محمد الغزي شاعر المنمنمات في حضرة الشعر

  • 8/14/2022
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

"شعره منسوج من الدانتيل" لا لشيء إلا لأن قليله ينطوي على الكثير لا من المعاني فحسب بل وأيضا من المشاعر. شاعر متقشف، يتأكد من لمعان كلماته قبل أن يستعملها والاستعمال هنا هو تعبير مجازي. فمحمد الغزي لا يهب مفرداته طابعا استعماليا بقدر ما يعيد تأثيثها كما لو أنها تعيش في قصيدته حياة جديدة غير تلك التي قضتها بين المعجم والحياة. شاعر أنيق. تصدر أناقته من عمق وكثافة وتماسك جمله القصيرة والإيقاع الذي يشكل خيطا يخترق القصيدة من أولها إلى آخرها فلا يفلت سطر منها. تبدو قصيدته كما لو أنها كُتبت لترضي ذلك الإيقاع وتعلو بموسيقاه فيما المعاني تكتسب طابعا مرنا لا يستجيب لكلام فائض من أجل التوضيح أو الشرح. لذلك يبدو المعنى غامضا لأول وهلة. وليس ذلك إلا من أجل أن يبقى الإيقاع نقيا من غير شائبة. الشعر في زمن النثر في الوقت الذي اندفع أبناء جيله من الشعراء في اتجاه قصيدة النثر حرص الغزي على الاستمرار في كتابة القصيدة الحرة التي تلتزم بالوزن والقافية. ليس حبّا بالقصيدة العمودية ولكنه لم يجد موهبته في قصيدة النثر. ذلك عالم آخر قرر بشجاعة وجرأة ألا يقترب منه إلا في ما ندر. ◙ المتصوفة قريبون من الغزي. أعجب بهم كثيرا. غير أنه لم يستعمل لغتهم إلا قليلا. استفاد من تقنيات تلك اللغة من غير أن ينجرف إلى تقليدهم وفي ذلك الكثير من الصدق الذي ميز شخصيته وهو الأستاذ الأكاديمي الذي ظل متمسكا بأصول الحداثة الشعرية كما انتهى إليها السياب وأدونيس وفؤاد رفقة ولن يقف بعيدا عن كلاسيكيات أبوالقاسم الشابي وأحمد شوقي وإيليا أبوماضي. في آخر كتبه الشعرية "استجب إن دعتك الجبال" يقول "هكذا أصبحت أدنو من تراب الأرض أصغي لارتفاع العشب أصغي لانفلاق الحب أصغي لانعقاد التين أصغي لاندفاع الجذر تحت الأرض". لا تقع مرجعيته في الشعر وحده بل وأيضا في الطبيعة التي يميل إليها باعتبارها جوهر الصفاء الذي تتنحى الذاكرة الشعرية جانبا من أجل أن يمر. الطبيعة التي تصنع شعرها من غير رياء تصويري ولا مناشدات بلاغية. لذلك لا يراكم الغزي صوره في الطريق إلى المعنى. ينسج قماشته من مزيج من الخامات القليلة النادرة وهو يدرك أن ما تقبض عليه يداه سيتحول بتأثير من حساسيته إلى ضربة هواء عاطفية. أليس ذلك هو الشعر؟ ولد الغزي في القيروان عام 1949. درس اللغة والأدب العربيين في الجامعة التونسية. عام 1989 حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة التونسية. عمل أولا معلما في المدارس الثانوية ثم التحق بالتعليم الجامعي بكلية الآداب بجامعة القيروان. ماء وجمر شعره ينسجه من كلمات لم تعد هي نفسها في المعجم شعره ينسجه من كلمات لم تعد هي نفسها في المعجم عام 1982 صدر كتابه الشعري الأول "كتاب الماء كتاب الجمر" بعده أصدر ستة كتب شعرية كما أصدر أكثر من عشرة كتب موجهة للأطفال. من بين تلك الكتب فاز كتابه "رسالة إلى الشتاء" بجائزة أفضل كتاب تونسي للأطفال عام 2013 في معرض صفاقس لكتاب الطفل. كتب مسرحيتين هما "المحطة" و"ابن رشد". في الكثير من الأحيان ينصت الغزي إلى الطفل الذي في داخله ليكتب شعرا بخيال طفل من غير أن يكون ذلك الشعر موجها للأطفال. يحدث العكس حين يكتب الغزي حكاية للأطفال. فسحر الشعر يتخلل لغة الحكاية من غير غموض المعنى. في الاثنين يبدو الساحر حاضرا بقوة. ساحر اللغة العذبة، الشفافة، المشدودة والمتوترة. "خذ ريشتك