كـان الـبـحــارة في قديم الزمـان، مـتـى أحـدقت بسـفـيـنـتـهم المتاعب، وأسقط في يد الربان، إذ يرى اضطراب البـحـر وصخب الأمواج والريح، هـتـفـوا صائحين: «لابد أن ثـمـة جـثـة قـد أخـفـيـت فـي أحـد صناديق البضائع المشحونة على ظهر السفينة!»، ثم إذا بهم يشـرعـون في البحث عنها للتخلص منها، مؤمنين بأنها سبب محنتهم، وبأن التخلص منهـا بإلقائها في البحر، كفيل بأن يرفع عنهم ما حل بهم من بلاء ولعنة. وقد بدا لي منذ سنوات أن أحـذو حـذو هؤلاء – وقـد عـصـفـت بـأقطار الـعـالـم الإسـلامي الرياح، واضطربت الأمـور واخـتلت الأوضاع - فأبحث عن الجثة المسؤولة في حمولة السفينة، وعلى الرغم من أن البـحث كشف عن جثة واحدة، فإن إحداهما كانت بلغت من الضخامة والتعفن، درجـة لم تدع عندي مجالاً للشك في أنها المسؤولة الأولى عما أصاب سفينة العالم الإسلامي من نقـمـة؛ ألا وهي استعداد أبناء الأمة لتمكين يد الماضي الميتة، من أن تقبض على أعناقهم، وتمسك بخناقهم، وأن تتحكم قيم هذا الماضي في حاضرهم ومستقبلهم، تحكماً ينفي حـقـهم في أن يفكروا لأنفسهم في أي أمـر من الأمور، وكأنما كل شيء قد قيل القول الفصل فيه منذ مئات السنين، ولم يعد أمامنا غير السمع والطاعة، والاتباع والانصياع. إثبات أية قضية من القضايا بات عندنا محصوراً في إثبات ورود رأي لأحـد المبرزين من أهل السلف بصددها، أو نفي ورود الرأي، ولا يكاد يخطر بـبـال أحد أن يعرض الحجج الموضوعية، التي تؤيد القضية أو تدحضها، وأن يعمل فيها فكره هو. المعرفة عندنا معشر المسلمين قائمة جاهزة كاملة بين أغلفة الكتب، وكلما كانت الكتب أقدم كانت المعارف أصح، والمعرفة عند الفرنجة هي استخدام الحروف في إماطة اللثام عن المجهول، وقد بدأت الحضارة الغربية الحديثة حين شرع فرانسيس بيكون يتشكك في النتائج، التي توصل إليها أرسطو «وكانت من المسلمات في القرون المظلمة»، فأصر على رفض المسلمات وإخضاع كل شيء للتجربة ولإعمال العقل والتفكير. كان المسلمون أولى بتبني هذا الموقف، إذ ليس ثمة كتاب مقدس هو أحفل من القرآن الكريم، بالآيات التي تحض الناس على النظر والتفكير وتحكيم العقل، والتي تشن هجوماً عنيفاً على تعلق الناس بالقيم والآراء والعقائد الموروثة عن الآباء، على رغم مناقضتها لكل منطق. فقوم النبي «ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل» «هود 109». غير أن عقائد الآباء ليـسـت صـائـبـة بالضرورة، «أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون» «البقرة 170». فإن كانت معتقداتهم فاسدة فلا ينبغي قبولها، «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكـفـر على الإيمان، ومن يـتـولـهـم منكم فـأولئك هم الظالمون» «التـوبـة 23». كـذلـك فـإن بمضي الأيام والعصور، وبنمو المعارف وتراكمها، قد يدرك الأبناء من الحـقـائـق مـا لم يكن للآباء والأجداد به علم. «یا أبت إني قـد جـاءني من العلـم مـا لـم يأتك فـاتـبـعني» «مریم 43». وإذ المرء بطبيعته عدو لما يجهل فالغالب أن يتشبث الآباء بمعتقداتهم البالية، «بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه» «يونس 39». هناك من الناس من للتـقـالـيـد على عقله وقلبه سلطان مبين، ويأبى قبول أية بدعة مستحدثة لمجرد أنها لا تتفق مع هذه التقاليد «ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين» «القصص 36». والتفكير هو واجبنا الأول، «وأنزلنا إليك الذكـر لـتبين للناس ما نزل إليـهـم ولعلهم يتفكرون» «النحل 44». «إن شـر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون» «الأنفال 22». وليكن شعارنا دائماً: «وقل رب زدني علماً» «طه 114». فإن طلع علينا قوم برأي جديد ناقشناه معهم بالمنطق، «قل هل عندكم من علم فـتـخـرجـوه لنا؟» «الأنعـام 148». أمـا الـجـدال عن غـيـر علـم ومنطق فمرفوض «وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم» «الأنعام 119». «ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق» «الرعد 37». 1996* * كاتب ودبلوماسي مصري «1932 - 2014»
مشاركة :