استجابت دول خليجية إيجابيا لمؤشرات حسن النوايا التي أرسلتها إيران لجيرانها العرب من أجل الدخول في مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على الندية والاحترام المتبادل لمبادئ حسن الجوار التي ضربت بها طهران عرض الحائط طيلة العقود الماضية. وبرعت إيران في تأزيم علاقاتها بدول الخليج العربية طيلة عقود دعمت خلالها حركات تخريبية في اليمن والبحرين والعراق، وتعنتت في استكمال أنشطتها النووية المهددة للمنطقة برمتها. ووقفت السعودية، الطرف الإقليمي الأقوى، في وجه المخططات العدائية الإيرانية وقطعت علاقاتها مع طهران في كانون الثاني/ يناير 2016، إثر تعرض بعثاتها الدبلوماسية لاعتداءات من محتجين على إعدام الرياض رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر الموالي لإيران، بتهمة الضلوع في الإرهاب وإثارة الفتنة الطائفية. وتضامنت الإمارات والكويت والبحرين مع السعودية، فخفضت أبوظبي مستوى علاقاتها مع الجمهورية الإسلامية عقب تلك الحادثة مع استمرار الخلاف بين أبو ظبي وطهران حول جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي سيطرت عليها إيران بحكم الأمر الواقع بينما تطالب الإمارات بحقها في بسط سيادتها على تلك الجزر. ومنح البريطانيون إيران عام 1968 الجزر المطلة على مضيق هرمز الاستراتيجي، قبل انسحابهم من الإمارات العربية التي تعتبرها جزرا محتلة من الجانب الإيراني. وقالت وزارة الخارجية الإماراتية في بيان الأحد، إن "سفير إيران سيف محمد الزعابي سيستأنف مهامه في السفارة في طهران خلال الأيام القادمة"، مضيفة أن الخطوة جاءت "للمساهمة في دفع العلاقات الثنائية إلى الأمام بالتنسيق والتعاون مع المسؤولين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بما يحقق المصالح المشتركة للبلدين الجارين والمنطقة". وانسجاما مع النوايا الإماراتية المعلنة منذ أسابيع، أعادت الكويت سفيرها إلى طهران بعد قطيعة دامت سبع سنوات. وتعد الكويت من أوائل الدول العربية التي اعترفت بالثورة الإيرانية عام 1979، لكن علاقات البلدين توترت بعد الحرب الإيرانية العراقية عام 1980، وتدهورت بعد استهداف مصالح كويتية بصواريخ إيرانية واتهام طهران بتدبير محاولة اغتيال أمير الكويت جابر الأحمد الصباح عام 1985. وما لبثت أن عادت علاقات البلدين بشكل طبيعي بعد غزو العراق للكويت عام 1990 وتنديد إيران بالغزو العراقي. ثم عادت للتوتر بعد أن اتهمت الكويت إيران بالمسؤولية عن أنشطة تخريبية عام 2011، طردت على إثرها عددا من الدبلوماسيين الإيرانيين، واعتقلت العشرات من الكويتيين والوافدين الذين ضبطت بحوزتهم أسلحة وذخيرة ومعدات إيرانية. ولا يمكن عزل الخطوة الكويتية عن الحوار الذي تجريه إيران والسعودية منذ أكثر من عام، سعيا لتحسين العلاقات بينهما. وقاد العراق منذ أبريل/ نيسان من العام الماضي بمبادرة من رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، وساطة ناجحة بخمس جولات من المفاوضات المباشرة بين وفود أمنية من البلدين. وقال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان منتصف الشهر الماضي، إن بلاده تلقت رسالة من وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، مفادها أن "الجانب السعودي مستعد لنقل المباحثات إلى المستوى السياسي والعلني، ونحن أبدينا استعدادنا لدخول المباحثات المرحلة السياسية". وأعلن وزير الخارجية العراقي في أواخر يوليو المنقضي أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان طلب منه استضافة اجتماع لوزير الخارجية السعودي مع نظيره الإيراني في بغداد. