حرب بلا هوادة على الغيبة والنميمة

  • 1/1/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

لم ينشغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بترسيخ الأخلاق الفاضلة في نفوس المسلمين فقط، ولم تقف توجيهاته الكريمة عند حدود الدعوة إلى التحلي بالفضائل فحسب.. بل أولى اهتماماً كبيراً لمحاربة الرذائل حتى يطهر شخصية المسلم من كل ما يشينها، أو يحرمها من أن تظل في صورة كريمة ومرغوبة من كل الناس. ومن أكثر الرذائل الأخلاقية التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رذيلتا (الغيبة والنميمة) وهاتان الرذيلتان عقابهما عند الله شديد، وصورة من يمارسهما في أذهان الناس سيئة للغاية، فضلاً عما يترتب عليهما من خسائر لا حصر لها، وأبشعها إفساد العلاقة بين الناس وقد يفقد الإنسان حياته ثمناً لممارسة سلوك منبوذ دينياً وأخلاقياً. الغيبة التي حذرنا منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أشد التحذير، ووصفها بما تستحق من صفات سيئة، هي أن يذكر الإنسان إنساناً آخر بما يكره ولو كان فيه، وهي في حقيقة الأمر سلوك سيئ لا يتناسب إطلاقاً مع الشهامة وأخوة الإيمان، فالإيمان الكامل يقتضي أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، وما دام الإنسان ينفر من كل إنسان يذكره بسوء فلا بد أن يكون هو الآخر عفيف اللسان حسن الخلق لا يذكر الآخرين بسوء ولا يغتابهم في غيابهم، فما لا يحبه الإنسان ولا يقبله على نفسه يجب أيضاً أن يكرهه للآخرين. وهذا السلوك المعيب نهى الله - عز وجل - عنه، قبل أن يحذر منه الرسول، فالخالق - سبحانه وتعالى - حدد آداباً للعلاقات الاجتماعية بين الناس، ومن أبرز هذه الآداب عدم السخرية منهم، وعدم اغتيابهم والإساءة إليهم، فهو - سبحانه وتعالى - القائل في سورة الحجرات: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم إلى أن يقول سبحانه في الآية التالية: ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.. قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته، والله سبحانه يقول: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. معنى هذا أنه لا يجوز للمسلم أن يتحدث ولو بالصدق والأمانة عن إنسان آخر في غيابه، ويذكر عيوبه من دون ظلم أو افتراء عليه، لأن هذا السلوك يوغر صدور الناس ويفرق بينهم، ويثير الفتن ويخلق المشكلات بين خلق الله. ومن هنا كان حرب الإسلام - بلا هوادة - على رذيلة الغيبة لما يترتب عليها من آثار سيئة بين الناس.. وكان تجريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا السلوك القبيح له ما يبرره، فالذي يغتاب أحداً ينهش في عرضه، والرسول يقول: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. آفة خطيرة تقول الدكتورة عبلة الكحلاوي، أستاذة الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر: ما أحوجنا الآن إلى التخلق بأخلاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والعمل بتوجيهاته الكريمة، وتجنب رذيلة الغيبة التي تحولت إلى آفة اجتماعية ونفسية خطيرة في حياة كثير من المسلمين، وهذا الخلق السيئ الذي حذر منه الرسول تترتب عليه مفاسد شخصية وأسرية واجتماعية كثيرة، وهو ينتشر بين هؤلاء الذين ضعف وازعهم الديني، ولم يعد بداخلهم خوف حقيقي من الله. وتضيف: لو يدري هؤلاء أنهم بما يقولون عن الآخرين في غيابهم يهدرون حسناتهم، ويجلبون لأنفسهم غضب الله وعقابه ما فعلوا ذلك.. فقد قيل لواحد من السلف الصالح: هل اغتبت أحداً من الناس؟ فرد قائلاً: وهل أنا مجنون حتى أعطيه حسناتي. الذين يغتابون الناس ينهشون في أعراضهم ويستبيحون حرماتهم، ويعتدون على خصوصياتهم.. وبذلك يجلبون لأنفسهم أشد ألوان العذاب.. أما هؤلاء العقلاء الذين يرفضون أن تمارس الغيبة في مجالسهم، ويقومون بواجبهم في زجر المغتابين، وتحذيرهم من عقاب الله.. هؤلاء العقلاء يغفر الله لهم ويعتقهم من النار مكافأة لهم على ما فعلوا، وهذا ما يبشرهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله في الحديث من ذب عن عرض أخيه بالغيبة - أي وهو غائب - كان حقاً على الله أن يعتقه من النار. إثم عظيم الدكتور أحمد عمر هاشم - أستاذ السنة النبوية، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر - يؤكد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التحذير من كل ما يسبب إيذاء للإنسان فقد جرم إيذاء الإنسان لأخيه الإنسان بأي نوع من أنواع الإيذاء بالقول أو بالفعل، فمن يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتمل بهتاناً وإثماً عظيماً.. والغيبة من أشد الآفات التي تفتك بأواصر الأخوة، وتمزق وشائج المودة، وتقطع العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات. وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد جرم سلوك كل مسلم يغتاب أخاه المسلم، أو يذكره بما فيه، أو ليس فيه، لينال من عرضه وكرامته.. فإنه كذلك أكد الوصية بالدعوة إلى نصرة المظلوم، والدفاع عن أعراض