الذّات المُهمَّشة في رواية «حب في ضواحي العاصمة» للروائي العراقي حيدر الهاشمي

  • 8/20/2022
  • 01:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

بخطابٍ‭  ‬نابعٍ‭ ‬من‭ ‬الذّات‭ ‬المتشظّية‭ ‬المُصابة‭ ‬بالتشتت‭ ‬والضيّاع‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬مليءٍ‭ ‬بالتناقضات‭ ‬والصراعات‭ ‬النفسية‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬يكشف‭ ‬لنا‭ ‬البناء‭ ‬السرّدي‭ ‬للعمل‭ ‬الأدبي‭ ‬منذ‭ ‬بدايته‭ ‬عن‭ ‬مونولوج‭ ‬داخلي‭ ‬يتشّكل‭ ‬داخل‭ ‬النسيج‭ ‬الحكائي‭ ‬ويُسهم‭ ‬في‭ ‬حبْكة‭ ‬النّص‭ ‬وبيان‭ ‬احاسيس‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬والشخصيات‭ ‬الثانوية‭ ‬واظهار‭ ‬ملامح‭ ‬الشخصية‭ ‬وبيان‭ ‬صوت‭ ‬الذّوات‭ ‬الناطقة‭  ‬ويخلق‭ ‬حركة‭ ‬دينامية‭ ‬ومتعة‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الحركة‭ ‬السرّدية‭ (... ‬لا‭ ‬تحاسب‭ ‬ظلك‭ ‬حين‭ ‬يقدم‭ ‬لك‭ ‬النصيحة‭ ‬هو‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬إليك،‭ ‬لا‭ ‬تفاجأ‭ ‬حين‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬صمته،‭ ‬حين‭ ‬يصرخ‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الألم‭,‬‭ ‬وهو‭ ‬مثلك‭ ‬تماماً‭ ‬يكبر‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يشكو‭ ‬إليك‭ ‬كثيراً‭...) ‬بخطابٍ‭ ‬مونولوجٍ‭ ‬أسس‭ ‬الهاشمي‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬حب‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬العاصمة‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬من‭ ‬دار‭ ‬تموز‭- ‬دمشق‭ ‬في‭ ‬طبعتها‭ ‬الأولى‭ ‬لعام‭ ‬2017‭ ‬تضمنت‭ ‬107‭ ‬صفحات‭..‬ بعنونةٍ‭ ‬مغريَّةٍ‭ ‬تُجسد‭ ‬التأثير‭ ‬المباشرة‭ ‬على‭ ‬القارئ‭ ‬لما‭ ‬تتضمنه‭ ‬من‭ ‬إيحاءٍ‭ ‬ودلالةٍ‭ ‬وقد‭ ‬جاءت‭ ‬بجملةٍ‭ ‬اسميّةٍ‭ (‬حب‭ ‬مبتدأ‭ ‬وفي‭ ‬حرف‭ ‬جر‭ ‬وضواحي‭ ‬اسم‭ ‬مجرور‭ ‬وهو‭ ‬مضاف‭ ‬والعاصمة‭ ‬مضاف‭ ‬إليه‭ ‬مجرور‭ ‬وشبه‭ ‬الجملة‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬رفع‭ ‬خبر‭).. ‬ولم‭ ‬تكُ‭ ‬العنونة‭ ‬عبثية‭ ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬وفق‭ ‬اختيار‭ ‬دقيق‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬خيال‭ ‬الكاتب‭ ‬والثقافة‭ ‬الّتي‭ ‬يتمتع‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬عنونة‭ ‬تُمارس‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬تحريض‭ ‬وشحن‭ ‬المتلقي‭ ‬وإثارته‭ ‬لتُشَّكل‭ ‬عتبة‭ ‬رئيسية‭ ‬للتلقي‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬اعتباطية‭ ‬وإنمّا‭ (‬تؤطرّها‭ ‬خلفية‭ ‬ثقافية‭ ‬عامة‭ ‬تحدد‭ ‬قصديتها‭ ‬بمساعدة‭ ‬تجريبية‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬وظائفه‭ ‬والّتي‭ ‬تتكامل‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬تقضي‭ ‬بأن‭ ‬يحتفظ‭ ‬العنوان‭ ‬الرّوائي‭ ‬بمجموعها‭ ‬كما‭ ‬يحتفظ‭ ‬بوظائف‭ ‬أخرى‭ ‬تنبثق‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعدد‭ ‬القراءات‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬اعتبارها‭ ‬علامات‭ ‬بوليفونية‭ ‬لكونها‭ ‬ذات‭ ‬وظائف‭ ‬متعددة‭ ‬تصب‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬تحقيق‭ ‬الرومانيسك‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المتلقي‭) ‬1‭.