سلاما أيها المفقودون في لحظة غيابكم

  • 8/29/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تعددت التسميات والغياب هو المظلة الشاملة أقول الغياب لكي لا أردد مع المتنبي تعددت الأسباب والموت واحد وإن كان الموت هو الكلمة التي تجمع بين الغائبين في نهاية المطاف. ليس هناك قدر أسوأ من نظام سياسي يضع مواطني البلد الذي ابتلي به على حافة المجهول فلا يجد المرء فرقا في أن يكون معتقلا أو مخطوفا أو مفقودا. ليست هناك مسافة تُذكر. الفكرة أن تكون في مكان هو في حقيقته لا مكان. مَن يصل إليه معتقلا يكون في طريقه إلى أن يكون مفقودا بعد أن أعتقد أنه سيكون مخطوفا إلى أمد قد لا ينتهي بالنجاة. بمعنى أن ذلك الكائن الذي هو أنت أو أي انسان آخر سيزول كما لو أنه لم يكن. كان كأنه لم يكن. المواطن الذي هو عبارة عن هواء يفقد اسمه ليحمل رقما. ولأن الحكايات تتشابه فإن أحدا لا يروي حكايته للآخرين. بعد حين من خطفه يتأكد له أن أحدا لن ينصت إليه. ليس المطلوب أن يكون قائلا وإن كان عليه أن يقرأ اعترافاته ليوقع عليها. ولكن اعترافاته لن تكون مهمة إذا لم تدنه. المطلوب من المرء أن يُدين نفسه ليتم ترحيله إلى الغياب الكامل. بالرغم من أنه في حالة اعتقاله يكون غائبا عن العمل والبيت والشارع والمقهى والسوق وروجته وأبويه وأخوته وأصدقائه وموهبته وعاطفته ووطنه الذي يتخذ أشكالا غير التي يعرفها. لا تصدق عائلته غيابه. أسرى الحرب يعودون غير أن المفقودين منهم لا يعودون. فجأة يشعر أنه صار مفقودا في حرب لم يخضها. حرب لم تقع وقد لا تنتهي لأنها لم تقع. حرب من طرف واحد كان ضحيتها وأعداء لم يضعهم في موقع العدو اختاروه عدوا. العدو الذي تحوم حوله شبهات الفتنة والمؤامرة التي هي مجرد صفحة من كتاب النظام. هي الصفحة التي يجب أن تُملأ بإسماء المتآمرين.   ما يحدث في أوطاننا لا يحدث في أي مكان آخر في هذا العصر الذي لم يعد فيه التفكير جريمة ولم تعد الكتب التي يقرأها المرء تهمة ولم يعد الاختلاف في الرأي ذنبا. ذلك جزء من ظاهرة تخلفنا عن العصر. لا يزال العقل جريمة في مساحة كبيرة من العالم العربي. إن كنتَ لا تريد أن تكون عضوا في القطيع عليك أن تختفي أو يتم اخفاؤك. عليك أن تختار قبل أن تحل الكارثة. ولكن غالبا ما يخونك التوقيت أو تكون عاجزا عن الوصول إلى الباب التي تؤدي إلى نجاتك قبل أن تغرق المركب التي تحملك وحدك. وما أن يتم اصطيادك فإن سؤالا من نوع "لماذا؟" سيعذبك من غير جدوى. إنه سؤال عبثي لن يجيبك عليه أحد. فقط عليك أن تصدق أنك انتقلت من عالم يُرى إلى عالم الأشباح، تتعطل فيه الحواس ولن تتمكن النبوءات من اللحاق بك. لا أحد ممَن ستلتقيهم في ذلك اللامكان يمكن أن يغنيك أو يفيدك بتجربته. ليست هناك تجارب فردية وحتى أدب السجون فيه الكثير من الخيال، ذلك لأن الواقع في حالة الغياب هو غير الواقع الذي يعرفه الآخرون. كل شيء مجازي. في الحقيقة لن تعيش واقعا. ما ستعيشه هو نوع من الكابوس لذي تمتزج فيه الوقائع وهي تقتصر على العذاب والأساطير التي تشبه ليالي شهرزاد، المرأة التي اضطرت أن تقضي الليل من غير نوم في انتظار صيحة الديك من غير نوم، الصيحة التي هي عنوان نجاتها. في العراق (الديمقراطي) وسوريا (الاستبدادية) بشكل خاص هناك غائبون. ميزان غريب فعلا. الشبهات والتهم والذنوب نفسها تنتقل بالبشر من حالة الحضور إلى حالة الغياب. من المرئي إلى اللامرئي. من المكان إلى اللامكان. ليس للحديث الوطني في تلك الحالة قيمة على المستوى الإنساني. الغائب بالنسبة لخاطفيه هو معتقل وهو بالنسبة لحياته السابقة مفقود وفي الحالين فإن أحدا لن يعرف عنه شيئا. في لحظة خطفه يكون موجودا في الألم فير أن المه سرعان ما يُنسى ليكون شبيها بأي ألم قاس آخر. ألم الأسنان مثلا. لا يمثل المفقودون أزمة بالنسبة للأنظمة السياسية فهي لا تحرجها. لن يتخلى بسببها العالم عن دعم النظام (الديمقراطي) في العراق وهي لا تُزيد النظام الاستبدادي سوءا من وجهة نظر العالم. هي مشكلة فردية حتى وأن شملت عشرات الالاف من البشر. لا أحد يسأل عن المفقودين ما دام المجتمع الدولي مشغول عن إنسانيته بمصالح الدول الكبرى. ذلك خطأ بشع صرنا ندفع ثمنه في لحظة خطف.

مشاركة :