يتحرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اتجاه إعادة العلاقات بين بلاده وإسرائيل، يدفعه إلى ذلك الوضع الاقتصادي الحرج وتراجع شعبيته، وتزايد خلافاته مع دول وقوى إقليمية في العديد من الملفات، وهو تقارب سيمنح تركيا العديد من الفرص الاقتصادية والسياسية لتهدئة الخلافات حول عدد من الملفات. في المقابل يزيد ذلك مخاوف طهران المتوجسة من الجهود المشتركة لتحجيم نفوذها في الشرق الأوسط. واشنطن- بعد سنوات من التوتر الشديد عادت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل منذ السابع عشر من أغسطس الماضي إلى وضعها الطبيعي. وعلى الرغم من الأسئلة العديدة التي يمكن طرحها حول عودة العلاقات، مثل دوافع كل منهما إلى تحقيق هذه الخطوة ودلالة توقيتها، فإن السؤال الأهم هو ذاك المتعلّق بالتداعيات الإقليمية لعودة هذه العلاقات، وكيفية تأثيرها على سياسات العديد من الفاعلين الإقليميين مُستقبلا. وتبدو أهمية ذلك من الإقرار الإسرائيلي منذ سنوات بأن العلاقات مع تركيا، منذ نشأتها في عام 1949، لم تكن أبداً علاقات ثنائية، بل تداخلت فيها قوى دولية وإقليمية على الدوام لتضعها في سياق أوسع من مجرد العلاقات العادية. ومع الأخذ في الاعتبار وقوع عدة تغيرات إقليمية خلال السنوات العشر الماضية -مثل عودة الاستقرار لمصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان في عام 2013، وتأسيس منتدى شرق المتوسط للطاقة، وانطلاق مسيرة السلام الإبراهيمي، وتأكيد إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن استمرار اهتمامها بالشرق الأوسط ونفي بعض التقديرات التي كانت تذهب نحو العكس- يرى الباحث سعيد عكاشة أن تركيا، التي اتبعت سياسات عدائية ضد العديد من القوى الإقليمية خلال نفس الفترة، قد أيقنت مؤخرا مدى الضرر الذي ألحقته هذه السياسات بمصالحها المباشرة، نتيجة اصطدامها بمصالح الكثير من القوى الإقليمية المُهمة، وتحديداً مصر وإسرائيل وبعض دول الخليج. سعيد عكاشة: التقارب التركي – الإسرائيلي يقلص النفوذ الإيراني في المنطقة ومن ثم لم تأت خطوة إعادة العلاقات التركية – الإسرائيلية بعيدة عن السياق الدولي والإقليمي، حيث تزامنت عودة هذه العلاقات مع تصريحات ودية تجاه مصر ودول الخليج من جانب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بالإضافة إلى الكشف عن لقاء جمع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع نظيره السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عُقد في أكتوبر الماضي بالعاصمة الصربية بلغراد. وأشار عكاشة، في ورقة بحثية لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إلى أن هذه التوجهات التركية تؤكد أن أنقرة أرادت من جانب تأكيد أنها في سبيلها إلى تغيير نمط سياستها الخارجية بشكل يخدم الاستقرار الإقليمي، كما رغبت في تفادي الاعتراض المُحتمل للرأي العام التركي -الذي تُظهر استطلاعات الرأي غلبة النظرة السلبية من جانبه تجاه إسرائيل- على خطوة إعادة العلاقات مع تل أبيب، وذلك عبر جعل تلك الخطوة في سياق تغيير كلي في السياسة الخارجية التركية وليس حيال إسرائيل وحدها. ويقول الباحث إنه يمكن تقسيم التداعيات الإقليمية المُحتملة لعودة العلاقات التركية – الإسرائيلية وفقاً لثلاث دوائر رئيسية، في مقدمتها التداعيات على دائرة شرق المتوسط، حيث تسبب