الموسيقى والخراب جنبا الى جنب في 'عازف البيانو'

  • 8/22/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لا شيء يمكنُ التوسل به لإعادة الروح إلى الأنقاض سوى الموسيقى، لأنَّ الموسيقى كما قال شوبنهاور تعبرُ عن الإرادة الإنسانية دون وسائط، وترممُ الأرواح المُحطمة التي يخلفها جنوحُ دوافع لامنطقية لدى الإنسان. قبل أن يبدوَ الكلامُ مجرد دوران في حلقة مفرغةٍ، أو حرثٍ في تربة الأوهام الرخوة، فلا بدَّ من الإقرار بأنَّ الموسيقى لا توقف الحروب، ولا تؤجل الخراب، ولا تمنعُ تبعثرَ العمر في أيام رملية، كذلك الأمر بالنسبة لبقية الفنون الأخرى، فالتاريخُ معجون بالعنف والحربُ قابلته حسب تعبير ماركس. لكن ربما يكونُ الفنُ وبالأخص الموسيقى مواساةً لواقعٍ أجوف من المعنى، لذلك كلما تراكم الرمادُ من حريق الحروب وسادتِ الرهبةُ عقب الانهيارات الناشبة من نوائب الدهر،ِ تتحولُ الموسيقى إلى لغةٍ تنشدُ الطمأنينة والتصالح مع الأرض اليباب. والحال هذه كيفَ يعيشُ الفنانُ واقع الحرب ويمضي أيامهُ في أجواء ملبدةٍ بأخبار الموت، والجثثُ تزاحمُ خطوات المارة في الطريق؟ بالطبع لا يكونُ القدرُ مختلفاً من شخصُ إلى آخر تحت قبضة الحرب، والجميعُ محكومُ عليهم بالانتظار والترقب إلى أنْ يتنفسَ العالمُ من جديد خارج إرادة التدمير، لكن هل يُحتملُ أن تكسب الموسيقى المرءَ مناعة أمام مخالب الموت، وتضيقُ المسافة بينه وبين العدو؟ ما تضمهُ سيرةُ الموسيقي البولندي فلاديسلاف شبيلمان المنشورة بعنوان "عازف البيانو" ترجمها مهدي سليمان، يغطي تفاصيل ما عاشته مدينةُ وارسو التي اشتدتْ على مسرحها رحى الحرب، وكانت من العواصم التي اقتحمها الجيش النازي، وتحولت إلى ثكنة عسكرية غير أنْ ذلك ليس كل ما يذكرهُ المؤلفُ في نصه السيري، بل يتناولُ أيضاً بيئته العائلية وانفصاله عن أفراد أسرته بعد إحالتهم إلى المحرقة. ولا تغيبُ الموسيقى عن ذهن العازف الذي سيكون مطارداً مع تضييق الخناق على اليهود. وما أن يصدر قرار ينص على ذهاب الرجال المقيمين في وارشو إلى الشغل، حتى يساورُ فلاديسلاف القلقُ على مستقبله الموسيقى ماذا لو حلًّ الوهن العضلي على أصابعه، أو التهبت مفاصلها أو تعرضت لضربة؟ فذلك يعني أن حلمه سيكونُ في مهب الريح. التزامن بدأ شبيلمان مسيرته المهنية بوظيفة العازف متزامناً مع بداية الحرب، فكان يعزفُ في أحد المقاهي الواقع في قلب غيتو وارشو. ويكونُ شاهداً على عمليات التهريب التي تبدأُ في مدة ما بعد الظهر، وكان يطوى المسافة الفاصلة من البيت إلى المقهى الذى يمتهنُ فيه العزفَ، يشيرُ الراوي إلى أنَّ الأسر اليهودية التي كان يحاصرها الجدار، قد رزحت تحت وطأة الجوع والفقر، وافتقدت موارد الطعام، عدا الهبات التي يهربها البولنديون إلى