- تعد الشاعرة السعودية هيفاء الجبري من الأسماء الشعرية المهمة التي بدأت تحفر اسمها في المشهد الثقافي من خلال الاشتغال على تجربتها بحرفية عالية، تدل على إدراك ووعي جمالي لمهمة الشعر والشاعر، وهذا ما نلحظه في مجموعاتها الشعرية الثلاث: (تداعى له سائر القلب) عام 2015م، و(البحر حجتي الأخيرة) عام 2016م، و(الصدى يخرج من الغرفة) عام 2020م ولعل من أول مؤشرات هذا الاشتغال الجاد نيل الشاعرة جائزة الأمير عبدالله الفيصل للشعر العربي، فرع القصيدة المغناة عام 2020م، والمتأمل لتلك العناوين المتنوعة يلحظ اشتغال الشاعرة على لغتها، فلاشك أن العناوين الثلاثة التي طرحتها لمجموعاتها يظهر اشتغالاً على بؤرة السرد في العنوان مما يشكل انزياحاً واضحاً في العنونة الشعرية، فالبنية الفعلية الحاضرة في عنوانين (تداعى/ يخرج) يحيل إلى تعالق سردي واضح فالشاعرة تبوح حكايتها ونجواها وتجربتها وإذا كان لابد من حجة إلى إثباتها وتعزيزها، فالدليل الشعري يكون حاضراً، من خلال تشكيل اسمي بؤرته البحر عندما يتحول إلى حجة شعرية أخيرة في دلالية شفافة لا ترى في الوصف (الأخيرة) ذي الحمولات الدرامية العالية سوى بداية لولادة قصيدة أخرى، من هنا يظهر التعامل الاحترافي مع اللغة الشعرية التي تطمح إلى البحث عن المختلف عبر تحسس جماليات اللفظة الشعرية ومحاولة سكب الروح فيها لتتشظى الدلالات وتتنوع، ولعل الحقل الدلالي البارز في هذا السياق هو انحياز الشاعرة إلى الألفاظ المائية بمشتقاتها المتنوعة التي يتسيدها لفظ (البحر) الذي نلمح طغيان حضوره في تشكيل عناوين القصيدة، من ناحية، وفي تشكيل البنى الشعرية المشكلة للغة القصيدة من ناحية ثانية، وهذا ما يظهر في مجموعة: (البحر حجتي الأخيرة) التي سنحاول من خلالها قراءة الدلالات المائية وتحولاتها المختلفة في تشكيل الوعي الجمالي للقصيدة. - يطغى حضور لفظ (البحر) في الحقل الدلالي المائي عند الشاعرة، وهذا ما يظهر في عنوان المجموعة: (البحر حجتي الأخيرة)، ثم يظهر هذا اللفظ صريحاً في أربعة عناوين، هي: (للبحر فقط)، و(البحر الذي نخشى)، و(بحر بالتبني)، و(أنشودة النار في فم البحر)، ويتخفى في عناوين دالة على الماء/ البحر وألفاظ مشتقة من الحقل نفسه في عناوين، مثل: (السماء لا تمطر شعراً)، و(أخرجي من دموعنا يا سماء)، فهذه المؤشرات دالة على مركزية اللفظة المائية في المجموعة، وارتكاز مقولاتها الدلالية على تشكيلاتها في إحراج المعنى الكلي المسيطر على الدلالة الكلية للمجموعة التي توحي بتعالق بين الدلالي واللغوي المعجمي، من خلال استثمار دلالات السعة والعمق والملوحة والانبساط، فالشاعرة تستثمر دلالات البحر المتنوعة بكل ما تجمله من بطش وحرمان وهيجان ومجهول مترامي الأطراف، عبر مزج بين المسموع والمرئي لتشكيل الدلالة، ولعل الدليل الفني الذي يؤكد ذلك أن عنوان المجموعة جنح نحو الاستقلالية والتفرد، فهو ليس عنواناً فرعياً لقصيدة من قصائد الديوان تخيرته الشاعرة ليكون عنواناً دالاً من باب دلالة الجزء على الكل، وإنما عنوان استقل بنفسه وشكل تكثيفاً دلالياً لروح المجموعة، وهذا النمط من العنونة في حاجة إلى اشتغال على اللغة كي تصير موازياً دلالياً قادراً على حمل الدلالة الكلية، عبر الإشارة والإيحاء، وهي استراتيجية فنية تحتاج إلى مهارة في البحث والاختيار