تدهور العلاقات التركية – الإسرائيلية على مدى العقد الماضي في قيام تل أبيب بتقوية علاقاتها الاقتصادية والأمنية والعسكرية مع كل من اليونان وقبرص، لتعويض خسارتها للعلاقات مع أنقرة. كما أدى تأسيس “منتدى غاز شرق المتوسط” في عام 2019، والذي يستبعد تركيا ويجمع كلا من قبرص واليونان ومصر وإسرائيل والأردن وإيطاليا والسلطة الفلسطينية، إلى شعور أنقرة بالعُزلة مع احتمال عدم تمكنها من التوصل إلى اتفاق مع بعض هذه الدول لتمرير منتجها من الغاز عبر أنابيب تمر بتركيا وصولاً إلى أوروبا، وهو ما يشكل خسارة اقتصادية كبيرة لها في ظل المشكلات التي بدأت تظهر في المشروعات التركية – الروسية المُماثلة، خاصةً إثر نشوب الحرب الأوكرانية وتخطيط دول الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتمادها على واردات الغاز الروسي أو الاستغناء عنها كليّا. وتسبب عداء تركيا لمصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان، واتجاه أنقرة إلى الضغط على القاهرة عبر التدخل العسكري في ليبيا ومحاولة ترسيم الحدود البحرية معها، في تزايد التوتر في العلاقات بين تركيا وكل من مصر واليونان وقبرص. وبعد أن أدركت تركيا محدودية قدرتها على مواجهة كل هذه القوى الإقليمية في آنٍ واحد، صار الرئيس أردوغان يأمل في أن تلعب إسرائيل دوراً كبيراً في التوسط بينها وبين هذه الدول، سعياً لمنح تركيا نصيباً من ثروات الطاقة أو الفوائد اللوجستية المُترتبة على المشروعات المشتركة في قطاعي الغاز والطاقة بين هذه الدول. ولتحقيق ذلك صرح الرئيس أردوغان بضرورة السعي إلى تخفيف التوتر مع مصر بالإعلان صراحةً أنه لا يريد مواجهه تركية – مصرية في ليبيا. ◙ توجهات أردوغان بعد الانتخابات غير موثوق بها؛ فقد تتغير حساباته مرة أخرى ويعود إلى السياسات التي اتبعها في العقد الماضي لكن عملية تحسين العلاقات مع اليونان وقبرص تبقى مُعضلة حقيقية بالنسبة إلى تركيا، في ظل تأكيد إسرائيل أن تحسن علاقتها بأنقرة لا يعني الإضرار بعلاقاتها مع كل من اليونان وقبرص. ومن ثم لن يكون بوسع أنقرة المراهنة على دور إسرائيلي كبير في تخفيض التوتر مع هاتين الدولتين، ولكن يبدو أن تركيا تحاول التغلب على أزمة علاقاتها مع اليونان وقبرص عبر الامتناع عن أنشطة التنقيب عن الغاز في المياه الدولية أو تلك المُتنازع عليها مع الدولتين، على أمل أن تُسهم عملية تحسن العلاقات مع إسرائيل حالياً ومع مصر مُستقبلاً في تهيئة الظروف للتوصل إلى صيغة جماعية تقبل بها اليونان وقبرص وتراعي المصالح التركية في هذا الجانب. أما التداعيات الثانية فتخص الملف الإيراني؛ فبسبب التوتر الشديد في العلاقات الإسرائيلية – التركية ارتأت أنقرة تدعيم علاقاتها مع إيران، ومن ثم يبدو مُتوقعاً أن تؤدي عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب إلى شعور طهران بالقلق لعدة أسباب، أبرزها وفق عكاشة إمكانية حصول توافق بين إسرائيل وتركيا على نوع من التعاون لأجل إخراج إيران وربما روسيا من المُعادلة السورية، وهو ما يُشكل تهديداً كبيراً للطموحات الإيرانية في تعزيز نفوذها الإقليمي، كما أن من شأن تحسن العلاقات التركية – الإسرائيلية أن يُقلل من عوائد الجهد الذي بذلته طهران للتقارب مع أنقرة خلال العقد الماضي فيما يتعلق بالاتفاق على إبعاد النفوذ الإسرائيلي عن منطقة وسط آسيا. بالإضافة إلى ذلك