الليلة وارسم نجمتك المؤتلقة واذهب للنوم ستنبت للنجمة أجنحة ◙ حرصه على أن يكون واضحا في كل سطر لا يدع في كتابة الغزي حاجة للشرح عن طريق الإطالة. سطر بثلاث كلمات أو أربع يكفي تغادر في الفجر بياض الورقة". الطفل ببراءة خياله والشاعر بحساسية حدسه يلتقيان وهما الشخص نفسه الذي يعيد توظيف حواسه في بناء عالم هو مزيج من الواقع والحلم. كلمات كما لو أنها ألغاز "ارهف سمعك للبحر الليلة ثمة قارات شتى الآن من الماء وغابات وأوابد ارهف سمعك للموجة وطيور ومجرات وبراكين". الغزي الذي يظل متمسكا بأصول الحداثة لم يقف بعيدا عن كلاسيكيات الشعر العربي الغزي الذي يظل متمسكا بأصول الحداثة لم يقف بعيدا عن كلاسيكيات الشعر العربي يقيم الشاعر صلته بالطبيعة على أساس الانفتاح على حواسه فلا يصنع صوره بناء على ما تقرره حاسة النظر. لديه مرجعيات أخرى للصورة التي تأتي من مكان آخر. غير أنه لا يلجأ إلى الصور الذهنية. متعة الحواس تطور علاقته بالطبيعة وهي علاقة ضرورية بالنسبة إلى شعره "أن تمضي أبعد أبعد مما تبصر أبعد مما تسمع أبعد مما تهجس". ◙ الغزي في الكثير من الأحيان ينصت إلى الطفل الذي في داخله ليكتب شعرا بخيال طفل من غير أن يكون ذلك الشعر موجها للأطفال لطالما حرص الغزي على غنائية خفيضة الصوت وهو يواجه أسئلة الوجود التي تظل من غير جواب غير أنها تحضر لتكون سببا للشعر. "إذا جاءني الموت مستخفيا ورآنيَ في زرقة الليل محتفلا أستزيد نداماي بعض الشراب سيُطرق مستحييا ثم يخرج مرتحلا ويغلق بابي". ما من عاطفة فائضة في شعره. ذلك سلوك لغوي قبل أن يكون ارتجالا نفسيا ما من عاطفة فائضة في شعره. ذلك سلوك لغوي قبل أن يكون ارتجالا نفسيا ما من عاطفة فائضة في شعره. ذلك سلوك لغوي قبل أن يكون ارتجالا نفسيا. فبالرغم من حرصه على أن يكون واضحا في كل سطر فإنه لا يجد حاجة للشرح عن طريق الإطالة. سطر بثلاث كلمات أو أربع يكفي. هناك حاجة لشعر أكثر من الحاجة إلى المعنى. والشعر بالنسبة إلى الغزي يقيم في الكلمات. لا تشبه كلمة أخرى ولا تذكر بها وهن بالنسبة إليه كالألغاز. في قصيدة بعنوان "الغنيمة" يقول الغزي "إذن ما الذي سوف يغنمه موتنا بعد حفل الحياة الجميل فها هي أرواحنا أكلت كل أجسادنا ولم تبق للموت إن جاءنا غيرَ هذا القليل". حزين الغزي. كان كذلك دائما. أين يقف الطفل بمرحه إذاً؟ ليس من الضروري بالنسبة إلى الشاعر أن يكون ذلك الطفل مسرورا. يمكنه أن يعيد خلق العالم وهو في ذروة شعوره بالعبث. أليس العبث نوعا من الحزن اليائس؟ في قصيدته "الشحاذ" يقول "تحت ثوبي كنتُ خبأت سراجي ودخلت الحلقة قلت غنوا باسم مَن أهوى فإني أنا شحاذ على أعتابكم واسم حبيبي صَدقة". كان المتصوفة قريبين منه. أعجب بهم كثيرا. غير أنه لم يستعمل لغتهم إلا قليلا. استفاد من تقنيات تلك اللغة من غير أن ينجرف إلى تقليدهم. غير أنهم كانوا بالنسبة إليه نموذجا للعلاقة الشفافة بالآخر مهما كان مقامه. نوع من التخلي عن اللغة المتاحة هروبا إلى المساحة الشعرية. لقد أنصت إليهم مثلما أنصت إلى الطبيعة وكان الطفل في أعماقه وسيطا بين الطرفين. لذلك كان شعره منسوجا من الدانتيل. برقة عاشق وجنون طفل لم تكن لديه كلمات أكثر فقد كان شعره يجمع بين ترف الطفولة وشظف العيش لدى المتصوفة. حياة صنعت لشاعرها سريرا ينام عليه ويحلم بالمتصوف الذي حلم بأن يكونه يوما. ينسج الغزي قصيدته من كلمات لا يمكن استبدالها فهي بعد أن وقعت في مكانها في قصيدته لم تعد الكلمات نفسها في المعجم.

مشاركة :