كي يصل المعنى إلى متلقيه بطريقة تثير الدهشة عند المتلقي. أما في العناوين الفرعية، فالتناص فيها غير خاف (فالسماء لا تمطر شعراً) يحيل إلى المقولة التراثية: (السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة)، فتحضر لفظة (تمطر) المائية بامتياز بكل ما تحيل إليه من خصب ونماء يشكل نقيضاً لملوحة البحر، كما تحضر لفظتي (الدموع والسماء) في عنوان: (أخرجي من دموعنا يا سماء) لتحمل دلالة مائية فالرابط الدلالي بين الدموع والسماء هو المطر، الذي سيتحول إلى دموع في إشارة إلى غزارة تحمل دلالة الحزن والوجع والتفجع، على ما جرى عليه العرف اللغوي عندما يشبه غزارة الدموع بالأمطار، وقد جاء الفعل الطلبي (اخرجي) دالاً على هذا المعنى عبر تبادل دلالي شفاف بين لفظة الدمع والمطر. - تحضر لفظة البحر بؤرة دلالية عندما يكون عنواناً للقصيدة، ويحاول النص تقديم إيحاءات متنوعة لهذا العنوان، وهذا ما نلحظه في قصيدة (للبحر فقط)، التي جاء فيها: حتى تستلمَ الرحلةَ أعباءُ الشاطئ يحتاج البحر مراراً أن يقتل آلام الريح لكيلا تهوي في العمق السفن الموجوعة تنزع من قلق الأعماق أسراراً كتب عليها أن تبقى للبحر إننا أمام معجم مائي تتضافر فيه مفردات (البحر، الشاطئ، العمق، السفن، الأعماق) لتشكل دلالة تنطلق من الرحلة التي تحاول قتل آلام الريح في انزياح طريف لتذهب فيها إلى رمزية العمق/ الأعماق وما يعتريها من غموض، إنها رحلة الكشف عن معنى تحوطه أسرار محصورة في البحر ظاهراً ولكنها تواري خلفها، وفي طياتها رؤى شاعرة تحاول كشف تلك الأسرار. ولعل من أبرز تلك الكشوفات الشعرية التوقف عند (البحر الذي نخشى) للغوص عند سر من أسراره يظهر في قول الشاعرة: من حمّل القطرة يا سيدي أن تصبح البحر الذي نخشى أمامنا ماء، ملائكة بأي وحي نصنع العرشا؟! فإذا كان المنطلق الدلالي أن البحر هو مجموع قطرات، فإن ذلك لا يمنع من تحوله إلى عرش جمالي متوج محفوف بالماء والملائكة التي تبرز في إثارة التساؤلات، من هنا بني النص السابق على الاستفهام الذي يثير دهشة الشاعرة في البحث عن سر عروش الجمال المائي، والتساؤل هنا مغلف بحيرة من يدهش أمام جمال عظيم فيحاول التقاطها من دون أن يكون قد أمل بالإحاطة بخرائطها الشاسعة، ومن هنا كان ديدن الشاعرة البحث عن سيمياء هذا اللفظ المائي في قصيدة (بحر بالتبني)، التي تقول في مفتتحها: إذا غادر الماء البحار فما له من البحر غير الذكريات الموالح يعيش غريباً في عيون تقعرت ليُقحم بحراً في رمال الملامح وليس بطبع الماء ترك لأصله كما يهجر الأحباب من غير صالح فالماء هنا هو صورة للذات البشرية عموماً من خلال صورة مغادرة المكان المجازية، فمغادرة الماء للبحر يبقي فيه ذكريات ذات طبيعة بحرية تتمثل في الملوحة، فتتبادل لفظة المياه البحرية مع لفظة قرينة بالصحراء هي الرمال الدلالات، فيصيح البحر مُشكّلاً من رمال تنوب عن الماء. ومثل هذه الدلالات تشير إلى دلالات أعمق تعكس علاقة البشر أنفسهم بالأمكنة وفي غربة مغادرتها، لكن تأتي رمزية تركيب (وليس بطبع الماء ترك لأصله) فالطبع غلاب على التطبع، وهي سمة بحرية، وفي مدى أبعد هي سمة بشرية. كما تنتقل الشاعرة في قصيدة (أنشودة النار في فم البحر) إلى التشخيص عبر جمع المتضادين (الماء والنار) في فم واحد مجازي للبحر، الذي سيروي سرديات