لا يمكن الاستخفاف بالخطوة التركية المتمثلة بإعادة العلاقات الكاملة مع إسرائيل. ترتدي هذه الخطوة أهمّية استثنائيّة، خصوصا في ظلّ الظروف التي تمرّ فيها المنطقة والعالم… في ضوء الحرب الأوكرانية من جهة واحتمال عقد صفقة أميركية - إيرانيّة من جهة أخرى. تحررت تركيا من عقد عدّة فجأة. تحرّرت، أوّل ما تحرّرت، من العقد التي تحكمّت بشخص رجب طيب أردوغان الذي أراد في مرحلة معيّنة لعب دور زعيم العالم الإسلامي والرجل القويّ في المنطقة… إلى أن اكتشف أن تركيا ليست سوى دولة من دول العالم الثالث وأنّ في استطاعتها أن تصبح دولة مزدهرة اقتصاديا في حال تخلت عن وهم العودة إلى أيام الدولة العثمانيّة. هذه مرحلة انتهت تماما لا يمكن لفكر الإخوان المسلمين، الذي وقع أردوغان في شراكه، إحياؤها. حررت حرب أوكرانيا الرئيس التركي من الضغط الروسي. بعد الحرب الأوكرانيّة التي مضت عليها ستة أشهر، صار فلاديمير بوتين في حاجة إلى رجب طيّب أردوغان وليس العكس وذلك بغية تفادي الوقوع كلّيا في الحضن الإيراني. هذا ما جعل الرئيس التركي أكثر مرونة وواقعيّة، خصوصا بعدما تصالح مع دول الخليج العربي كلّها بعدما كان حصر علاقاته بتلك المنطقة بما تقرّره له قطر من برامج وجداول عمل وأجندات. تركيا تعتمد إستراتيجيّة جديدة على الصعيد الإقليمي في ضوء حرب أوكرانيا واحتمال حصول الصفقة الأميركيّة – الإيرانيّة. جعلتها هذه الإستراتيجيّة تنسى مغامرة رجب طيّب أردوغان الذي أراد في العام 2010 فكّ الحصار عن قطاع غزّة لعلّ المكان الذي سيظهر فيه مدى تعقّل أردوغان، في حال حصوله، هو سوريا حيث حقّق المشروع التركي منذ العام 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبيّة السوريّة، الفشل تلو الآخر بعدما انتزعت إيران المبادرة وسارعت إلى الوقوف مع نظام أقلّوي في حرب مع شعبه. تجاهلت إيران وجود أكثريّة سنّية في سوريا وعملت على إحداث تغيير ديموغرافي عميق في البلد بعدما وجدت أمامها ضياعا تركيّا ليس بعده ضياع تعبّر عنه هذه الأيّام تصريحات لمسؤولين أتراك جعلت المعارضة السوريّة في حيرة من أمرها. يحتاج كلّ حرف من هذه التصريحات إلى توضيح كي يُفهم أن تركيا لم تتخل عمليّا عن الشعب السوري ولم يضق ذرعها بالسوريين الموجودين في أراضيها. في وقت تتحدث فيه تركيا عن عملية عسكريّة في الشمال السوري وفي وقت تسعى فيه إيران إلى التمدد في محيط حلب، يمكن للعلاقات بين تركيا وإسرائيل أن تزيد الضغوط على دمشق حيث النظام في وضع لا يحسد عليه في ظلّ تدهور معيشي لا سابق له في مناطق سيطرته. تستطيع تركيا الضغط اقتصاديا وعسكريا وزراعيا ومائيا في الداخل السوري في حال أراد ما يسمّى “محور الممانعة” إيذاء إسرائيل عن طريق استخدام الأراضي السوريّة. أكثر من ذلك، إنّ الوجود الإيراني المتزايد في الشمال السوري، تحديدا في حلب ومحيطها، سيكون تحت خطر ضربات إسرائيلية وتهديدات تنفّذ عبر أجواء تركيا. أمّا بالنسبة إلى الأكراد، وهو موضوع أساسي لتركيا، ربما يستطيع أردوغان تحييد الدعم الاميركي والإسرائيلي