خاصة متأثّراً بالواقعيّة الجديدة في إيطاليا، وبالسّينما الفرنسيّة لرونوار ودفيي، والأفلام البوليسيّة الأميركيّة، سوف تتعلّق همّة هذا المبدع بتغيير تلك الرّوافد، وإعادة إنتاج رؤيته الخاصّة، بعيداً عن الأنماط والأجناس المألوفة، وبأسلوب سوف يعرّف على أنّه «سينما المؤلّف»، وذلك قبل أن يبتعد عنه نهائيّاً و«يغرق» تماماً في كتابة أكثر سريّة، كتابة مكينة لن تتوقّف عن اِستكشافها العنيد لأسرار النّفس البشريّة، وكان شريط «الوجه» (1958) أبرز مثال على هكذا توجّه. وتلك كانت خصوصيّة هذا المؤلّف اللاّزمنيّ، مؤلّف ستحظى أعماله بشرعيّة راسخة بعيداً عن الأعراف السّينمائيّة السّائدة في زمنه، وذلك بفضل الأبعاد الكونيّة للمواضيع التي سوف يطرقها (تمزّق اللّحمة بين الأزواج، آلام الوحدة، الخوف من الموت، القصائد الغنائيّة للشّباب، قوّة العنصر الأنثوي..) وبالنّظر إلى أسلوبه اللاّفت والمتفرّد في توظيفه تلك المواضيع في المشاهد. وسوف تنتشر تلك الأبعاد الكونيّة بغزارة في أفلامه، قبل أن يتشبّت برغمان بحقل الممكنات المتاحة. وسيكون ذلك الممكن المتاح، المتمثّل في مغامرة أو في حالة شغف أو وضعيّة توحّد، أو في قطيعة أو حالة اِرتياب أو أمل.. محرّكاً للأحداث. وإذا كان برغمان يلعب باستمرار على سيكولوجيا منطوية على حقائق النّفس البشريّة، فإنّه لا يفعل ذلك إلاّ اِنطلاقاً من وضعيّات موثوقة تماماً ومحدّدة بوضوح، فيها كان المتفرّج يتعرّف على نفسه، لأنّ المؤشّرات الدالّة في أفلامه كانت تأتي دوماً واقعيّة وملموسة. وقد تتيسّر للمتفرّج حينها، رؤية تلك الوضعيّات بعيون «شياطين» المؤلّف، الذين يكونون قد توفّقوا بالكلمات والصّور في تحديد ما هو عصيّ عن الوصف ومتمنّع عن المقول. وقد سمح ذلك الأسلوب الصّارم، بإثبات للهويّة يلامس القلب والعقل في آن، ويقصي بالنّتيجة النّزعة النّخبويّة التي كان ينبذها الرّجل، بل وكان يتقيّأها. وقد برز ذلك الأسلوب في التّعاطي مع الواقع منذ شريط «مدينة مينائيّة»(1948)، الذي على خلفيّة قصّة بوليسيّة تذكّرنا بالأسلوب الهوليودي، قام فيها برغمان بتشخيص حالتين نفسانيّتين متأزّمتين في جحيم حضريّ ساحق لذوي النّفوس الضّعيفة. بنبرة متعدّدة الأصوات («نافورة أريتوز»، 1949)، وبأسلوب نادراً ما جعله ساخراً، كان برغمان يلتقط، كما لم يفعل ذلك أحد آخر من قبل، أوجاع الكائن البشري من خلال السلوك التّعبيريّ للشّخصيّات، ويتساءل عن طبيعة العلاقة بين الرّجل والمرأة، وهو الخيار الوحيد للانغمار في غيابة اللاّوعي («الطّقوس»، 1967). ولتجسيد ذلك التوجّه، سوف يتماهى مع هواجسه ليصنع لنا مشاهد تتشابك فيها الانفعالات الدّاخليّة والانفعالات الخارجيّة على نحو بليغ ولافت. أليس ذلك هو الذي حدث للأستاذ الهرم في «الفراولة البريّة» 1957، هذا الذي اِنخرط أثناء طوافه، في زمن كان قد تداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل؟ وفي أعماله التي كانت تتطوّر وفق بناء متراكب، والتي قد ينطبق عليها من حيث شدّة تلاحمها، مفهوم «الكلّ الذي لا يتجزّأ»، يكون برغمان، خاصّة بعد تحليل لغودار يحمل العنوان الشّهير «بيرغمانوراما»، هو «سينمائيّ اللّحظة». ولكن ماذا كان يعني ذلك تحديداً؟ أنّ هذا السّينمائيّ كان يشرع في عمله دائما بتساؤل أو بتأمّل في اللّحظة الرّاهنة.. في شجار، في تشكيك يطال شخصيّة ما، في حالة اِستذكار، في حلم أو ذكرى، في مصيبة.. ثمّ، بعمليّة هدم سرديّة تشمل الزّمن المتمدّد أمامنا، يغيّر برغمان من أسلوبه في التّعاطي مع تلك اللّحظة كيما يجعلها أكثر عمقا، قبل أن يشتغل عليها ويجعلها تنبثق وتتكشّف، كشخصيّة ماج- ببريتّ نيلسون في شريط»ألعاب الصّيف«(1950). تعرّجات إنسانيّة لقد جعل برغمان من نفسه خرائطيّ الفكر البشري، وطوّر وفقاً لوتيرة سيناريوهاته مواضيع كانت تشغله بشكل معمّق. فلا مكان في تلك السّيناريوهات للخداع أو المراوغة، بل كان الرّجل يلقي بنفسه جسداً وروحاً في تعرّجات إنسانيّة كم كانت تشبهه. ومن ذلك البحث الموصول، سوف يبدع دونما تملّق بعض الصّور الشّخصيّة لرجال ونساء (أحلام النّساء-1955)، ولكن مع الحرص على إرساء بناء منهجيّ لميتافيزيقا جوهريّة في أفلامه. الوجه.. هو مصدر إلهام لا حدّ له في أعمال تتعاطى مع الانفعال، الانفعال الذي بقدر ما يُخفي بقدر ما يكشف ويُظهر، وسوف يسيطر برغمان على مخاوفه حتّى يتمكّن من سبر أغوار تلك الوجوه في أوجاعها، في أسرارها، في كروبها الغامضة (التي كانت في ذات الوقت صور منعكسة في المرآة وهوّات سحيقة)، في الوقت الذي كان يرسم فيه منحنيات الموت المتخفّي وراء كلّ قامة مرتعشة. وعن ذلك الجزء من الجسد، كان فد صرّح سنة 1959: «إنّ عملنا يبدأ بالوجه البشري. وإمكانيّة الاقتراب من الوجه البشري هي الأصالة الأولى والصّفة المميّزة للسينما». ولن تكون تلك الكلمات مجرّد إعلان عقيم، لأنّها ستدرك الخاتمة «التّجميليّة» في شريط «صرخات وهمس» (1972). لقد كان ألم الأختين يتمدّد في قشعريرة موت مبرمج، وكانت اللّقطات المضخّمة للوجوه أشبه بصدى لذكريات وتجارب صادمة. من المنوّم المغناطيسي فولغار إلى الإيمان المترنّح في وجه بيتر، الشّخصيّة المعذّبة في «الدّمى المتحرّكة» (1980) والمتّشحة بقناع الموت، كان برغمان قد شاد عملاً ثانياً، عملاً غريباً ومرهقاً، حتّى يجعلنا نكتشف طبيعة عالم انتفت فيه جذوة المثاليّة. وفي شريط «الوجه»، الشّريط المحوري لبرغمان، اِكتملت الشروط التي تدفع إلى التزهّد: صراع بين الحقيقة والحيلة، التوهّم والتّهافت على المغانم الماديّة، سوف يشير أوليفييه أسّاياس أنّ «فولغر» كان من دون شكّ الصّورة الشخصيّة الأولى لبرغمان، وكم كان محقّاً في ذلك ! لقد اِنتهت أحلام الشّباب، وقطع برغمان مع المثاليّة التي رافقته في أفلام الطّويلة الأخيرة. وإن تحقّقت المعجزة مرّة أخرى، فلن تكون سوى إنباء عن مغامرات مستقبليّة مترصّدة لآفاق مجهولة. كسينمائيّ مشدود إلى كلّ ما هو إنسانيّ، فإنّ البرودة الظّاهرة لأفلامه لا تعدو كونها وهما يلامسنا في قرارة أنفسنا. لقد كان برغمان أحد الرّومنطيقيّين المتأخّرين، وإن كان مقاوماً لمخاوفه الخاصّة، فقد عرف كيف يمنحنا صورة إشعاعيّة ساطعة للمآسي التي تعتصرنا وتسائل وعينا. وكان طيلة مسيرته السّينمائيّة وبوحي من خياله المتفيّض، مروّض أحلامنا وجابل هواجسنا وآمالنا.

مشاركة :