أنسنة القراءة والفعل الإبداعي | واسيني الأعرج

  • 12/31/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تبدو القراءة فعلا حيويا إنسانيا متوالدا بشكلٍ مستمر. فهي القناة الموسِّعة لتخييل الإنسان الداخلي، وهي مَن يُخرجه من جفاف الحياة اليومية التي كثيراً ما ينهكها التكرار المستمر. الأمم تكبر وتتسع وجدانيا بالمعنى التخييلي، داخل هذا الفعل الإنساني المتجدد. يكفي أن نقترب من مجتمعين صنعا ويصنعان أفق البشرية قرائيا وإنسانيا. أولا المجتمع العربي والإسلامي بين نهاية القرن التاسع والقرن العاشر. كيف كان هذا الأخير منتجا للمعرفة والثقافة والأدب إنسانيا. فقد استوعب وقتها المعرفة البشرية ليعيد إنتاجها إيجابيا، ولتعم فائدتها على الأمة والأقوام التي دخلت في السياق الديني المعرفي الإسلامي. رجل مثل أبي حيان التوحيدي غير النظم الأدبية فأنتج الكثير من النصوص التي دفعت بالناس إلى تأمل الإنسان في عز صعوده ويأسه أيضا. عندما وصل إلى سقف إنتاجه بعد حرق كتبه، وتأليفه لنصه العظيم: الإشارات الإلهية، كان قد وضع الظاهرة الأدبية في أفقها التأملي التخييلي، الذي يخرج من دائرة اليومي والمستهلك، نحو ما هو أعمق. العلاقة الوجدانية باللغة التي تُشكِّل جسر التواصل مع القاريء. فالنص كلما فتح أفقا جديدا، سار بنا بعيدا، لزيارة أمكنة ومناطق الإبداع الخفية. لم يكن أبوالعلاء المعري أقل قيمة عندما فتح بوابة النوع الأدبي على الرحلة الروحية المتوغلة في الأعماق البشرية، في نصه الكبير: رسالة الغفران. فقد كان المعري فاتحا لبوابة النوع الجديد بكسره النظام الأدبي المستهلك والتأسيس لشعرية التعامل الجديد مع الأشكال. فقد منح القاريء مساحة أدبية جديدة افتكت من الشعر قدرته اللغوية التخييلية للذهاب بعيدا بالكتابة في أغوار النفس وتأملها في حالات جرأتها الأدبي. والفلسفية وارتقائها أيضا. بنصه الجديد المرتكز على ميكانيزمات تواصلية لم تكن معروفة قبله، أنشأ علاقة إبداعية مع القاريء. جعل من القاريء المؤسس على الثقافة المعراجية والإنسانية شريكا حقيقيا في عملية التلقي. بعد عشرة قرون، أي في القرن العشرين، استلم الغرب عصا السبق ليدخل النص الأدبي في مجال تخييلي جديد، بيَّن كم أن للقدرات البشرية مساحات إبداعية خلاقة لم تكن قد اختُبِرت، من خلال فن الرواية الذي يمكن أن نطلق عليه اليوم جنس مأساة العصر الذي نعيشه، بعد أن استطاع بخبرة نادرة، اختزال المنجز المعرفي البشري داخل دائرة التخيل كأن مساحته تتسع لكل شيء، للثقافة الإنسانية والتاريخ والنفس البشرية. الرواية في زماننا، أصبحت سند الإنسان لتجاوز معضلات عصره وحرائقه، وجعلت الأدب يتخطَّى دائرة الذات ليصبح معرفة بأدق معنى الكلمة، وملجأ أيضاً يجد الإنسان المعاصر داخله أشواقه وأشجانه. ما وصل من روايات إنسانية هي تلك المنتسبة إلى مأساة الإنسان على وجه الأرض الذي يواجه موته وحياته بأسئلة وجودية ظلت معلقة. مآل الروايات الإنسانية هي الرغبة العظمى في تخطي المأساة. ولا يمكن للرواية كيفما كانت قيمتها التاريخية، إلا أن تكون إنسانية. كل الروايات التي مجدت الطاغية، ماتت في المنعرج الأول من التاريخ، إذ هي تحمل عنصر فنائها في أعماقها، ولا يمكنها أن تستمر وجوديا، لأنها معادية للإنسان. حتى كبار الطغاة عندما دخلوا عالما ليس لهم، وكتبوا أدبا نسوا أن آلة الأدب قاتلة لأنها عادلة بالمعنى التاريخي والإنساني. لهذا ظلت النصوص التي كتبوها يتيمة لأنها فقيرة. حاولوا أن ينتسبوا من خلالها إلى إنسانية كانوا في الجوهر من ألد أعدائها، فلم تجد نصوصهم إلا سخرية القاريء في السر والعلن. الفن هو الصيغة المضادة للموت. الحياة. هتلر رسم، موسوليني كتب قصصا، صدام أصدر الروايات، والقذافي كتب قصصا قصيرة، وغيرهم من الدكتاتوريين عبر العالم فعلوا الشيء نفسه، ماذا بقي اليوم مما كتبوه؟ لا شيء إلا علامات صغيرة سرعان ما تماهت في فناء الأشياء وبياضاتها.

مشاركة :