المسلمين، فقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يجب فيه نصرته. وقد وضّحت السنة القولية والعملية خطر الغيبة في سياق بيان خطر الكلمة التي يتفوه بها الإنسان لا يلقي لها بالاً فتجره إلى قاع جهنم، وفي سياق أن ريح الغيبة حين يوجد بالأمة كريح الجيفة النتنة. ومن أجل ذلك يجب على المسلم أن يرقى بسلوكه وأخلاقه عن هذه الرذيلة، كما ينبغي أن يتجنب حضور مجالس يغتاب فيها المسلم، وإذا تصادف وحضرها فلابد من رد الغيبة، فهذا شأن المؤمنين الصادقين الذين قال الله تعالى في شأنهم: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. إن الغيبة وهي محرمة بالإجماع، رذيلة تخالف ما تقرر في الإسلام من حرمة الإنسان الذي هو أعظم حرمة عند الله من الكعبة، وحرمة دم المسلم وعرضه وماله كما جاء في خطبة الوداع وفي أحاديث نبوية كثيرة تبين حق المسلم على المسلم وضرورة سلامته من لسانه ويده. لا يدخل الجنة نمام أما رذيلة النميمة وما تجلبه للنمام من كراهية الآخرين، وغضب الله عليه وعقابه له فهي عبارة عن نقل قول إنسان إلى من قيل فيه بقصد الفساد، وهذا القصد هو الذي يعطي النقل حكم التحريم.. ذلك أن نقل الأقوال بغير هذا القصد لا ضرر فيه. والنميمة من الرذائل التي حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن القرآن جعلها من صفات الكافرين والمنافقين، حيث يقول الحق سبحانه: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم. الذي يبعث على التورط في هذه الجريمة الكبرى أمور كثيرة، فقد يراد بها إلحاق السوء بمن حكي عنه الكلام، وقد يقصد بها التملق والزلفى لدى من حكي له هذا الكلام، كما تكون النميمة هواية لبعض الساقطين، أو تفكهاً بالحديث. وإذا كانت النميمة مذمومة بين شخصين عاديين تورث بغضاً ونفوراً وشقاقاً في حيز محدود، فإن أشد أنواعها ذماً وقبحاً ما يسمى بالسعاية، التي يكون فيها الطرف المنقول إليه ذا سطوة أو سلطان، يقصد النمام أن يتقرب إليه أو يوقع أذى شديداً بمن نقل عنه الكلام. ونظراً لما للنميمة من مخاطر على المستوى الاجتماعي كان تحذير الرسول -صلى الله عليه وسلم - منها، فهو القائل لا يدخل الجنة نمام وقد فسّر العلماء هذا الحديث بأنه إن كان - أي النمام - يستحل النميمة ولا يعدها محرمة. مفاسد كثيرة والواقع أن رذيلة النميمة تجر معها رذائل كثيرة، فهي تدفع من يحترفونها إلى التجسس على الناس، ومعرفة أخبارهم وتحركاتهم بكل وسيلة، ونقل ذلك لخصومهم، إضافة إلى التزيد والتلفيق واختلاق الوقائع والتملق وغير ذلك من الصفات الكريهة التي يتصف بما النمام.. لذلك يجب التصدي لقوافل النمامين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بالنصيحة المخلصة، أو المقاطعة لهم، والتحقير من شأنهم، وعدم الاستماع إليهم. تقول د. عبلة الكحلاوي: لو فعل كل مسلم ما يأمره به دينه وقاطع النمامين والكذابين لانقرضوا من بلادنا.. لكن للأسف الذي يؤدي إلى انتشار النميمة وتكاثر النمامين هو أننا نستمع إليهم، ويقربهم المسؤولون منهم، وغالبا ًما يمنحونهم مكافآت مجزية على ما يفعلون من سلوك سيئ!! على كل مسلم أن يدرك أن النميمة والغيبة من أخطر الرذائل الاجتماعية، ولا يدنس نفسه بهما إلا الفضوليون والوصوليون والأدنياء من الناس. والرجل المؤمن الكريم يأنف أن يلوث نفسه بإحدى هاتين الخصلتين الدنيئتين. ويكفي لذم النميمة أن الله -سبحانه وتعالى - جعلها من صفات الكافرين والمجرمين، الذين يبغون الشر للناس والفساد في الأرض، وقد وضح خطورتها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب. ونبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن بعض الناس يهون أمرها فيستبيحها ويمارسها، غير شاعر بآثارها السيئة وعاقبتها الوخيمة، فيقول عندما مر على قبرين لشخصين يعذبان إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله. وكلا الشخصين الواردين في الحديث يجمعهما عدم المبالاة بما وقع منهما، فهو في نظرهما شيء بسيط، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يبين أنه كبير وخطير يستوجب العقاب الأليم. ..وخسائر مادية والغيبة والنميمة لا يقتصر أثرهما السيئ على كونهما من الصفات الكريهة.. بل أصبحت هاتان الصفتان من الرذائل التي تجلب لمجتمعاتنا العربية الكثير من المفاسد والمساوئ والخسائر المادية.. فقد أشارت دراسة حديثة إلى أن رذيلتي الغيبة والنميمة تلحقان بالمصريين خسائر بمئات الملايين كل عام، حيث تقضي جميع الفئات من رجال ونساء أوقاتاً طويلة تتحدث في الهواتف الأرضية والنقالة من دون داع لذلك.. ف91% من النساء يتحدثن مع صديقات وقريبات لهن في الهاتف بهدف التسلية وشغل وقت الفراغ، و76% من هؤلاء النسوة لا يتحدثن في أمور محددة تخص الطرفين، بل يكون الحديث مفتوحاً ويشمل آخرين (غيبة).. كما أن 68% من الرجال قالوا إنهم يتحدثون يومياً مع أصدقائهم في أمور كثيرة لا تخصهم شخصياً، لكنها تخص آخرين، حيث يشكون من رؤساء أو زملاء في العمل.. وأحياناً يكون الحديث عن أمور شخصية تخص الزوجة أو الأولاد.

مشاركة :