عبر ضمير الغائب المؤنث تارة كما يظهر في قول الشاعرة: وحدها لم تزل تُقدم للبحر شتاتاً وعزلة واحتراقا وتارة أخرى عبر سرد مشهدي لا يخلو من أسطره للماء عندما يروى على لسان العاشق المحطم، وهو ما يبرز في قولها: حيث يُروى عن المحارة أن الـ.. بحرَ قد كان مرأة ذات حُرقه يقف العاشق المعتق فيها كمسيح لكي يبارك عشقه نزل الليل كالقبيلة رجماً إذ رآها بنارها منشقه فالصورة تجمع بين المتخيل الأسطوري (البحر/ امرأة)، وما يضفيه ذلك من دلالة التبرك والجمال الممنوحة للعاشق بهذا الطقس، وبين ما يضفيه المجتمع ممثلاً بالليل مشخصاً في صورة القبيلة، عبر تركيب تشبيهي يقمع جماليات المشهد بالرجم فيستل منه أنوثته، ثم تتابع أسطره عناصر الطبيعة في المشهد فيحضر النجم في علاقته بالمحار، وتغرق الأغنيات ليختم المشهد بتحويل الذكورة إلى بحر ينتهي فيه البحر الحقيقي ويحضر البحر المجازي الذي تصنعه الشاعرة في نقدها المجتمعي الغائر: هكذا صارت الذكورة بحراً جاء في غيه من الموت زرقه إننا أمام ذكورة مالحة محفوفة بالموت تجرد المؤنث في السرد السابق من جمالياته في صراع أزلي لن ينتهي. - يتعمق حضور الماء عند الشاعرة عندما ينتقل للحضور في تشكيل كثير من الصور والمقولات في كثير من القصائد التي اختفى اللفظ المائي من عناوينها، ولكنه حضر بقوة في متنها وتشكيلها. ففي قصيدة (خليط يملأ رأسي): صُبّ دمع البحيرة في البحر سوف ترى ثورة في ضمير المياه فنقف أمام تركيبين انزياحيين (دمع البحيرة) الذي يمثل حالة الضعف، و(ضمير المياه) فتحضر دلالة الثورة والتمرد من خلال المزج بين الثنائيات. وتأتي الدلالة المائية عاكسة لعلاقة المبدع مع فنه، فلاشك أن نقل التجربة من العقل والقلب إلى الورقة يمر بمكابدات وأحزان تظهر في قصيدة (يا أحزان الورقة): يا أحزان الورقهْ.. من كان مراراً يقتل فيك البحر ويلعب دور القبطانْ من كان مراراً يمنع أطباق اللؤلؤ من تجهيز الشطآن؟! هل قاسَ البحر جراحه؟! حتى الآن.. لم تجدي يا كلَّ الأحزان جواباً عن « من كان»؟ فالبحر المقتول هنا هو رمز جمالي للحالة الإبداعية تتضافر معه في تشكيل الدلالة مفردات (اللؤلؤ، والشطآن، القبطان)، وهي مفردات مائية حاملة لدلالات موحية تظهر في علاقة اللؤلؤ/ الإبداع بالشطآن، كما تبرز في التساؤل المتروك من دون إجابة «من كان» في دلالة خفية على أن تجربة البحر هنا، هي تجربة الشاعرة نفسها، أو تجربة الأنثى في البحث المضني عن معنى لا تحاصره الجراح التي قاسى منها البحر، ولعل ما يؤكد ذلك أن هذا المعنى قد ظهر في صور متعددة في الديوان، كما نلحظ في قصيدة (بيضاء الحزن): وإن قيل إن الغيث موت سحابة ألم ترها بيضاء مطلعها الحزن ولكنهم في الأرض ما اكترثوا لها كأن ليس تبكي في مآتمها المزن فالمفردات المائية (الغيث، السحابة، المزن) هي ظاهرياً وصف حسي لمظهر طبيعي يظهر علاقة الغيمة بالأرض، ولكن الصور البلاغية الفذة التي تجعل من موت السحابة، وحزنها، وبكائها، تجعل المتلقي يبحث عن المعنى الغائر الذي يجعل من المرأة غيمة ومن صوتها مطراً ومن أحزانها مزناً تبكي من دون أن يكترث لها أحد، وكل ذلك يجعل من قصيدة هيفاء الجبري قصيدة مائية تتزيا بمآثره وتستثمر إمكاناته الدلالية لتزج فيها معاني قد تحتاج إلى قراءات متعددة للغوص في أعماقها واصطياد لؤلؤها.
مشاركة :