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده الإثنين، أن "التعاون بين طهران والرياض يمكن أن يساعد في استعادة الهدوء في الشرق الأوسط". وظلت مواقف دول الخليج الست غير منسجمة فيما بينها إزاء التهديدات الإيرانية، باستثناء التوافق المبدئي الحاصل بين السعودية والإمارات والبحرين. وحافظت عُمان على علاقات "تقليدية مستقرة" وإيجابية مع إيران بينما شهدت مواقف قطر تحولات متناقضة بين المقاطعة الدبلوماسية واستمرار التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني. واصطفت الدوحة بشكل واضح إلى جانب طهران إبان الأزمة الخليجية الأخيرة في 2017، عندما قاطعت السعودية والإمارات والبحرين، إلى جانب مصر، دولة قطر لـ"دعمها للإرهاب في المنطقة وتنبيها خطابا تحريضيا يهدد استقرار الدول المجاورة". وحاولت طهران استثمار الأزمة والتخفيف من عزلة الدوحة، وعملت مع تركيا على تكوين حلف غير معلن ضد الدول المقاطعة لكسر ما تسميه قطر "حصارا خليجيا". وحاولت الكويت تبني سياسة الحياد في الأزمة الخليجية بمحاولة التوسط، كما حاولت لاحقا التوسط بين طهران والرياض عام 2021. ويعتقد محللون أن من شأن "ترطيب" العلاقات الخليجية إيجاد حلول لمشاكل عالقة، أبرزها الخلاف حول ترسيم الحدود بين الكويت وإيران، والخلاف حول حقل الدرة المشترك بين الكويت والسعودية، وبدرجة أقل إيجاد تسوية بشأن الجزر الإماراتية المحتلة. ويرى الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، عمرو الشوبكي في تصريحات نشرها المركز، أن التقارب بين إيران ودول الخليج "مرتبط بالتقدم الحاصل في المفاوضات مع إيران بشأن برنامجها النووي". وأشارا إلى أن هناك استشعارا بين دول الخليج بقرب حدوث "انفراجة نووية". ويسود المجتمع الدولي تفاؤل حذر إزاء الملف النووي الإيراني خاصة بعد تخفيف إيران من شروطها وتخليها عن مسألة شطب الحرس الثوري من لائحة الإرهاب، وإسقاطها شرط الضمانات الأميركية بعدم التراجع عن الاتفاق. ويشير مراقبون إلى أن هناك عاملين أساسيين غير سياسييْن يمكنهما التسريع بتطبيع العلاقات بين دول الخليج وإيران. ويتمثل العامل الأول في أن العلاقات التجارية (خاصة مع الإمارات) ظلت نشيطة مع إيران ولم تتأثر التبادلات الاقتصادية وحركات الطيران والملاحة البحرية. ويتمثل العامل الثاني في أن جالية إيرانية ضخمة نسبيا تعيش في دول الخليج، فضلا عن وجود شركات اقتصادية إيرانية تنشط في دول الخليج. ولا يخفي محللون أن تقارب الإمارات مع إيران يمثل جزءا من سياستها الخارجية القائمة على "مد جسور التعاون" مع الدول التي توترت علاقاتها بها على مدى السنوات الماضية، على غرار تركيا وسوريا وحتى إسرائيل. وردا على المقترح الأميركي الأخير بتشكيل "ناتو عربي" يضم دول الخليج الست والعراق ومصر والأردن، وتشارك فيه إسرائيل، لمواجهة التهديدات الإيرانية، أعلنت الإمارات رسميا أنها لن تكون طرفا في أي تحالف يستهدف دولا أخرى في المنطقة، بما فيها إيران تحديدا. وأطاحت تصريحات أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان بهذا الشأن، بمقترح التحالف العسكري بين العرب وإسرائيل التي تحمست كثيرا للمشروع. ويرجح مراقبون أن تسير دول الخليج بزعامة السعودية قدما في مشروع المصالحة مع إيران كخيار استراتيجي يهدف لدرء الخلافات أو الحد منها مع القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، كما فعلت سابقا مع تركيا ومع إسرائيل. وربما تعي دول الخليج أنها مدعوة خلال المرحلة القادمة للانكباب على حسن استغلال فرصة إعادة التموقع بشكل ناجع، في ظل التحولات التي يشهدها العالم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، لاسيما الأزمة المرتقبة في سوق الطاقة والتي ستلعب فيها دورا محوريا. ويقابل الوعي الخليجي، وعي إيراني بتغير عناصر المعادلة الجيو استراتيجية بالمنطقة بعد تطبيع دول خليجية العلاقات مع إسرائيل، الأمر الذي استنتجت منه طهران أنها باتت العدو رقم واحد للخليجيين وليست إسرائيل. ويتساءل محللون عن مدى جدية المصالحة هذه المرة بالنظر إلى إخفاقات سابقة خاصة بعد تبني الرئيسين الإيرانيين السابقين هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي في تسعينيات القرن الماضي، سياسات تدعو للتصالح مع دول الخليج وبخاصة مع السعودية.
مشاركة :