يتخصص كتاب الناقدة العراقية نادية هناوي “علم السرد ما بعد الكلاسيكي: السرد غير الطبيعي” في مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي، مثل السرد المعرفي، والسرد المضاد، والسرد غير المقيد، والسرد المستحيل، كما يتناول السرد غير الطبيعي ومقولاته. وتقدم هناوي أطروحة جديدة على الصعيد العربي في دراسة علم السرد ما بعد الكلاسيكي والتعريف بأعلامه وفحص نظرياته ومفاهيمه، مع الوقوف على طروحات منظري السرد غير الطبيعي الغربيين وتطبيقاتهم الروائية والقصصية. نظرية معرفية جاء الكتاب، الصادر عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، في أربعة فصول، ومما يلحظ فيه مراجعه، ومن أبرزها كتاب “السرد ما بعد الكلاسيكي مقاربات وتحليلات” بطبعته الإنجليزية (2010) لمونيكا فلودرنك وجان ألبر، هذا فضلا عن الدراسات المنشورة في دوريات الجامعات الغربية، مثل “علم السرد ما بعد الكلاسيكي: بعد عشرين عاما” لآرلين ايونسكو، و”سرديات مخترقة: السرد غير الطبيعي وإستراتيجيات قراءة غير الطبيعي” المنشور ضمن كتاب “سرديات الخرق: مواقف وتطبيقات نظرية” بتحرير آنا بابكا ومارلين شتاينر وفولفجانج مولر (2016). وتصدرت الكتاب مقدمة توضح فيها المؤلفة أهدافها من دراسة علم السرد ما بعد الكلاسيكي ومفاهيم السرد غير الطبيعي، وفي مقدمة تلك الأهداف فك إشكالية إنتاج الخطاب السردي التي يسهم فهمها في فهم العمليتين اللتين هما خارج الإنتاج السردي؛ أي الإبداع من ناحية المنتج (المؤلف) ومن ناحية المتلقي (القارئ). ومن أهداف الدراسة أيضا الإسهام مع علم السرد الكلاسيكي أو البنيوي في بلورة الكثير من المفاهيم التي يمكن لها أن تفك بعض المستغلقات المعرفية حول الخطاب السردي وميكانيزما إنتاجه. وكانت مسألة تلقي هذا الخطاب من أولويات المؤلفة، ومن أجلها درست نظريات ما بعد بنيوية، ووقفت عند ما طرحته الدراسات الثقافية حول تداخل العلوم وتكاملها من مفاهيم ومصطلحات. ومما تؤكده هناوي في كتابها أن لكل نظرية نواقصها ومتروكاتها التي من خلالها تتمكن نظرية أخرى من النمو والتشكل من جديد في دورة طبيعية لا نهاية لها. ومهما كانت وتيرة التطورات المعرفية متسارعة وحثيثة، فإن ميكانيزما اشتغال السرد تظل أبعد من أن تطالها نظرية أو أن يفك أسرارها منهج أو قانون. وتضيف أن عملية التأثر والتأثير السردي بين الأمم حاصلة منذ القدم وإلى يومنا هذا، وأن كل أدب سردي يأخذ من الآداب الأخرى ما يجعله مجربا آليات وتقانات يستمر بها نهر جريانه بالتدفق فلا يتوقف عند حد معين. من هنا “لا تدوم اجتراحات المفاهيم التي تبغي وصف العملية السردية بما فيها من سرد وسارد ومسرود ومسرود له، كما لا تستقر المصطلحات عند ضفة الخطاب والنص والملفوظ، ولا تقبع في جادة معينة، لأنه سرعان ما تبزغ ضفاف وجادات”. وتدلل المؤلفة على أن للمنظر السردي أن يستنفر قدراته من جديد وصفا وافتراضا وتنظيرا، وأن يفك إشكالية ما من الإشكالات المستجدة التي تطرأ على الخطاب السردي وتجعل عملية إنتاجه برمتها مولدة لنقد جديد، وأن يضيء مناطق هذا الإنتاج المعتمة ويظهرها على السطح. وتشير إلى أنه كلما بدا الغموض محتويا الخطاب السردي وميكانيزما فاعليته، فذلك دليل تجدده وتنوع مساراته، والعكس صحيح كذلك، فمتى ما جمد السرد عند ما هو متعارف وما هو متوقع، كان الوضوح طاغيا على خطاباته. ومع الاستمرار في التجريب والمداومة على هذه الفاعلية، يغدو النقد محتاجا إلى المزيد من المفاهيم والنظريات التي بها يحاول سبر الغامض من التجريب والغوص بحثا عن ميكانيزما التفاعل السردي. وتضيف هناوي قائلة “إذا كان علم السرد البنيوي أو علم السرد الكلاسيكي قد قال ما هو مهم وأفاض في سمات وموجبات ومسائل تصب في باب فنية السرد وموضوعيته، فإن علم السرد ما بعد الكلاسيكي يحاول أن يبتدع الجديد والمبتكر، كأن ما اجترحه علم السرد الكلاسيكي وسنه ووضعه من فروض ومفاهيم ومنظورات كان قد استقر وصار لزاما تغييره والتجديد فيه”. وتوضح هذه الفكرة بقولها “علم السرد ما بعد