بخطابٍ نابعٍ من الذّات المتشظّية المُصابة بالتشتت والضيّاع في عالمٍ مليءٍ بالتناقضات والصراعات النفسية بين الماضي والحاضر يكشف لنا البناء السرّدي للعمل الأدبي منذ بدايته عن مونولوج داخلي يتشّكل داخل النسيج الحكائي ويُسهم في حبْكة النّص وبيان احاسيس الشخصية الرئيسة والشخصيات الثانوية واظهار ملامح الشخصية وبيان صوت الذّوات الناطقة ويخلق حركة دينامية ومتعة في متابعة الحركة السرّدية (... لا تحاسب ظلك حين يقدم لك النصيحة هو أقرب الناس إليك، لا تفاجأ حين يخرج من صمته، حين يصرخ من شدة الألم, وهو مثلك تماماً يكبر لكنه لا يشكو إليك كثيراً...) بخطابٍ مونولوجٍ أسس الهاشمي روايته «حب في ضواحي العاصمة» الصادرة من دار تموز- دمشق في طبعتها الأولى لعام 2017 تضمنت 107 صفحات.. بعنونةٍ مغريَّةٍ تُجسد التأثير المباشرة على القارئ لما تتضمنه من إيحاءٍ ودلالةٍ وقد جاءت بجملةٍ اسميّةٍ (حب مبتدأ وفي حرف جر وضواحي اسم مجرور وهو مضاف والعاصمة مضاف إليه مجرور وشبه الجملة في محل رفع خبر).. ولم تكُ العنونة عبثية وإنما كانت وفق اختيار دقيق يعتمد على خيال الكاتب والثقافة الّتي يتمتع بها في خلق عنونة تُمارس دورها في تحريض وشحن المتلقي وإثارته لتُشَّكل عتبة رئيسية للتلقي وهي ليست اعتباطية وإنمّا (تؤطرّها خلفية ثقافية عامة تحدد قصديتها بمساعدة تجريبية تكمن في وظائفه والّتي تتكامل فيما بينها تقضي بأن يحتفظ العنوان الرّوائي بمجموعها كما يحتفظ بوظائف أخرى تنبثق من خلال تعدد القراءات ومن ثم اعتبارها علامات بوليفونية لكونها ذات وظائف متعددة تصب في وظيفة تحقيق الرومانيسك في نفس المتلقي) 1. يشير غلاف الرواية إلى مدينةٍ قديمةٍ وقد حلَّ الليل عليها وأضواء على طريقٍ ضيقٍ لا يستطيع القارئ الاستدلال على شيء من خلالها وهذا يُدخل الفضول لدى المتلقي ويخلق لديه عدة أسئلة واستنتاجات وتوقعات يحتفظ بها في خياله، ولكن هل يتطابق هذا الانطباع الّذي تولد لدى القارئ من العنونة وغلاف الرواية مع مضمونها ؟ هذا ما ينتظره عند الولوج إلى أعماق النّص الأدبي . اعتمد الكاتب أسلوب مُغاير في بيان حركة الشخوص والحوارات المتبادلة الّتي يستطيع القارئ من خلالها التعرف على ملامح الشخصيات وأدوارهم وطبيعة أفكارهم وميّولهم ورغباتهم, إنمّا اتخذ من حضور المونولوج الداخلي للشخصية الرئيسة بُنيّة نصيّة اساسية تؤطّر العمل الروائي من بداية السرّد حتى نهايته بحوارٍ يكشف التأزم النفسي للشخصية والصراع الداخلي والغليان الفكري والرفض والاستهجان والنصح والارشاد ويطلق العنان للذات المشتتة لتتحدث عن احلامها وطموحاتها كما في (أنت هشٌّ للغاية لدرجة أنك كلما سمعت أغنية لوردة أو للسيدة تنكسر كقلم رصاص وتتبخر مثل غيمة صيف..) ص14. كما لجأ الكاتب إلى الوصفِ بلغةٍ شعريَّةٍ لإبطاء حركة السرّد وادخال المتعة لدى القارئ بعباراتٍ تبعد الملل والنفور في الاسترسال بمتابعة أحداث الرواية مما تُساهم في تعدد الدلالات والتكثيف والاختزال في بنية تسلسل الاحداث (... أراها كالقمر الفضي الذي يلألئ في الماء، كلما حركت الإوزة جناحها أحدثت اضطراب في سكون البركة) ص76. كشف لنا النّص الأدبي عن مخبوء النفس البشرية وأحاسيسها ومشاعرها وميولها من خلال تشتت الّذات المُعذبة وغليانها العاطفي والنكبات الّتي لا حقت الشخصية الرئيسة والّتي احتاجت الكثير من الضخّ في التوضيح ونقل الانفعالات والاضطرابات التي كانت تتغير من موقف إلى آخر وبذلك استطاع الكاتب ببراعةٍ فنيّةٍ أن يُجسد دور الشخصية في التحدث مع نفسها واخراج المكبوت والمخفي بأسلوبٍ رائعٍ ولغوي يتمثل في الوصف الدقيق وتتابع السرّد الّذي يُعْد (الهيئة التي يبني عليها قص الأحداث مثل: زاوية الرؤية وطرق التقديم أو الاستحضار والأصوات السرّدية وغير ذلك) 2. يتساءل القارئ لماذا وضع الكاتب عنونة فرعية في بداية كل فصل؟ وهل كشفت العنونة الفرعية مضمون الفصل؟ أم بقي النّص الأدبي غامضاً وعصياً على القارئ؟ جاءت العنونة الفرعية غير موحيّة لمحتوى الفصل ولكن كان الأجدر بالكاتب أن يضع تسلسل رقمي بدل العنونة الفرعية ليعطي للقارئ فرصة كشف المحتوى بنفسه وإشراكه في فك الغموض ومتابعة السرّد دون أي دليل . يجد القارئ نفسه عند متابعة حركة السرّد والأصوات النابعة من داخل الشخصية الرئيسة أنه داخل فكرها ووجدانها وكل ما يحدث لها من تقلبات نفسية واجتماعية بحديث مونولوج داخلي يزامن بين الأحداث الجارية والماضية الذي يعشعش في كيانها وبين كلامها وبوحها الداخلي كما في (حسناً سأرحل، لكن لي طلب أخير، قف صامداً لا تجعل من نفسك متسولاً، لا تنظر في وجه المارة، لا تحدق بهم طويلاً، حاول أن تحبس هذا الحزن في داخلك في داخلك فقط، في هذه اللحظات هزني صوتاً يناديني باسمي من الخلف، ليس غريب عن مسامعي، أنه حرك كل الاشياء الساكنة في داخلي...) ص62. قدم لنا الكاتب بأسلوب وبصمةٍ خاصةٍ سرداً يتعالى فيه المونولوج النابعة من الذات المعذبة، مونولوج العواطف والاحاسيس الّذي يحتاج جهداً كبير في بيان وضخ كل ما يتعلق بالشخصية من مشاعر وميول ورغبات وطموحات تنحصر وتنطلق من الذات المنفردة وأصوات تتعالى من متكلم داخلي . المصادر 1-شعيب خليفي، هوية العلامات في بناء العتبات وبناء التأويل، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ط1، يناير 2005، الدار البيضاء، المغرب، ص37. 2-د. عبد الرحيم الكردي: السرد في الرواية المعاصرة( الرجل الذي فقد ظله نموذجاً) دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1992، ص61.
مشاركة :