الغيتو. وبالطبع هناك من يستفيدُ من استغلال هذه الظروف لتراكم مزيد من الرأسمال، إذ أدارَ أقطابُ التجارة عملية التهريب المنظمة، حسب رواية شبيلمان. وهذا ما يُفاقم من ظاهرة الشرخ الاجتماعي حين ينقسم الناسُ عامة بين طبقتين، الأولى ترفلُ في البذخ والأخرى تشقى في المسغبة. إذ عاينَ العازف هذا الواقع بنفسه وكان يرى يومياً الأثرياء اليهود وهم من مرتادي المقهى مُنعمين في الرفاهية، وفي الوقت نفسه كانت أصواتهم المُشتكية مسموعة من اليهود الأمريكيين، خصوصاً من رموزهم المؤثرة في عالم الصحافة والمال.. واستمرأ هؤلاء دور المتفرج على مأساة بني جلدتهم. والطريفُ هو ما يذكرهُ المؤلف عن تجاهل جمهور المقهى لعزفه الموسيقي، وكان في موقع التنافس مع ثرثرة الحضور، كلما علا صوت عزفه يرتفع صوت أحاديث الشلة، وفي إحدى المرات يُطلبُ منه التوقف عن العزف لأنَّ صوت الموسيقى يربكُ ضيفاً يريدُ تفحص عشرين دولارا ذهبية أخذها من أحد أصحابه. ما لبث شبيلمان أن انتقل إلى مقهى آخر في شارع سيينا، وهناك انفتحُ على نخبة المُثقفين اليهود، وأقام علاقات الصداقة مع بعض رواد المقهى وبالتالي قضى في رفقتهم أوقاتاً سعيدة. وكان يانوش كورشك الطبيب وكاتب قصص الأطفال من بين الأشخاص الذين ارتاح العازفُ لصداقتهم، إذ يصفهُ بأنه كان من ألطف الناس، كما أنَّ المغنية ماريا إيشين من الأسماء التي لفتت انتباهه في المكان الجديد، إذ يقولُ المؤلفُ إنَّ هذه الفنانة يتوقعُ منها أن تُنصبَ على منصة الشهرة والنجومية، لو لم يقدمْ الألمانُ على قتلها. لا يصرفُ الراوي عدسة سرده عن بؤس الحياة داخل الغيتو، لافتاً إلى أن الشتاء الممتد بين 1941-1942 كان قاسياً على المواطنين، الأمر الذي زاد من حدة المعاناة والقهر، غير أنَّ مقابل هذا الوضع المزري، شهدت حياةُ مضاربي الأسواق والطبقات المثقفة اليهودية ازدهاراً وسط أمواج من مظاهر المحن والبؤس. وكان القمل يدبُ في رغيف الخبز ويصل إلى طيات الصحف، عليه فإنَّ الوباء انتشر في الغيتو، وكان يحصدُ أرواح أعداد غفيرة من الأشخاص، وتفاقمَت الأزمة الصحية، لدرجة أنَّ كل ما فعله الفقراءُ هو التساؤل عن موعد موتهم، بينما بحثَ أبناءُ الطبقة الميسورة عن طريق للحصول على لقاح الدكتور فيغل، وكان عالماً مرموقاً، مثلَ الخير مقابل الشر الذي جسده هتلر. لم يأخذ شبيلمان اللقاح لأنَّه لم يمتلكْ سوى ما يوفرُ له نصف الجرعة من المصل في الحقيقة، ما أعجب العازف أن تكون له حظوة المناعة من الوباء دون أهله. طبعاً ما تأتي به أيامُ الحرب، ما هو إلا مزيد من مشاهد قاسية، ويضاعفُ التيفوسُ من حجمِ الكارثة، ويعمقُ هوةِ مُظلمةٍ يتهاوى فيها مصيرُ آلاف البشر، إذ يتم نزع الأثواب من جثث ضحايا العدوى حتى يستفيدُ منها الأحياء. يقولُ المؤلفُ إنَّ تراكم الجثث الملفوفة بالورق كان يصعّبُ عليه أمرُ العودة إلى البيت مساءً. النفق يتبدلُ التوقيتُ في الحرب، وما إنْ تشتعل شرارتُها حتى يسودُ التوتر في حركةِ الحياة اليومية، ويكون الاستقرار استثناءً ولن تعودُ الأولوية إلا لإيجاد مكانٍ أكثر أماناً. يستعيدُ فلاديسلاف شبيلمان تفاصيل ذاك الصباح الذي دقت فيه جلبة الانفجارات ناقوس الخطر في وارشو. فما كان من العازف إلا أن حثَّ الخطى نحو مبنى الإذاعة، حيث كان يعملُ فوجد حالةً من الفوضى في جدول البث، نتيجة توارد البيانات من الجبهة. يُذكر أنَّ المؤلف يفتحُ ممراتٍ في سيرته للحديث عن بعض الشخصيات التي تقاطعت خطواتهُ مع دروبهم. وبينما كان صوتُ المعركة لا يعلو عليه صوت، يلتقي المؤلفُ أورشتاين، فالأخيرُ بخلاف جميع الناس كان يحسبُ حياته لعقود مضت بالعزف المُصاحب على البيانو، ولم يمنعه انسياق المدينة إلى نفق الحرب القسرية من مواصلة العزف، وبدوره يشاركُه شبيلمان بإطلاق العنان للألحان المنبعثة من مفاتيح البيانو، وهكذا يستقبلُ كلا العازفين أول أيام الحرب. ويستحضرُ العازفُ خيبة أحد المذيعين الذين استدعوا إلى الحرب وقبل الالتحاق بوحدته، زار زملاءه في المحطة ببزته العسكرية متوقعاً أن مشهد وداعه يكون حميماً ومؤثراً، فإذا لكل واحدٍ منهم وضع يشغله عنه. فمن الطبيعي عندما يكون العدو على الأبواب أن يهتمَ الجميع بمتابعة الأخبار، إذ أن ما بثته الإذاعات عن إعلان فرنسا الحرب على ألمانيا، منحَ أملاً بتعثر الحملة النازية، لكن ذلك لم يكنْ إلا فجراً كاذباً، لأنَّ كل ما عُقِد عليه الأمل بأنَّه حصنُ منيعُ سقط أمام جيش هتلر. ومن المعلوم لو بلغ سيل الكارثة الزبى فإنَّ الحياة لا تخلو من الطرافة والمفارقات المثيرة، وما يسردهُ المؤلف عن قصة امرأة مسنةٍ حامت حولها شبهةُ التجسس للألمان ينزلُ ضمن لوحة الواقع المستوعبة للغرائبية، إذ دأبت الجارةُ المقيمة في الطابق الرابع على عزف لمدة ساعتين، ولم تكترث بالقصف وأثار هذا التصرفُ الغريب الريبةً، إلى أن اقتحمت مجموعة من النساء شقة السيدة العجوز وأنزلنها إلى الأسفل مقيدةً في أحد الأقبية وما يستغرقَ الأمرُ إلا ساعات حتى أصابت قذيفة شقتها، وبذلك  ما بدا في  الظاهر احتجازاً قد تحول إلى عملية إنقاذية. القيامة يدركُ المرءُ في زمن الحرب أن همومه الشخصية لا تنفصلُ عن المأساة التي يعاني منها غيرهُ في الواقع المنكوب لذا فإنَّ شيبلمان بموازاة روايته لمصير عائلته الذي ينتهي بالترحيل والصهر في المحرقة يجدُ متسعاً في سرده السيري لرصد الوقائع الموغلة في الإجرام والتوحش. بدءاً من مشاهدة رمي الجنود لرجل كسيح من شرفة شقته بالطابق الثالث لأنَّه لم ينهض واقفاً عندما داهموا المكان مروراً بإعدام بهوذا زوسكيند مع أفراد عائلته بمن فيهم ابنته البالغة من العمر ثلاث سنوات. وليس انتهاءً بمقتل الدكتور راشيجا الذي حضر لإجراء عملية صعبة لشخص مريض لكن يلقى حتفه على يد قوات أس.