إلى هؤلاء أو تخفيفه. تعتمد تركيا إستراتيجيّة جديدة على الصعيد الإقليمي في ضوء حرب أوكرانيا واحتمال حصول الصفقة الأميركيّة – الإيرانيّة. جعلتها هذه الإستراتيجيّة تنسى مغامرة رجب طيّب أردوغان الذي أراد في العام 2010 فكّ الحصار عن قطاع غزّة. كان الفشل من نصيب تلك المغامرة التي كشفت أنّ الرئيس التركي كان يتمتع في تلك المرحلة بمقدار كبير من قصر النظر والمعرفة بموازين القوى في المنطقة والعالم. يمكن للإستراتيجيّة التركية الجديدة أن تساعد أردوغان وحزبه في الانتخابات المقبلة المتوقعة في السنة 2023. كذلك يمكن لعودة العلاقات الإسرائيلية – التركية أن يساعد حكومة الثنائي يائير لابيد – بني غانتس في الدولة العبرية. يحتاج هذا الثنائي إلى مقعدين إضافيين في انتخابات الكنيست المقررة في مطلع تشرين الثاني – نوفمبر المقبل كي يمنع بنيامين نتنياهو من العودة إلى موقع رئيس الوزراء. الأكيد أنّ الإدارة الأميركيّة الحالية تلعب دورا في دعم الثنائي لابيد - غانتس حيث تستطيع. يبدو أنّها ليست بعيدة عن التقارب الإسرائيلي - التركي. ما هو أكيد أكثر أنّ أردوغان نفسه بدأ يعي أنّ لا مفرّ من استرضاء الولايات المتحدة. تؤكّد ذلك زيارته إلى أوكرانيا حيث التقى الرئيس فولوديمير زيلينسكي بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. لم يأبه أردوغان برد فعل فلاديمير بوتين على لقائه مع عدوّه اللدود. يظهر ذلك مدى حاجة روسيا إلى تركيا في هذه الأيّام بالذات. عقد الاتفاق يعطي التحوّل في الموقف التركي فكرة عن العالم الجديد الذي يولد من رحم الحرب الأوكرانيّة. تشكّل تركيا ودورها جزءا من هذا العالم الجديد. إنّه تحوّل يدعو إلى التساؤل عن موقع تركيا في المنطقة وما إذا كانت قادرة على تحقيق مكاسب تؤدي إلى تحسين وضع أردوغان في الداخل. الجواب أن الكثير سيعتمد على ما إذا كان الرئيس التركي مستعدا للذهاب بعيدا في هذا التحوّل بعيدا عن أوهامه الشخصيّة ذات الطابع العثماني. هناك شبكة علاقات مهمّة إلى حدّ كبير تربط بين دول البحر المتوسط. تتضمن هذه الشبكة التعاون المصري - الإسرائيلي في مجال الغاز، كذلك خطوط الغاز التي ستربط المتوسط بأوروبا التي قررت دفع ثمن الاستغناء عن الغاز الروسي، مهما كلّف الأمر. وجد الرئيس التركي أنّه في حال كان يريد بالفعل أن تكون تركيا جزءا من العالم الجديد، الذي لا تكون فيه أوروبا تحت رحمة الغاز الروسي، ليس أمامها سوى التصالح مع محيطها، بما في ذلك إسرائيل. لكن هذه المصالحة ستبقى معزولة من دون المزيد من الخطوات التصالحية التركيّة تجاه قبرص واليونان من جهة ومن دون الكف عن لعب دور متذبذب في سوريا من جهة أخرى. يبدو أن روسيا، التي بدأت تأخذ علما بحجم فشلها الأوكراني، صارت تعي بأن عليها استرضاء تركيا في سوريا تحديدا حيث الاتجاه إلى تعديل اتفاق أضنة السوري - التركي لمصلحة أنقرة تفاديا لعملية عسكرية تركيّة كبيرة في الشمال السوري. يعني ذلك ولادة “أضنة – 2” بمباركة روسيا في عمق 35 كيلومترا داخل الأراضي السوريّة!
مشاركة :