قرأت في كتاب ( المستطرف في كل فن مستظرف ) لشهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي نسبة إلى " أبشويه " وهي إحدى قرى محافظة الغربية بمصر ، التي ولد فيها عام ٧٩٠ هجري ، وتوفي فيها عام ٨٥٢ هجري ، وقد ترك لنا العديد من المؤلفات والكتب القيمة ، وكان أشهرها كتابنا هذا ، وهو عبارة عن كتاب مستوعب لحضارة العرب والإسلام في كل فنون المعرفة التي توصلوا إليها ، وجاء هذا الجمع ، ويرجع هذا الشمول فيه نتيجة لنظرة الإسلام الشمولية للحياة بشتى نواحيها ، ومختلف صورها . ورغم الجمع المنظم الذي يتطلب جهداً ومثابرة رائعين ، والتصور الواضح في ذهن كاتبه ( الأبشيهي ) فإنه يمكننا أن نلمح فيه ظاهرتين : الأولى ، أثر الجاحظ بالكتاب ، من خلال تنوع الموضوعات ، واتساعها ، وروح النكتة في بعض الموضوعات ، وحتى في تضمين الكتاب لبذيء الكلام ، وكذلك يجب ألا ننسى ما كان للأدب الشعبي من صدى في الكتاب يتمثل ذلك بالقصص الخرافي البعيد عن الواقع العلمي . والثانية : تضمين الكتاب الأمثال العامية ، وحتى القصص الشعبي للعامة ، وهذا يحمل على الاعتقاد بأن هذا الأدب بدأ يغزو بقوة الدوائر العلمية الملتزمة ، فضلاً عن انتشاره بين العامة لغلبة العامية بين مختلف طبقات الشعب . والذي دفع الأبشيهي للقيام بهذا الجهد ، ما لحق بالأمة من تخلف في تلك الفترة ، والذي كان له أسبابه ، منها ما هو ذاتي نتج من تبلد العقل بعد رحلة حضارية طويلة لدى المسلمين ، فقد تكاسلوا ، ولم يعملوا على حفظ تراثهم وحمايته من الضياع ، بل إنهم أسهموا في ضياعه ، إما عن جهل منهم ، وإما عن شعور بالنقص ، فإذا هم يبيعون جُلَّ ما تبقى من تراثهم للمستشرقين والأوروبيين ، بأكياس الخيش - وهم لا يعرفون قيمة ما يبيعون - ، وبعضهم كانوا يحرقونه للتدفئة ، أو يمزقونه لاستعماله في لف أغراضهم في الأسواق ، ومن تلك الأسباب ما هو خارجي ، وهو الأدهى والأهم ، فأولها سقوط عاصمة الخلافة العباسية العربية في بغداد على أيدي المغول الذين دمروا الحضارة الإسلامية لجهلهم ، فقد قيل إنهم كانوا يرمون إنتاج سبعة قرون من الفكر الإنساني الأصيل في نهر دجلة ليعبروا ضفتيه ، ونكبة شبيهة بتلك النكبة ، فقد أحرق الصليبيون مكتبة طرابلس المشهورة عمداً . والنكبة الثانية : أن السلاطين والملوك الذين حكموا المنطقة لم يكونوا من العرب ، ولم يغوصوا في أعماق الفكر العربي ، وإنما كانوا من عناصر إسلامية غير عربية ،فلم يهتم هؤلاء بالتراث ، ولا حتى بالسكان المحليين إلا بالقدر الذي يستفيدون منه . ونتيجة لهذه الحوادث وغيرها بدأت الحياة الفكرية تلفظ أنفاسها ، وإن كان ثمة رمق في عصر الأبشيهي فهذه الفترة من عصور الانحطاط في أواخر عصر المماليك تسمى بعصر الموسوعات ، فقد مات الإبتكار والتجديد منذ أمد بعيد ، فما كان من هؤلاء العلماء والذين كان لديهم غيرة على تراثهم وحرص على ثقافتهم ،إلا أن قاموا بجمع ما بقي منه في إصداراتهم ، فالقلقشندي جمع كتابه الشهير ( صبح الأعشى ) ، والبغدادي جمع ( الخزانة ) وصاحبنا الأشبيهي أدلى دلوه فأخرجه لنا مليئاً بالفنون التي جمعها تحت اسم ( المستطرف في كل فن مستظرف ) . والذي أصبح يعد من أغنى الكتب العربية وأكثرها قيمة بما احتواه من فكر وثقافة وتراث . ولكن مما أُخِذ عليه في كتابه أنه لم يترك الإسرائيليات - مع ما فيها من كذب واختلاق في بعض الأحيان - فقد راح يروي بحماس عن أنبياء بني إسرائيل ، في الوقت الذي كان يكفيه التراث العربي والإسلامي ، وكان من الجميل لو أنه سخر جهده لجمعه هو فقط ، ففي مقابل تخصيصه لجزء من كتابه عن بني إسرائيل لوحظ أنه لم يذكر شيئاً عن الأدب الأندلسي ، رغم غناه وتنوع موضوعاته مما يجعلنا نشك أن الأبشيهي اطلع عليه أصلاً . ومن مميزات الكتاب وجمالياته ما رأيناه فيه من تنظيم وتنسيق ، وجمع شتات الموضوعات بالقدر الذي توفر له ولم يدخر جهداً في سبيله .
مشاركة :