‬ يشير‭ ‬غلاف‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬مدينةٍ‭ ‬قديمةٍ‭ ‬وقد‭ ‬حلَّ‭ ‬الليل‭ ‬عليها‭ ‬وأضواء‭ ‬على‭ ‬طريقٍ‭ ‬ضيقٍ‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬القارئ‭ ‬الاستدلال‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬وهذا‭ ‬يُدخل‭ ‬الفضول‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي‭ ‬ويخلق‭ ‬لديه‭ ‬عدة‭ ‬أسئلة‭  ‬واستنتاجات‭ ‬وتوقعات‭ ‬يحتفظ‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬خياله،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يتطابق‭ ‬هذا‭ ‬الانطباع‭ ‬الّذي‭ ‬تولد‭ ‬لدى‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬العنونة‭ ‬وغلاف‭ ‬الرواية‭ ‬مع‭ ‬مضمونها‭ ‬؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬ينتظره‭ ‬عند‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬النّص‭ ‬الأدبي‭ .‬ اعتمد‭ ‬الكاتب‭ ‬أسلوب‭ ‬مُغاير‭  ‬في‭ ‬بيان‭ ‬حركة‭ ‬الشخوص‭ ‬والحوارات‭ ‬المتبادلة‭ ‬الّتي‭ ‬يستطيع‭ ‬القارئ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬ملامح‭ ‬الشخصيات‭ ‬وأدوارهم‭ ‬وطبيعة‭ ‬أفكارهم‭ ‬وميّولهم‭ ‬ورغباتهم‭,‬‭ ‬إنمّا‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬المونولوج‭ ‬الداخلي‭ ‬للشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬بُنيّة‭ ‬نصيّة‭ ‬اساسية‭ ‬تؤطّر‭ ‬العمل‭ ‬الروائي‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬السرّد‭ ‬حتى‭ ‬نهايته‭ ‬بحوارٍ‭ ‬يكشف‭ ‬التأزم‭ ‬النفسي‭ ‬للشخصية‭ ‬والصراع‭ ‬الداخلي‭ ‬والغليان‭ ‬الفكري‭ ‬والرفض‭ ‬والاستهجان‭ ‬والنصح‭ ‬والارشاد‭ ‬ويطلق‭ ‬العنان‭ ‬للذات‭ ‬المشتتة‭   ‬لتتحدث‭ ‬عن‭ ‬احلامها‭ ‬وطموحاتها‭ ‬كما‭ ‬في‭ (‬أنت‭ ‬هشٌّ‭ ‬للغاية‭ ‬لدرجة‭ ‬أنك‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬أغنية‭ ‬لوردة‭ ‬أو‭ ‬للسيدة‭ ‬تنكسر‭ ‬كقلم‭ ‬رصاص‭ ‬وتتبخر‭ ‬مثل‭ ‬غيمة‭ ‬صيف‭..) ‬ص14‭.‬ كما‭ ‬لجأ‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬الوصفِ‭ ‬بلغةٍ‭ ‬شعريَّةٍ‭ ‬لإبطاء‭ ‬حركة‭ ‬السرّد‭ ‬وادخال‭ ‬المتعة‭ ‬لدى‭ ‬القارئ‭ ‬بعباراتٍ‭ ‬تبعد‭ ‬الملل‭ ‬والنفور‭ ‬في‭ ‬الاسترسال‭ ‬بمتابعة‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭ ‬مما‭ ‬تُساهم‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬الدلالات‭ ‬والتكثيف‭ ‬والاختزال‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬تسلسل‭ ‬الاحداث‭ (... ‬أراها‭ ‬كالقمر‭ ‬الفضي‭ ‬الذي‭ ‬يلألئ‭ ‬في‭ ‬الماء،‭ ‬كلما‭ ‬حركت‭ ‬الإوزة‭ ‬جناحها‭ ‬أحدثت‭ ‬اضطراب‭ ‬في‭ ‬سكون‭ ‬البركة‭) ‬ص76‭.‬ كشف‭ ‬لنا‭ ‬النّص‭ ‬الأدبي‭ ‬عن‭ ‬مخبوء‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وأحاسيسها‭ ‬ومشاعرها‭ ‬وميولها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشتت‭ ‬الّذات‭ ‬المُعذبة‭ ‬وغليانها‭ ‬العاطفي‭ ‬والنكبات‭ ‬الّتي‭ ‬لا‭ ‬حقت‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬والّتي‭ ‬احتاجت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الضخّ‭  ‬في‭ ‬التوضيح‭ ‬ونقل‭ ‬الانفعالات‭ ‬والاضطرابات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتغير‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬وبذلك‭ ‬استطاع‭ ‬الكاتب‭ ‬ببراعةٍ‭ ‬فنيّةٍ‭ ‬أن‭ ‬يُجسد‭ ‬دور‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬التحدث‭ ‬مع‭ ‬نفسها‭ ‬واخراج‭ ‬المكبوت‭ ‬والمخفي‭ ‬بأسلوبٍ‭ ‬رائعٍ‭ ‬ولغوي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬الوصف‭ ‬الدقيق‭ ‬وتتابع‭ ‬السرّد‭ ‬الّذي‭ ‬يُعْد‭ (‬الهيئة‭ ‬التي‭ ‬يبني‭ ‬عليها‭ ‬قص‭ ‬الأحداث‭ ‬مثل‭: ‬زاوية‭ ‬الرؤية‭ ‬وطرق‭ ‬التقديم‭ ‬أو‭ ‬الاستحضار‭ ‬والأصوات‭ ‬السرّدية‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭) ‬2‭.‬ يتساءل‭ ‬القارئ‭ ‬لماذا‭ ‬وضع‭ ‬الكاتب‭ ‬عنونة‭ ‬فرعية‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬كل‭ ‬فصل؟‭ ‬وهل‭ ‬كشفت‭ ‬العنونة‭ ‬الفرعية‭ ‬مضمون‭ ‬الفصل؟‭ ‬أم‭ ‬بقي‭ ‬النّص‭ ‬الأدبي‭ ‬غامضاً‭ ‬وعصياً‭ ‬على‭ ‬القارئ؟‭ ‬جاءت‭ ‬العنونة‭ ‬الفرعية‭ ‬غير‭ ‬موحيّة‭ ‬لمحتوى‭ ‬الفصل‭ ‬ولكن‭ ‬كان‭ ‬الأجدر‭ ‬بالكاتب‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬تسلسل‭ ‬رقمي‭ ‬بدل‭ ‬العنونة‭ ‬الفرعية‭ ‬ليعطي‭ ‬للقارئ‭ ‬فرصة‭ ‬كشف‭ ‬المحتوى‭ ‬بنفسه‭ ‬وإشراكه‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬الغموض‭ ‬ومتابعة‭ ‬السرّد‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬دليل‭ .‬ يجد‭ ‬القارئ‭ ‬نفسه‭ ‬عند‭ ‬متابعة‭ ‬حركة‭ ‬السرّد‭ ‬والأصوات‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬أنه‭ ‬داخل‭ ‬فكرها‭ ‬ووجدانها‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬تقلبات‭ ‬نفسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬بحديث‭ ‬مونولوج‭ ‬داخلي‭ ‬يزامن‭ ‬بين‭ ‬الأحداث‭ ‬الجارية‭ ‬والماضية‭ ‬الذي‭ ‬يعشعش‭ ‬في‭ ‬كيانها‭ ‬وبين‭ ‬كلامها‭ ‬وبوحها‭ ‬الداخلي‭ ‬كما‭ ‬في‭ (‬حسناً‭ ‬سأرحل،‭ ‬لكن‭ ‬لي‭ ‬طلب‭ ‬أخير،‭ ‬قف‭ ‬صامداً‭ ‬لا‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬نفسك‭ ‬متسولاً،‭ ‬لا‭ ‬تنظر‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬المارة،‭ ‬لا‭ ‬تحدق‭ ‬بهم‭ ‬طويلاً،‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬تحبس‭ ‬هذا‭ ‬الحزن‭ ‬في‭ ‬داخلك‭ ‬في‭ ‬داخلك‭ ‬فقط،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬هزني‭ ‬صوتاً‭ ‬يناديني‭ ‬باسمي‭ ‬من‭ ‬الخلف،‭ ‬ليس‭ ‬غريب‭ ‬عن‭ ‬مسامعي،‭ ‬أنه‭ ‬حرك‭ ‬كل‭ ‬الاشياء‭ ‬الساكنة‭ ‬في‭ ‬داخلي‭...) ‬ص62‭.‬ قدم‭ ‬لنا‭ ‬الكاتب‭ ‬بأسلوب‭ ‬وبصمةٍ‭ ‬خاصةٍ‭ ‬سرداً‭ ‬يتعالى‭ ‬فيه‭ ‬المونولوج‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬المعذبة،‭ ‬مونولوج‭ ‬العواطف‭ ‬والاحاسيس‭ ‬الّذي‭ ‬يحتاج‭ ‬جهداً‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬وضخ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالشخصية‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬وميول‭ ‬ورغبات‭ ‬وطموحات‭ ‬تنحصر‭ ‬وتنطلق‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬المنفردة‭ ‬وأصوات‭ ‬تتعالى‭ ‬من‭ ‬متكلم‭ ‬داخلي‭ .‬   المصادر 1-شعيب‭ ‬خليفي،‭ ‬هوية‭ ‬العلامات‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬العتبات‭ ‬وبناء‭ ‬التأويل،‭ ‬دار‭ ‬الثقافة‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع،‭ ‬ط1،‭ ‬يناير‭ ‬2005،‭ ‬الدار‭ ‬البيضاء،‭ ‬المغرب،‭ ‬ص37‭.‬ 2-د‭. ‬عبد‭ ‬الرحيم‭ ‬الكردي‭: ‬السرد‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬المعاصرة‭( ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬ظله‭ ‬نموذجاً‭) ‬دار‭ ‬الثقافة‭ ‬للطباعة‭ ‬والنشر،‭ ‬القاهرة،‭ ‬1992،‭ ‬ص61‭.‬

مشاركة :