خلال قمته في مدينة مدريد الإسبانية على مدى يومي 29 و30 يونيو 2022م أصدر حلف شمال الأطلسي «الناتو» ما عرف بـ«المفهوم الاستراتيجي الثامن، وهو باختصار شديد ميثاق أمني رفيع المستوى يصدره الحلف كل عشر سنوات، ويعد بمثابة تحديد لأبرز المستجدات الأمنية التي تواجه دول الحلف وتحديد سبل مواجهتها، ذلك الميثاق لا يتناقض مع الميثاق المنشئ للحلف بموجب معاهدة واشنطن عام 1949م، ولكن يتكامل معه، ويعكس ذلك المفهوم عدة سمات تميز عمل حلف الناتو كمنظمة دفاعية إقليمية تأسست للدفاع عن دول أوروبا وأمريكا الشمالية بعد انتهاء العالمية الثانية منها قدرة الحلف على التكيف خلال الحقب التي تلت انتهاء تلك الحرب، إذ لم يعد وجوده مرتبطاً بمواجهة تهديدات الكتلة الاشتراكية التي انهارت بانهيار حلف وارسو في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، فضلاً عن تمدد الحلف خارج أراضيه في بيئة أمنية مغايرة بما يعني الحاجة الى دراسة المستجدات الأمنية في تلك المناطق وكيفية مواجهتها، بالإضافة إلى كون ذلك المفهوم يعيد التأكيد على مبدأ الأمن الجماعي ذاته والذي تجسده المادة الخامسة جوهر وجود وعمل الحلف، ولعل الأمر اللافت للانتباه هو العملية التي يمر بها ذلك المفهوم حتى يصدر بشكله النهائي في حدود صفحات معدودة ومنها أنه يخضع للنقاش داخل أروقة الحلف ليس بين ممثلي دول الحلف الرسميين بل تكون هناك فرصة للخبراء والأكاديميين والمستشارين للمساهمة بآرائهم حول المضامين التي يجب أن يتضمنها ذلك الميثاق، من ناحية أخرى يكون للدول الشريكة للحلف نصيب من تلك المشاركات من خلال تأسيس فرق عمل تجوب تلك الدول لإجراء نقاشات رسمية وأكاديمية حول ابرز التهديدات الأمنية والدور الذي يجب أن يضطلع به حلف الناتو وطبيعة وحدود مساهمات الدول الشريكة للحلف. فما الذي جاء به ذلك المفهوم الجديد؟ وما هو تأثيره في الاستراتيجيات الدفاعية للحلف خلال السنوات المقبلة؟ وتأثير ذلك على النظام الدولي الراهن في ظل احتدام الصراع الروسي - الأطلسي على خلفية الأزمة الأوكرانية؟ المفهوم الاستراتيجي الثامن حوالي أحد عشر صفحة تتضمن نقاط محددة، كما هو معتاد بالنسبة للمفاهيم الاستراتيجية السابقة يبدأ المفهوم الجديد بالإشارة إلى أهداف ومبادئ الحلف وهي ثلاثة أهداف الردع والدفاع ومنع الأزمات وإدارتها والأمن التعاوني وتتحقق تلك الأهداف من خلال استمرار التضامن وذلك بموجب المادة الخامسة من الميثاق المنشئ للحلف، ولعل الأمر اللافت للنظر أن ديباجة المفهوم الاستراتيجي قد أشارت وبوضوح إلى الأزمة الأوكرانية ومدى ما تمثله من تهديد لأمن دول حلف الناتو، وقبيل تحديد خطة عمل الحلف تضمن المفهوم الاستراتيجي إعادة التأكيد على مبدأ التضامن بين أعضاء الحلف في إطار من قيم دوله الأعضاء. وبتحليل التحديات الأمنية التي حددها أعضاء الحلف نجد أنها تبدو مغايرة لنظيره عام 2010 من خلال ثلاث نقاط الأولى: أنه في الوقت الذي حدد فيه المفهوم السابق أن أمن الطاقة يعد من أولويات حلف الناتو وأنه يجب على الحلف أن يكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أي تهديدات تواجه مصادر الطاقة وسبل نقلها نجد أن مفهوم عام 2022 قد خلا من الإشارة لتلك القضية على الرغم من الاعتداءات التي تعرضت لها منشآت النفط في المملكة العربية السعودية وكذلك