نجوم يلجؤون إلى أغاني الزمن الجميل لتنقذهم من الفشل

  • 8/18/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حين غنت أم كلثوم ربما لم تكن تعلم أن أغنياتها ستعيش أكثر منها، لكنها ربما حين أدركت استمراريتها فنيا حرصت على أن تضمن استمرار اسمها وموسيقاها وسيرتها بعد غيابها، لكن مطربي اليوم، لا يظهر أحد منهم رغبة جدية في الاستمرار، أو ربما هو يسعى إلى الاستمرار في الربح المادي فقط وهو الربح الذي يضمن له حياة كريمة ولا يمنحه الخلود الفني. يقول الحكيم والفيلسوف الصيني كونفشيوس “إذا أردت أن تعرف مكانة أمة من الرقي فابحث عن موسيقاها”، فالموسيقى والفنون الجميلة عامة هما انعكاس مباشر وغير مباشر لمدى تحضر الشعوب، يستطيع الملاحظ ببساطة أن يستشف منهما ملامح المستقبل والطريق الذي يسير إليه التعامل الإنساني عامة. وإذا بحثنا في تاريخ موسيقانا العربية، وتصفحنا كتب التاريخ التي كتبها المؤرخون والباحثون الأكاديميون في هذا المجال لوجدنا تثمينا وإشادة واسعة بالموروث الموسيقي المحلي والإقليمي المشترك، فالموسيقى العربية شهدت في القرن الماضي أوج شهرتها وانتشارها، وانفتحت على الشعوب العربية وتنوع ثقافاتها وخصوصية هويتها، فرأينا مطربي الزمن الجميل، يوحدون ملايين البشر حول أغنياتهم، وينقلون حبهم لها إلى أبنائهم وأحفادهم. أم كلثوم وفيروز وصباح ووديع الصافي وعبدالحليم حافظ وفريد شوقي والهادي الجويني ونعمة وعلية وغيرهم من عشرات الفنانين العرب، استطاعوا أن يمارسوا هواية أحبوها لتتحول إلى مهنة يعيشون منها، لكنهم لم يتجاهلوا يوما أن الفن قد يخلد أسماءهم بالسلب أو بالإيجاب، وبعضهم كان مدركا أن أغنياته ستعيش أكثر منه وسيمتد تأثيرها في الشعوب عقودا كثيرة. وحتى مع موجة “التغريب” والتجديد، لم يتخل المطربون العرب على الطابع الموسيقي العام، ولا على اللغة الشعرية المعبّرة، فقدموا أغنيات مختلفة عن بداياتهم الفنية لكنها لا تبتعد عن هوية كل واحد منهم، وتركوا باب التجديد مفتوحا على مصراعيه أمام كل من يرغب في خوضه على ألاّ يتطفل على “الطرب” والموسيقى العربية الكلاسيكية. ◙ فيروز غائبة عن الساحة الفنية منذ سنوات لكن أبناءها لا يخجلون من الخروج عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتنديد بكل من يردد أغانيها في حفلاته الموسيقية في زمننا الحاضر، صرنا نتحدث عن مطربي الزمن الجميل، ومطربين ومغنيين وفنانين استعراضيين، القائمة الأولى رحل أغلبهم عن عالمنا، أما الثانية فهم من أصحاب الأصوات الجيدة وممن بدأوا مسيرتهم الفنية بأداء الأغاني الطربية فاكتسبوا شهرة واسعة، والبقية هم ممن يندد بوجودهم أهل المهنة منذ عقود لكنهم لا يستطيعون وضع حد لهم. الغريب في الأمر، أن المطربين صاروا غير قادرين على مواجهة “الابتذال” المنتشر في الفن، وعوض أن يقدموا أغاني جيدة تصلح الذوق الفني العام، أصبحوا يغيّرون أساليبهم ويقتربون تدريجيا من الاستعراض و”التجارة الفنية” التي تجعل منهم فناني سوق لا همّ لهم سوى الربح المادي، فلا تعيش أسماؤهم ولا حتى أغنياتهم طويلا. ومن ملامح ذلك، أن أغاني مطربي الزمن الجميل صارت “علامة مسجلة” وأرشيفا عربيا، وتراثا جماعيا، لا يزال يحظى بالدراسة والتحليل والنقد، وتنجز حوله رسائل الدكتوراه والبحوث الأكاديمية وحتى التقارير الصحافية التحليلية، أما أغاني الفنانين الآن وحتى من نجوم الصف الأول فهي مثل “كبسولة” أو “مسكن” تعطي فاعليتها الآن وهنا، وقد لا تعيش للعام المقبل أو حتى يقبل صاحبها تناولها بالدرس والتحليل فما بالك بالنقد الفني. ويعد وائل جسار، الفنان اللبناني، نموذجا من مطربي الحاضر، ممن نجحوا في تأدية أغنيات مطربي الماضي، لكن سرعان ما انحاز إلى موجة التجديد في الموسيقى فقدم أغاني ذات نمط سريع، نالت انتشارا وشهرة واسعة، لكنه في حفلاته يصر على العودة إلى الأغاني الخالدة، فيؤدي لعبدالحليم