كانت مدينة القاهرة موقع الكثير من الأفلام منذ بداية السينما المصرية ومثلت أحياؤها وفراغاتها مادة ثرية لتصوير الحياة الحضرية وتغيراتها في مصر خلال ما يقرب من قرن من الزمن. ويمكن استخدام العلاقة بين السينما والمدينة لفهم الكثير مما يحدث في القاهرة ولاسيما عمرانها، وهذا ما تطرحه هبة صفي الدين و نزار الصيّاد في كتابهما “القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع”. يقدم كتاب “القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع” تاريخًا لحداثة مدينة القاهرة معتمدًا على الشريط السينمائي كأداة تحليلية وكموضوع للنقد يربط بين المشهد المكاني في المدينة المادية والمدينة المصورة المتخيلة كما ظهرت في بعض الأفلام السينمائية، وأيضا كيف كان الشريط السينمائي وسيطا لهذا المشروع. الكتاب الذي حرره وشارك فيه الأكاديميان نزار الصيّاد أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران في جامعة كاليفورنيا وهبة صفي الدين أستاذة الهندسة المعمارية والتصميم الحضري في جامعة مصر الدولية، يجمع بين فصوله إسهامات لنخبة من المعماريين والمخططين ومؤرخي الفن والأدب، للتنقيب عن هذه العلاقة المتوازية والمتداخلة بين السينما والمدينة من خلال قسمين. السينما والمدينة يسرد نزار الصيّاد في مقدمته للكتاب، الصادر عن دار المرايا، انطلاقة الفكرة لافتا إلى أن الكتاب نتاج الصدفة، يقول “في زيارة للقاهرة عام 2018 كنت ألقي محاضرة بمناسبة ترجمة كتابي ‘القاهرة: تواريخ مدينة‘ والذي نشره المركز القومي للترجمة، وتعرفت على الدكتورة هبة صفي الدين، وهي مهندسة معمارية وأستاذة عمارة تدير عددا من المراكز والبرامج الثقافية بالقاهرة، عندما اكتشفنا أننا نشترك في العديد من الاهتمامات، وقد دعتني بعد ذلك في زيارتي التالية إلى إلقاء محاضرة حول كتابي ‘المدن السينمائية: من الخيال إلى الواقع‘، ورغم أن موضوع المحاضرة تضمن عرضا لكيفية تمثيل مدن مثل نيويورك وباريس في السينما، ولم يشمل القاهرة أو أي مدينة عربية أخرى، إلا أن المحاضرة حظيت بحضور جيد من جمهور المهندسين المعماريين والمخططين والمصورين، الذين كانوا حريصين على المشاركة في الحوار”. ويضيف “وقد أدت اللقاءات مع هذه المجموعة من الباحثين الشباب إلى إنشاء مجموعة عمل ‘القاهرة السينمائية‘ بدايات عام 2018. امتدت اجتماعات المجموعة بانتظام منذ ذلك الحين وحتى عام 2020 وخلال تلك الفترة تمكنا من توضيح الفترات الزمنية والموضوعات والأفلام التي تصور تحولات الحداثة في مصر والقاهرة بصفة خاصة من خلال الأفلام، وعندما طرحنا الفكرة على دار نشر الجامعة الأميركية، حصلنا على عقد نشره بالإنجليزية، إلا أننا قررنا في نفس الوقت التعاقد مع دار المرايا لنشره كذلك بالعربية”. ويشير الصيّاد إلى أن “العلاقة بين السينما والمدينة وثيقة يمتد عمرها إلى ما يزيد على قرن من الزمن، وهي علاقة يمكن استخدامها حتى نفهم الكثير مما يحدث في المدينة، لاسيما عمرانها. ونحن هنا لسنا بصدد كتاب عن تاريخ الأفلام المصرية وظهور القاهرة فيها، بغض النظر عن أهمية هذه الأفلام في تحليلنا العمراني، ولا يتعرض الكتاب أيضا لدراسة النسيج العمراني المادي أو الحقيقي للقاهرة كمدينة، فبدلا من ذلك سوف نستعمل الأفلام التي نسميها الأفلام القاهرية، كمادة خام لرواية التاريخ البديل للقاهرة المخيلة”. ويؤكد أن “إنتاج السينما المصرية واحد من أقدم الإنتاجات السينمائية في العالم، وقد استمرت كقطاع نشيط طوال القرن العشرين. لم تكن الأفلام التي أنتجت مجرد أعمال ترفيهية للشعب المصري، بل كانت أيضا أداة ساعدت على تكوين صورة القاهرة الحالية والتعبير