يبدو أن رئيس البرلمان التونسي المنحل وزعيم حركة النهضة المترنّحة بعد “موقعتي 25 يوليو 2021 و2022” أي بعد حل مجلس النواب والاستفتاء على الدستور الجديد، قد جرّب كل أساليب المناورة حتى استنفدها دون جدوى فابتكر ما بات يعرف بـ”دبلوماسية التأبين” عبر إطلاق التصريحات النارية أثناء إمامة صلوات الجنازة. حدث ذلك مرات عديدة بحضور العديد من أنصاره في محاولة لـ”تجنيد الأموات” من المقربين أو المحسوبين على حزبه. راشد الغنوشي وخلال تأبينه لمدير سابق بقناة “الجزيرة” القطرية التي دعمت حركته واحتضنتها إعلاميا، قال عن المتوفى إنه “كان شجاعا لا يخشى حاكما ولا طاغوتا”.. وهي العبارة القادمة من عمق القاموس المتشدد. هذه العبارة التي تشبه الطلقة الصريحة من مسدس مقاتل جهادي ضد الدولة وجهازها الأمني المعني الأول بهذا التوصيف (طاغوت) لدى الإسلاميين كما يعلم الجميع، تقابلها مناورة أخرى طرية اللسان في مكان آخر، إذ قال في تصريحات صحفية ردا على سؤال حول مطالب قوى سياسية بابتعاده عن حركة النهضة كشرط للعمل معه في المعارضة: “رئاسة الحركة ورئاسة المجلس أو أي رئاسة أخرى هي أمر هين وقليل أمام مصلحة تونس، ولذلك لو تقدم لنا أي طرف بتسوية للمشكلة التونسية تتطلب هذه التضحية منا فهذا أمر يسير”. إلى هنا يبدو الرجل لمن لا يعرفه مطواعا ليّنا، حريصا على مصلحة البلاد وزاهدا في السلطة، لكنه يختم تصريحه بسؤال استدراكي يقول: “ولكن أن نبادر نحن بالتنازل عن موقعنا فلمصلحة من ولرغبة من؟”. هكذا يقرن الغنوشي “المصلحة” بـ”الرغبة” دون أن ينتبه إلى زلات لسانه التي تفصح عن نواياه الحقيقية. رحل قايد السبسي في جنازة مهيبة ودعها فيها جميع التونسيين، وبقي الغنوشي مرتبكا متلعثما ومرتابا.. ولم يترك لنفسه حتى الباب الذي ينبغي أن يخرج منه مرفوع الرأس هل يجدر بمن يتحدث عن مصلحة الوطن أن يتحدث عن المصالح والرغبات، ويطيل التكلم في “التنازلات” ثم متى كان “الوطن” مصطلحا دارجا في الأدبيات الإخوانية. أليست أيديولوجيتهم عابرة للحدود والأوطان والثقافات، وتولي عقيدتهم القتالية الدرجة الأولى في سلم الأولويات؟ الغريب أن زعيم حركة النهضة لا يوفر مناسبة إلا ويصف فيها إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد بالانقلابية، ويمضي أبعد من ذلك في وصفه بالدكتاتور ثم يعود ويتحدث عن تسويات ممكنة وانتظارات آملة في القانون الانتخابي القادم الذي على ضوئه سيقرر إن كان سيدخل في الانتخابات التشريعية المزمع إقامتها في 17 ديسمبر المقبل. هذه المناورات في نظر غالبية التونسيين باتت مكشوفة بل ممجوجة، ولا تليق حتى بسياسي محترف سبق له أن لاعب الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ونال شيئا من “الغنيمة السياسية”، لكنه الآن وقد بارت تجارته وانفض الأصحاب من حوله، جدير به أن يبحث عن أي مخرج ولكن أي مخرج وقد سُدّت الأبواب؟ القضاء الذي يشكك الغنوشي في نزاهته من ناحية، ويحاول استمالته والعمل على اختراقه من ناحية أخرى، يلاحقه بتهم أقلها الفساد المالي وأخطرها دعم الإرهاب. جل الذين كانوا معه في التنظيم هربوا من سفينته التي تغرق، ضاقوا ذرعا بتفرّده بالقرار أو راجعوا أنفسهم وحسموا أمرهم كالقيادي السابق عماد الحمامي، الذي أعلن انسحابه منذ شهر فبراير 2020، حين يئس من محاولات الإصلاح الداخلي، ونفى مؤخرا نيته العودة إلى حركة النهضة سواء في ظل وجود راشد الغنوشي أو في غيابه، مؤكدا أن “راشد الغنوشي لن يغادر حركة النهضة وهو الذي يواصل التصريح والإشراف على حركة النهضة وهو بالنسبة إلي حالة مرضية لا وجود لحل لها”. ومع ذلك، ثمة من يتحدث عن انشقاق مفبرك، وخلاف مفتعل يناور به الغنوشي عبر قيادات “منشقة” عن حركة النهضة الإخوانية، تستعد لإطلاق حزب جديد تخوض من خلاله غمار الانتخابات البرلمانية المنتظرة. ومهما يكن من أمر، فإن كل شيء من مأتاه لا يستغرب، لكن ما يستغرب له المرء هو أن الغنوشي ينهى عن أمر ويأتي بمثله، فـ”الدكتاتورية” التي يزعم أنها انتهكت مؤسسات الدولة لم تمنعه يوما من صف الحشود وإقامة الندوات والمظاهرات وتحريض الناس على العصيان المدني بل ووفرت له الحماية الشخصية بفضل أجهزة الدولة التي يصفها بـ”الطاغوت”. منذ سنوات انتقد الغنوشي غريمه قايد السبسي، واصفا إياه بالقادم من الأرشيف، فرد عليه الأخير بمكره المعروف “حتى أنت من الأرشيف، لكننا لسنا من نفس الخانة”. رحل قايد السبسي في جنازة مهيبة ودعها فيها جميع التونسيين، وبقي الغنوشي مرتبكا متلعثما ومرتابا.. ولم يترك لنفسه حتى الباب الذي ينبغي أن يخرج منه مرفوع الرأس.
مشاركة :