الاعتداء على ناقلات النفط في الخليج غير ذي مرة، ولم يشر المفهوم لتلك المنطقة سوى في سياق عام بالقول ان الصراعات في الشرق الأوسط وإفريقيا تمثل تهديدات لمصالح دول حلف الناتو، والثانية: أنه في حين لم يشر مفهوم عام 2010 إلى الصين كتهديد فإن المفهوم الجديد قد ذكر أن السياسات الصينية تمثل تحدياً للناتو، بينما تمثل روسيا تهديداً للحلف وبالرغم من ذلك فإن الحلف ليس لديه النية في مواجهة روسيا عسكرياً، والثالثة: لوحظ بروز اهتمام جديد للحلف بمنطقة إفريقيا والساحل بكونها بيئة خصبة للجماعات الإرهابية ومن ثم تقويض الدولة الوطنية الموحدة في تلك المنطقة مما يمثل تهديداً لمصالح الحلف، وربما أن ذلك الاهتمام قد جاء على حساب شراكات الحلف في مناطق أخرى ومنها الحوار المتوسطي ومبادرة استانبول للتعاون مع دول الخليج العربي، ولاشك أن الاهتمام الأطلسي بإفريقيا لا يعود إلى مواجهة الإرهاب بقدر رغبة الحلف في التصدي للنفوذ الصيني والروسي المتناميين في تلك القارة، وخاصة في ظل التقارب الملحوظ الأخير بين الدولتين. وفي تقديري أن المفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف قد جاء مغايراً لكافة المفاهيم السابقة ليس بشـأن تحديد التهديدات الأمنية وإنما حصر تلك التهديدات في معادلة دولية جديدة يرى الحلف أنها تمثل خللاً في هيكل النظام الدولي ومن ثم لابد من مواجهتها، بمعنى آخر أن المفهوم تم تصميمه لإدارة الصراع الدولي خلال العقد القادم ولكن يؤخذ على تلك الرؤية أمران الأول: أن وضع كل من روسيا والصين في دائرة التهديدات للحلف يعني الدفع بالدولتين للمزيد من التقارب وهو ما أكدته العديد من المؤشرات ،ومن ثم فتح جبهات عديدة للصراع مع الناتو، والثاني: مع أهمية التحديات الأمنية الراهنة فإن عدم سعي حلف الناتو لتطوير شراكاته الاستراتيجية فإن ذلك يتيح المجال للقوى الأخرى للولوج لنقاط التماس الاستراتيجي مع الناتو وليس أدل على ذلك من أن الاستراتيجية البحرية الروسية التي أعلنها الرئيس الروسي في يوليو 2022م قد تضمنت أنه من بين أهدافها التواجد في شرق البحر المتوسط وكذلك نقاط ارتكاز لوجيتسية في البحر الأحمر وهي العقيدة التي تعد نسخة محدثة من نظيرتها عام 2015م وكانت موجهة أيضاً لمواجهة تهديدات الناتو. وتأسيساً على ما سبق، فإن حلف الناتو الذي تسهم الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر في ميزانيته العسكرية سيكون هو الأداة الرئيسية للدول الغربية في صراعها مع كل من الصين وروسيا، ذلك الصراع الذي لن يقتصر على النطاق الجغرافي المباشر لحدود الحلف مع روسيا بل سوف يطول مناطق أخرى في إفريقيا والشرق الأوسط، مما يفسر صياغة المفهوم الاستراتيجي على هذا النحو، ولكن لا يتوقع خروج ذلك الصراع عن حدوده المألوفة، بل سوف يظل ضمن الصراع المنضبط بالنظر إلى توافر أدوات الردع لدى كل من الناتو وروسيا والنفوذ الاقتصادي لدى الصين، صحيح أن تلك المعادلة لا تعني أن هيكل النظام العالمي على وشك التغير، ولكن الدرس الأكبر من الأزمة الأوكرانية هو أنه يتعين على حلف الناتو والدول الغربية إيجاد سبل للتعامل مع هذا الواقع العالمي الجديد الذي يلقي بظلاله ليس فقط على أمن الحلف، بل أيضا على شراكاته في مناطق حيوية من العالم. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
مشاركة :