عنها. كانت الأفلام المصرية على وجه الخصوص هي الوسيلة التي وثقت، وعكست التفاعل البشري في المدينة بطريقة لم تستطع التقاطها أي وسائل أخرى، على سبيل المثال: الإذاعة، أو الرسم أو حتى التصوير الفوتوغرافي”. ويوضح “ربما تكون أصوات وصور المدينة الموجودتان في الأفلام قد صارتا في متناول الناس في جميع أنحاء العالم، بما يسمح بالإحساس بهما ومعايشتهما، مع أن أولئك الأفراد ربما لم يتسن لهم زيارة المدينة أبدا من قبل، إذ تجسد الأفلام عقلية المجتمع، وتكشف الكثير عن حياته المعلنة والباطنة. تؤثر الأفلام على الطريقة التي نتخيل بها صور العالم، وبالتالي وفي الكثير من الحالات على الطريقة التي نتعامل بها داخله، وقد درست المدينة في فروع العلم المختلفة من تاريخ وجغرافيا واجتماع وأدب وغيرها، ولكن تبقى العلاقة بين المدينة الحقيقية والمدينة المتخيلة علاقة غير مباشرة ومعقدة، إذ أن المدينة في عصر العولمة لا يمكن فهمها بشكل مستقل عن تمثيلها في عالم المحاكاة بما في ذلك في التليفزيون والسينما”. ويحتوي الكتاب على قسمين في كل منهما سبعة فصول، يتضمن القسم الأول فصولا مرتبة ترتيبا زمنيا، يحتوي على نقد وتحليل أفلام من ثلاثينات القرن الماضي وحتى نهاية القرن، لتوضيح تطور القاهرة السينمائية وحداثتها، بينما يركز القسم الثاني على تتبع المدينة السينمائية في ظل ظروف الاقتصاد النيوليبرالي الجديد وانتشار الأصولية الدينية، والتوترات الطبقية والجندرية من منتصف القرن العشرين وحتى العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين. يبدأ القسم الأول بفصل للباحث أمير عبدالرحمن سعد المعنون بـ”القاهرة البرجوازية 1939: التمثيل السينمائي لمدينة الطبقة الوسطى”، ويحاول فيه توضيح نوعية الحداثة الحضرية المصرية في هذه الفترة المبكرة باستخدام أفلام: “الوردة البيضاء” 1933، و”ياقوت” 1934، و”العزيمة” 1939. وذلك بهدف استكشاف مفهوم الشعور بالمكان في القاهرة البرجوازية في الثلاثينات وعلى وجه الخصوص، يدرس سعد كيف أثر التناقض الناشئ بين حداثة الجزء الغربي من المدنية بأحيائه البرجوازية، وبين أقسامها الشرقية الأكثر تقليدية. يظهر سعد كيف غيرت الحداثة الشخصية والمكانة الاجتماعية سلوك الطبقة الوسطى كما يتضح من دراسة موقفها في الأفلام الثلاثة. كان الصراع بين الطبقات وجها آخر من وجوه الحداثة التي تم تمثيلها في الفضاء السينمائي، ولم تكن هذه الصراعات تتعلق فقط بالمصالح الشخصية، ولكنها كانت أيضا وسيلة لمقاومة التغييرات التي أحدثتها الحداثة. ويبين أن الخلاف بين الذين يتطلعون إلى التطور وبين الذين يرفضونه، موجود في كل الطبقة الوسطى والنخب، ويجادل أنه مع تصاعد المنافسة اشتد الصراع من أجل الانتصار للنوازع الفردية وغذى الهشاشة الاجتماعية لتحل محل التضامن الاجتماعي التقليدي. أظهرت الأفلام أن التحول إلى البرجوازية الحديثة منح رجال الطبقة الوسطى فرصا للحراك الاقتصادي وصعود السلم الاجتماعي، رغم أن هذا كان يتحقق عادة من خلال الشراكة مع نخب الطبقة العليا. “قاهرة نجيب محفوظ: تصورات التغيير والحداثة في مصر في القرن العشرين” عنوان الفصل الثاني المشترك بين الأكاديميين نزار الصياد ومحمد سلامة، ويرصد تحول القاهرة عمرانيا واجتماعيا على مدار القرن العشرين، كما يظهر في ستة أفلام مهمة مستوحاة من روايات نجيب محفوظ. يناقش الباحثان “زقاق المدن” 1963 الذي يستند إلى قصة محفوظ عن حي فقير في القاهرة خلال الحكم الملكي. ورواية القاهرة الجديدة في فيلم “القاهرة 30” 1966، وكيف شكل فساد النظام وقتئذ الحياة الاجتماعية للمدينة. ثم ينتقلان بعد ذلك إلى الفترة ما بين ثورة 1919 وأواخر