وفيروز وغيرهما أكثر مما يغني من إنتاجه. كانت آخر حفلاته في تونس في عام 2017، لكن علاقته بالجمهور التونسي ضاربة في القدم فمنذ اشتهر وائل جسار ذلك الشاب اللبناني ذو الصوت الشجي، صعد على خشبات المسارح التونسية فأطرب وأمتع وأقنع واكتسب ورقة رابحة أخرى ثبتت اسمه كواحد من أهم مطربي جيله في الوطن العربي، لكنه بعد غياب سنوات عاد إلى تونس في جولة غنائية استهلها بحفل باهت لا يشبهه. وائل جسار الذي لقب في صغره بالطفل المعجزة، يغني منذ العام 1986 واحترف الغناء رسميا بعدها بعشر سنوات حين أصدر ألبوم “ماشي” الذي نال شهرة واسعة، وتتالت إثره الألبومات والأغاني الفردية التي نجح أغلبها و”علّم” كما يقول اللبنانيون في ذاكرة جمهوره. منحه هذا النجاح الموسيقي العديد من الجوائز من أهمها جائزة الموسيقى العربية وجائزة الموريكس دور وجائزة أفضل مطرب عربي. نادرة هي السهرات التي يحضرها جمهور غفير يحفظ كل أغاني الفنان، وسهرة الفنان اللبناني في مهرجان الحمامات التونسي كانت واحدة منها، فأغلب الحاضرين من متابعي مسيرة وائل جسار وممن يحفظون أغنياته ويرددونها وينقلون هذا الحب إلى أبنائهم أيضا. لكن هذا الفنان الذي يصنف ضمن خانة “المطربين” لا “المؤدين” لم يقدم حفلا خاصا به بالكامل، إذ لم يغن سوى خمسا من أغنياته الخاصة، في حين أصر على تقديم أغان لمطربين عرب مثل فيروز وعبدالحليم والهادي الجويني وغيرهم. واللافت هنا ليس غناء الفنان اللبناني لأغاني القدماء، فهي حاضرة تقريبا في حفلات أغلب الفنانين ما عدا أولئك الذين يحترمون الجمهور ويشتغلون على إنشاء رصيد فني لهم، ويرفضون أداء أغاني الغير، وإنما ما يلفت الانتباه أكثر هو جسار بصفته أحد أجمل الأصوات العربية سقط في موجة “التعدي” على الأغاني الأصلية، إن صح التعبير، فخلافا لكونه لم يحافظ على الطابع العام للأغاني وطريقة أدائها، حوّلها إلى أغان راقصة مستفزا الجمهور بالقفز والصفير، وهي أفعال لم تصدر عنه في أغلب مراحل مسيرته الفنية. المطربون صاروا غير قادرين على مواجهة «الابتذال» المنتشر في الفن، ويقتربون تدريجيا من الاستعراض و«التجارة الفنية» وهنا يبرز تساؤل مهم، مفاده كيف يمكن حماية الأعمال الموسيقية الكلاسيكية من مثل هذه السلوكيات؟ فيروز مثلا، غائبة عن الساحة الفنية منذ سنوات، لكن أبناءها لا يخجلون من الخروج عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتنديد بكل من يردد أغانيها في حفلاته الموسيقية، حتى أنهم رفعوا قضية ضد المغنية اللبنانية مايا دياب وكسبوها وأجبروها على دفع تعويض مالي كبير، وهم يقولون صراحة “لا أحد من حقه أن يغني لفيروز ويكسب من أغانيها وهي على قيد الحياة، وإن غنّى أحدهم فليلتزم بالأغنية كما جاءت”. في تونس أيضا نرى من حين إلى آخر، دعوات لضمان الحقوق الفكرية والأدبية، ومنها حماية حقوق المؤلفات الموسيقية، ومنع التعديل فيها أو إعادة أدائها بحجة “تهذيب التراث” التي بات يعتمدها أغلب الفنانين ممن يستسهلون إعادة تسجيل أغاني فنانين رحلوا عن عالمنا أو اعتزلوا وغابوا عن الساحة الفنية، في حين لا يبذلون جهدا ومالا لتقديم أعمال جديدة. ورغم أنه نشيط فنيا، إلا أن وائل جسار اختار أن يكون في حفلاته بتونس في مستوى أقل من المعهود، فلم يغن من إنتاجه الجديد، ولم يصطحب معه فرقة موسيقية بعدد “محترم” وإنما اكتفى بأربعة عازفي إيقاع وعازفي غيتار وعازف ناي وعازف كمان، وعازفي أورغ، تلك الآلة العجيبة التي باتت “تفسد” أغلب الحفلات الموسيقية بحضورها المسقط، مع مؤد واحد في الكورال لا يكاد صوته يسمع أو يفهم. ومثل هذه السلوكيات لم تصدر عن مطربين خلدوا أساميهم ضمن الموسيقى العربية، ولا نرى في حفلاتهم استهتارا وغناء بفرقة موسيقية لا ترتقي إلى أسلوبهم الفني وتاريخهم ولا إلى سعيهم نحو “الخلود الفني” الذي لا يبدو أن الكثير من مغني هذا الزمن سيحظون به

مشاركة :