للإجابة عن هذا التساؤل، لا بد أن نحدّد تاريخياً معطيات الواقع الدولي والإقليمي، ونبدأ من التجربة الأوروبية في الاتحاد، حيث نجد أنه عندما فكر الأوروبيون في أن يكون لهم كيان موحد كانت الفكرة نفسها قد تبلورت لدى العرب قبل أوروبا منذ إنشاء الجامعة العربية عام 1945، غير أن الناطقين بلغة الضاد تمهلوا وتراجعوا وتفرقوا، وسيطرت على الفكر والعقل العربيين اتجاهات انعزالية على رغم توافر عوامل نجاح توحّدهم متمثّلة في اللغة والدين والميراث الحضاري والتاريخي. نجح الأوروبيون في الاتحاد على رغم وجود عوامل الاختلاف في الجذور والفروع على حد سواء، بالنسبة الى اللغة والثقافة والتوجّه والموروث الحضاري. نجحوا ليس لشيء سوى أنهم أدركوا مبكراً أن الاقتصاد أنجح وسيلة لتقارب المصالح وتوحّد الأهداف. ومن هنا، ألقت القوة الاقتصادية بظلالها على باقي السياسات الأوروبية، وفي الوقت نفسه شكلت صورة إيجابية عامة في ذهنية الآخر عن أوروبا الموحدة في القرن الحادي والعشرين. فيما سادت الأمة الإسلامية والعربية على وجه التحديد، سياسات نلاحظ أنها لم تخدم شعوبها بقدر ما تخدم أعداءها، وفي المقدّم إسرائيل التي طرحت مفهوماً جديداً هو فكرة «الشرق الأوسط الجديد» في التسعينات على لسان شمعون بيريز، الذي عرف بصراحة أن يقرأ الواقع العربي في شكل جيد. وعلى رغم الصورة الوردية التي رسمها بيريز للمنطقة في كتابه الذي صدر أوائل التسعينات ويحمل العنوان نفسه، فإنه كان في واقع الأمر يخفي صورة أخرى على قدر كبير من البشاعة المتوقعة، والتي لم تظهر للعيان إلا بعد حدوث ما اتفق الفكر السياسي الغربي على تسميته «ثورات الربيع العربي»! وتتجسّد معالم الصورة التي رسمها السياسي الإسرائيلي في تفوّق حضاري شكلاً وموضوعاً من جانب إسرائيل، لكي تبدو واحة غنّاء وسط صحراء عربية قاحلة. أو دعونا نقول جزيرة خضراء وسط بحر عربي متلاطم الأمواج بدءاً من العراق وسورية وليبيا وصولاً إلى اليمن الذي كان سعيداً، ليبرز أمامنا تناقض رئيسي صنعته إرادات أطراف إقليمية ودولية للحدّ من المدّ العربي والإسلامي، لا سيما بعد أن تعامل الغرب مع المسلمين على أنهم عدو بديل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد المعسكر الشرقي وانتهاء ما اصطلح على تسميته في العلاقات السياسية الدولية «الحرب الباردة». وتأكدت هذه الفكرة، أي «العدو البديل»، بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وهكذا خرج الإرهاب الدولي من رحم سياسات معادية للعرب والمسلمين قامت بصنعه ودعمه، ولنا في موقف الولايات المتحدة من تنظيم «القاعدة» عِبرة تاريخية منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، حتى وصلنا إلى مرحلة توظيف التنظيمات الإرهابية وجعلها أداة تُزرع في المنطقة العربية لتكريس صورة الشرق الأوسط الجديد، كما أرادها بيريز وبشَّرت بها كوندوليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، قبل سنوات عدة. وفي رؤيتي، أن تراجع الفكر الوحدوي وترجيح التوجهات الانعزالية في العالم العربي، كانا سبباً مهماً في تكوين هذا المشهد الى درجة أن المنظمة الإقليمية للعرب، وهي جامعة الدول العربية، فقدت عناصر قوتها، وبالتالي خفت صوتها واختفى تأثيرها منذ أن بدأ العرب يفكرون من منظور قُطري. وبناء عليه، يمكن القول إنه على رغم ضبابية الموقف وبشاعة الصورة في بعض الدول العربية نتيجة ازدياد بؤر التوتر في منطقة الشرق الأوسط وتراكم المواقف المعادية لأمة العرب، خرجت محاولات تنسيقية - من مصر والسعودية تحديداً - للمّ الشمل العربي والإسلامي والتصدي للاتجاهات الانعزالية المانعة للعمل العربي المشترك، وكان آخرها المبادرة السعودية لمواجهة الإرهاب، وهي عبارة عن تحالف إسلامي ضد التنظيمات الإرهابية، ومن بينها ما يسمى «داعش». وفي تصوّري، أن فكرة التحالف جاءت في وقت مناسب للعمل على إحياء الجهد وتوحيد الصف عربياً وإسلامياً، ثم جاء هذا التحالف ليشكل ضربة قاصمة لكل من يصِم العروبة والإسلام بالإرهاب، وفي الوقت نفسه يكشف موقف كل من يقف ضد الإرهاب ومن يدعم الإرهاب أمام الرأي العام العالمي. ومن ناحية ثالثة، تكرس المبادرة قوة جديدة لاستدراك مواقف الضعف والتخاذل العربي والإسلامي في مواجهة التحالفات الأخرى التي فشلت في اجتثاث جذور الإرهاب منذ أكثر من ثلاثة عقود. ولاحظنا أن البعض هنا أو هناك هاجم المبادرة من دون دراسة وتمعُّن، أو جرياً وراء البعض الآخر الذي هاجمها لأنه أدرك أهميتها في تفويت الفرصة عليه وكشف مواقفه الداعمة للإرهاب! وما يهمني في هذا المقام، أن مثل هذه المبادرات الإيجابية المدركة لحجم المؤامرات في المنطقة، يمكن أن يُبنى عليها لدرء الأخطار المحدقة بالأمة العربية والإسلامية من ناحية، وتساعد على تفعيل كل أشكال العمل العربي والإسلامي المشترك في المستقبل القريب. وأتصور أن زيادة التنسيق المصري - السعودي يمكن أن يعيد زخم المبادرات التي تبغي مصلحة العرب والمسلمين، ويساعد ذلك على اتساع دائرة التنسيق ليضم أكبر عدد ممكن وفاعل من الدول العربية والإسلامية، وهو ما نرجوه لتجاوز حاجز فقدان الثقة بالذات. ولا شك في أن عملية «عاصفة الحزم» في اليمن نجحت من حيث تجميع القوى العربية وحشدها ونصرة إرادة الشعب اليمني في مواجهة تحديات الداخل والخارج.
مشاركة :