الأربعينات، سعيا وراء تصوير جديد للتقاليد والحداثة كما ترى من خلال عدسة الأفلام التي تستند إلى ثلاثية محفوظ المكونة من “بين القصرين” 1964، و”قصر الشوق” 1967 و”السكرية” 1969، فالأفلام الثلاثة تصف حياة عائلة تاجر من الطبقة المتوسطة في المدينة، تصور الطبيعة المتغيرة للتجارة والترفيه في ظل الحكم الاستعماري طوال فترة النضال من أجل الاستقلال. ويختم الباحثان بفحص رواية أخرى لمحفوظ تم تحويلها إلى فيلم مهم وهو “ثرثرة فوق النيل” 1971 الذي يلتقط حالة مزاجية حزينة في القاهرة بعد هزيمة مصر في حرب الأيام الستة، ويصور الفيلم المشاعر والتفاعلات بين مجموعة من الناس، ينتمي أفرادها إلى مختلف الطبقات والأحياء في ظل العصر الاشتراكي، مما يبرر تعدد أشكال الحداثة القاهرية في تلك الفترة. وتحلل الباحثة كندة السمارة في دراستها “قاهرة الجمهورية العربية المتحدة السينمائية 1958 ـ 1962” ثلاثة أفلام هي الفيلم الكوميدي “إسماعيل ياسين في دمشق” 1958، والفيلم الوطني “عمالقة البحار” 1960 والفيلم الرومانسي “سنوات الحب” 1963، لاستكشاف تأثير الأفلام في تشكيل الوعي السياسي، من خلال المقارنة بين الفترتين قبل وبعد الوحدة بين مصر وسوريا وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة، حيث عكست الأفلام الثلاثة روحا وطنيا جديدة. وترى أن منتجي هذه الأفلام ترجموا إدراكهم للوقائع والأحداث التي شهدوها والتي أثرت بدورها عليهم في اللغة السينمائية، ومع ذلك تعتقد أنه خلال فترة ما بعد الاتحاد حاول منتجو الأفلام الكشف عن مدى تزوير الواقع في الكثير من الأحيان. ويتضح من هذه الأفلام كيف أن التمثيل السينمائي للقاهرة من حيث تقدمها النسبي مقارنة بالمدن العربية الأخرى في ذلك الوقت، قد ساعد في خلق صورة مهيمنة عبر جميع أشكال الفن والثقافة في العالم العربي. ويتوقف الباحث أحمد عبدالعظيم في دراسته “حداثة معادية: القاهرة في الثمانينات وأزمة الطبقة الوسطى” مع فيلمي “الحب فوق هضبة الهرم”، و”كركون في الشارع” اللذين تم إنتاجهما في منتصف الثمانينات، محللا أثر الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية نتيجة الهجرة من الريف إلى القاهرة في تلك الفترة الزمنية، ومتتبعا عملية تشكيل بنية اجتماعية وظهور طبقة من الأثرياء الجدد بعد إعادة الهيكلة الاقتصادية، جراء سياسة الانفتاح في أواخر السبعينات. أجبرت الظروف المعيشية السيئة المتخصصين من المتعلمين والعمال المهرة على البحث عن حياة أفضل في دول الخليج المزدهرة اقتصاديا، مما أدى إلى تحول ديمغرافي في القاهرة، وأزمة إسكان كبرى خاصة بالنسبة إلى الطبقة الوسطى. ومن خلال توظيف فيلمين من النوع الواقعي هما “خرج ولم يعد” 1984 و”هنا القاهرة” 1985 تكشف الباحثة تيسير خيري في دراستها “الهروب من القاهرة: بيروقراطية الحداثة في التصوير السنمائي في الثمانينات” كيف أصبحت الحياة في المدنية الكبيرة مرهقة وصعبة بشكل لا يطاق، فالمدينة كما هي ممثلة في الفيلمين، تظهر بشكل مشوه بسبب تبني الاقتصاد الليبرالي الجديد، كما تبدو الحياة اليومية لسكان القاهرة خالية من أي وسائل الراحة أو أي مميزات للحضر والعمران. وتشير خيري إلى أن حداثة القاهرة في ذلك الوقت تأثرت إلى حد كبير ببيروقراطية الدولة، مما أدى إلى إصابة بعض المواطنين بأزمات نفسية حادة، وأن الحلول المتبقية التي يمكن تطبيقها للتعامل مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية القمعية والمتغيرة باستمرار هي: إما الهروب إلى الريف، أو الهجرة إلى الخارج وترك الوطن. وتحلل الباحثة مريم مرعي في دراستها “القاهرة من خلف عجلة القيادة: من واقعية الحداثة إلى سريالية