الكلاسيكي لا يريد مضاهاة علم السرد البنيوي، بل هو يسعى إلى التميز عليه في الكشف عن المزيد من مستغلقات الخطاب السردي، وذلك لأمرين: الأول كي يصح وصف نفسه بأنه ما بعد كلاسيكي، والآخر أن تكون له مشاريعه ومدارسه أسوة بما لسابقه من مشاريع ومدارس”. السرد غير الطبيعي من الفرضيات المطروحة في هذا الكتاب، ما تناوله من شرح لعلم السرد البنيوي أو كما تصفه المدرسة الأميركية بالكلاسيكي وأنه مثل حقبة معرفية مهمة، قطع فيها النقد الإنجلوسكسوني أشواطا كبيرة في فهم الخطاب السردي وسبر متاهاته، وكيف أن لهذا العلم أفضاله على المدرسة الأميركية وهي تجاريه بعلم السرد ما بعد الكلاسيكي مبتكرة مفاهيم ومنظورات، بعضها يأتي من باب المعارضة والتضاد وبعضها الآخر من باب الاجتراح والتأصيل. وتقول المؤلفة في هذا السياق “إذا كانت نسبة التأصيل أقل تقريبا من التعارض، فإن المهم هو أن تكون مفاهيم هذا العلم ومنظوراته مستوعبة ومستقصية ما أنتج عبر التاريخ الأدبي من قصص وحكايات. ولا خلاف في أن ما أنتج من سرد قديما بدءا من المرويات الشفاهية وانتهاء بالقصص والروايات المنتمية إلى القرنين الماضيين، هو أكثر مما أنتج واجترح ونظر له وطبق حوله من نقد أدبي”. ◙ في فصول الكتاب الأربعة الكثير من المفاهيم التي تبناها علم السرد ما بعد الكلاسيكي وحقق بها كشوفات جددت الأدب ◙ في فصول الكتاب الأربعة الكثير من المفاهيم التي تبناها علم السرد ما بعد الكلاسيكي وحقق بها كشوفات جددت الأدب وفي فصول الكتاب الأربعة الكثير من المفاهيم التي تبناها علم السرد ما بعد الكلاسيكي وحقق بها بعض الكشوفات التي تصب في باب تجاوز الشائع السردي، وأهمها مفهوم “السرد غير الطبيعي”، الذي هو محور هذا الكتاب وله فيه تطبيقات كثيرة بدءا من سرديات العصور الوسطى وعصر النهضة ووصولا إلى الروايات والقصص الحديثة. ومما ينطبق على مفهوم “السرد غير الطبيعي” بحسب المؤلفة، هو تنوع السراد وهم يمارسون ما يمارسه نظراؤهم في السرد الطبيعي، لكن ما يجعلهم مختلفين ومخصوصين في ممارسة التسريد هو محدودية نطاق الاشتغال وندرته على صعيد السرد العربي المعاصر. وترى هناوي أن ما قدمته النظرية السردية الجديدة حول السراد وأنواعهم كثير، لكن وظيفة كل منهم قد تختلف أو تتضاد مع وظيفة الآخر، ومن ثم لا رواة يتعددون إلا لكل واحد استقلاله في الاشتغال الذي هو مخصوص به وحده دون غيره، حتى وإن رافقه سارد منشق عنه موجود ضمن النطاق الذي يقدم فيه نفسه ويمارس وظيفته. ومما يدعو إليه الكتاب ضرورة تجريب سراد غير واقعيين في الروايات والقصص كي تعبر عما هو واقعي، فربما يتمكن الروائيون بذلك من هز شباك الواقع وضعضعة نسيجه. ذلك أن السارد العربي “ما زال فاعلا بنصف طاقته في هز شباك الواقع أو ملامستها في أدنى تقدير” وفقا للمؤلفة، وهذا ما يدعوه إلى أن يصمم على توسعة توظيفه لفواعل جديدة في القصة والرواية وبسراد خياليين غير حقيقيين لا همْ بالبشر عامة ولا هم بالمناضلين أو المفكرين خاصة. وتؤكد هناوي أن المراهنة على الفواعل غير الحقيقية تعني أن ما يشتغل فيه وعليه السارد سيكون واقعيا جدا ومتغلغلا إلى أقصى ما يمكن للسرد الطبيعي أن يتغلغل فيه. وتضيف “ليس وراء هذه الدعوة إلى تجريب الفواعل غير الطبيعية سرديا رغبةٌ في مجاراة الآخر الغربي ساردا وناقدا، وإنما هي محاولة في العودة إلى جذور السرد التي هي في الغالب شرقية وفي بعضها عربية، والإفادة مما خلفه الأسلاف من قص شعبي وغير شعبي، والامتياح الإبداعي من المنابع نفسها التي كان الأسلاف قد امتاحوا منها إبداعاتهم، فكتبوا أخبارا وطرفا وأحاجي وحكايات ونوادر ومنامات ومقامات ورسائل ورحلات اتخذت جميعها طابعا سرديا في شكل نثر فني بديع وخلاب، ترجم جزء منه إلى اللغات العالمية كدليل على مقروئيته التي يكمن سر جاذبيتها في فواعلها السردية غير الحقيقية أو فواعلها السردية الحقيقية لكنها غير مؤهلة واقعيا لتقوم بالسرد كأن تكون من المهمشين المخبولين أو الضعفاء أو الأموات وغير ذلك من الفواعل غير المركزية”.
مشاركة :