أس الألمانية، والأسوأ من ذلك هو القضاء على المريض المُخدر في مخدعه. لكن ما يؤثرُ أكثر هو قصة المرأة التي كانت قد اختبأت في أحد المباني وما أنْ تمرَّ عناصر الشرطة بالمكان حتى يبدأَ طفلها بالبكاء وهي من شدة خوفها تخنقه في حِجْرها مع أنَّ ذلك لم يجدِ نفعاً وانكشف أمر المخبأ. أما الأمُ لم تكفْ عن تردد السؤال «لماذا فعلتها؟» المهجور تتحولُ وارشو إلى مكان مهجور ولا يطوفُ في شوارع المدينة سوى الآليات العسكرية غير أنَّ العازف لم يكنْ أمامه اختيار سوى الحركة في هذا الفضاء الموبوء برائحة الموت، إذ أمضى أيامه الكالحة هارباً من مخبأ إلى آخر، وهو على هذه الحال كان سيناريو الانتحار حاضراً في ذهنه وهنا يذكرك بشخصية «جاكوب» في رواية «رقصة الوداع» لميلان كونديرا، إذ يشتركُ الاثنان في القناعة بضرورة إنهاء الحياة قبل الوقوع أسيراً بيد العدو. كما أنَّ استراتيجيته لمواجهة الإرهاق باستعادة المقطوعات الموسيقية التي قد عزفها مقطعاً إثر آخر متحصناً بذلك من الجنون والإرهاق، لا تختلفُ عن الآلية التي يعولُ عليها بطل رواية «لاعب الشطرنج» فالأخير أيضاً يفترضُ لعبة ذهنية في محتجزه وقايةً للجنون. ينجحُ شبيلمان في اكتساب الوقتِ إلى أنْ تلوحَ تباشير مرحلةٍ جديدةٍ تنتكسُ فيها قوات المحور. وبينما كان الألمان قاب قوسين أو أدنى من قرار الانسحاب من المدينة، فإذا بعازف البيانو الذي كان منكباً في بحثه عن فتات الأطعمة في أحد الأبنية المهجورة يصطدم بضابط ألماني ويبادرُ بالقول «افعل بي ما تشاء فلن أتزحزح من هنا» ومن خلال الحوار الذي يدور بين الاثنين يعرفُ الضابطُ أنَّ الهارب يحترف العزف على البيانو وما منه إلا ويقترحَ عليه عزف مقطوعة وبدوره يختار شبيلمان معزوفة حالمة على سلم «سي» الحاد لشوبان مع أنَّ أصابعه قد تيبست من الحرمان لكن طافت الألحان في أطلال المدينة . وبذلك يمتدُ حبل الود بين الطرفين إذ يزودُه الضابطُ بالمؤن والملبس غير أنَّ المعطف الألماني كاد أن يودي بحياة العازف عندما استعاد البولنديون زمام الأمور في العاصمة. يشار إلى أن المؤلف لا يتغافل عن دور اليهود المتواطئين مع الألمان في َسوقِ الناس إلى المحرقة والمُعتقلات. أخيراً بعد أن تضعَ الحرب أوزارها يكون البحثُ عن الضابط الألماني المستنير شغلاً شاغلاً للمؤلف، غير أنَّ هذا الألماني الذي لم يخسر حسه الإنساني ومذاقه الفني في الحرب يلفظ أنفاسه الأخيرة في المعتقلات السوفييتية. والسؤال الذي يراود الذهن وأنت تتابع فصول الكتاب هو لماذا تتكررُ الأخطاء الكارثية وأحيانا قد تكون من صنيع ضحايا الأمس؟

مشاركة :