ما بعد الحداثة”، كيف تغيرت الظروف المختلفة التي لازمت الثمانينات بحلول منتصف التسعينات من منظور سائق السيارة أو الأتوبيس الذي يرى المدينة من خلف عجلة القيادة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. استخدمت مرعي فيلمين هما “سواق الأتوبيس” 1982، و”عفاريت الأسفلت” 1996، كي تظهر التغيرات الاجتماعية والعمرانية التي حدثت في القاهرة ومصر بصفة عامة خلال تلك الفترة مما أدى إلى إحساس سكان المدينة بالضياع. وترى مرعي أن هذه الأفلام حاولت تصوير الصراع الأخلاقي، ما بين السلوك الملتزم والسلوك المنحرف، وخاصة الأشكال والتصرفات التي ظهرت نتيجة لسياسة الانفتاح التي طبقت آنذاك، ولكن بحلول التسعينات ترى أن النتيجة كانت هروبا من الواقع الحضري الصعب إلى عالم خيالي انطوائي تصفه بـ”سيريالية ما بعد الحداثة”. تشوه المدينة ◙ كشف لخفايا المجتمع منذ مطلع القرن العشرين ◙ كشف لخفايا المجتمع منذ مطلع القرن العشرين في القسم الثاني من الكتاب توضح الباحثة فرح الجندي في دراستها “حداثة مصر الجديدة: التحولات في التمثيل السينمائي لإحدى ضواحي القاهرة في أواخر القرن العشرين” كيف تغيرت الحداثة الحضرية في مصر الجديدة على مدى ثلاثة عقود، باستخدام ثلاثة أفلام هي: “أرض الأحلام” 1993، و”شارع مصر الجديدة” 2007، و”هليوبوليس” 2010، حيث تظهر هذه الأفلام التغير الحضاري الذي حول ضاحية مصر الجديدة التي كانت تعتبر مدينة الحدائق أو الواحة في الصحراء عند إنشائها إلى حي مزدحم وجزء من مدينة كبيرة. ومن خلال تشريح استهلاك واستنساخ الفضاء الحضري في الأفلام الثلاثة تبين الجندي التصور المتغير لهذه الضاحية من خلال عيون سكانها. أصبح محتوى هذه الدراسة مهما في الفترة الحالية، حيث بدأت الحكومة في بناء الجسور والكباري في مصر الجديدة مما غير الكثير من طابع هذا الحي الذي أصبح جزءا من التراث الحديث لمصر كلها. تتواصل دراسات الكتاب حيث تناقش الباحثة ميريت عزيز في دراستها “من الحارة إلى العمارة التحولات الاجتماعية في القاهرة السينمائية” الحراك الاجتماعي المتغير في تاريخ مصر من خلال تحليل فيلمي “شارع الحب” 1958 و”عمارة يعقوبيان” 2006، ويتناول الباحث خالد أدهم في دراسته “مقاهي القاهرة السينمائية: الحداثة والعمران والصورة المتغيرة للمدينة” فكرة أن الأفلام جزء لا يتجزأ من البيئة الحضرية”. السينما حاولت تصوير الصراع الأخلاقي والطبقي والجنسي والقضايا السياسية في المدينة التي جسدتها من كل الزوايا وتسلط الباحثة نور عادل في دراستها “دور المرأة في المتغير والحداثة الذكورية في القاهرة السينمائية” الضوء على قضايا العلاقات الاجتماعية في الخمسينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتحت عنوان “التسامح الديني في القاهرة السينمائية” تستعرض الباحثة هالة حسنين تاريخ القاهرة الطويل لتبين كيف كانت المدينة موطنا سمحا للجاليات الإسلامية والمسيحية واليهودية. وتناقش دراسة الباحث محمد عماد فتيحة “مدينة الألف مئذنة والمليون طبق صناعي: إشكالية الأخلاق والدين في القاهرة السينمائية” دور وهيمنة الدين في المدينة وصراع العلمانيين والإسلاميين وتوسعه حتى الوقت الحاضر. وفي الدراسة الأخيرة تتساءل كلّ من الدكتورة هبة صفي الدين وشيرين سليمان في دراستهما “حق المرأة في المدينة: الفقر في القاهرة السينمائية” عن وضع المرأة في الأحياء الشعبية الفقيرة من خلال السينما، حيث تعكس الأفلام الثلاثة “يوم حلو ويوم مر” 1988، و”خلطة فوزية” 2008 و”يوم للستات” 2016، التي تمتد على مدى ثلاثة عقود من حكم حسني مبارك، واقع المرأة العاملة في الأحياء الشعبية في المدينة.
مشاركة :