تتخوّف إيران من زيادة التعاون العسكري والأمني بين أنقرة وتل أبيب كما كان الوضع عليه في تسعينات القرن الماضي، بحيث تستعيد إسرائيل موقعاً مُتقدماً لمراقبة الأنشطة التسليحية لإيران، مع عدم استبعاد أن يؤدي هذا التقارب مُستقبلاً إلى انضمام تركيا -التي تسعي للاستفادة من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المُتطورة- إلى المعسكر المُنادي بوضع قيود مشددة على مشروع إيران النووي وعلى تجاربها لإنتاج الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية. كما تخشى طهران من تأثير عودة العلاقات التركية – الإسرائيلية على التفاهمات التي توصلت إليها مع أنقرة في يوليو الماضي والتي تستهدف رفع التبادل التجاري بين البلدين من 7 مليارات دولار حالياً إلى 30 مليار دولار خلال العقد القادم. وتطرق الباحث السياسي في تقريره إلى تداعيات التقارب التركي – الإسرائيلي على منطقة الخليج العربي، حيث رأى أن ذلك قد يؤدي إلى تزايد مخاوف طهران من احتمال انضمام أنقرة إلى اتفاقات السلام التي وقعتها دول خليجية مع إسرائيل، وهو ما تسعى إليه إسرائيل باعتبار أن الدائرة الأوسع لتلك الاتفاقيات ينبغي أن تشمل الدول الإسلامية غير العربية. ويرجح أن يتسبب الخوف الإيراني من خروج تركيا من “جبهة العداء” للاتفاقيات الإبراهيمية، على الأقل، في توتر علاقاتها مع بعض الدول المُوقعة على الاتفاقيات، خصوصاً في ظل حرمان إيران من المنافع التي ستترتب على التعاون الاقتصادي والأمني والتكنولوجي بين دول هذه الاتفاقيات. وعلى الجانب الآخر ربما تستفيد إسرائيل من عودة علاقاتها مع تركيا في استغلال الأخيرة لإقناع دول أخرى في المنطقة بفكرة تبني خطوات مُماثلة مع تل أبيب، وبشكل يؤدي في النهاية إلى استقرار السلام بين إسرائيل والدول العربية وتوسيع مداه عربياً وإسلامياً بمعاونة تركيا على وجه الخصوص. تركيا تحاول التغلب على أزمة علاقاتها مع اليونان وقبرص عبر الامتناع عن أنشطة التنقيب عن الغاز في المياه الدولية أو تلك المُتنازع عليها مع الدولتين لكن عكاشة يقول إن كل الاحتمالات تظل مجرد تصورات نظرية تحتاج إلى اختبار في الفترة القادمة؛ كون العلاقات التركية – الإسرائيلية محكومة بأهداف متعارضة لكلا الطرفين تحد من إمكانية المراهنة على استمرارها وتطويرها مُستقبلاً، خصوصاً أن الحكومة الإسرائيلية الحالية هي “حكومة تصريف أعمال” ومن السابق لأوانه معرفة نوع السياسات التي ستتبناها الحكومة المُنتخبة القادمة في ظل الاحتمال الوارد جدا لعودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم مرة أخرى، والذي تتسم علاقته مع الرئيس أردوغان بالتوتر وتتصف بكونها علاقة عدائية. في المقابل قد يعاني أردوغان من تراجع شعبيته حالياً بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تركيا، ويعتقد خبراء أن أردوغان ربما يناور باستعادة علاقته مع إسرائيل قبل أشهر قليلة من الانتخابات العامة في تركيا والمُقررة العام القادم؛ لكي تساعده في جذب الاستثمارات الخارجية، على أمل أن يتمكن من البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة. لكن وفقاً لهؤلاء الخبراء لا يمكن الثقة في استمرار توجهات أردوغان بعد الانتخابات، وقد تتغير حساباته مرة أخرى ويعود إلى السياسات التي اتبعها في العقد الماضي والقائمة على ابتزاز القوى الإقليمية والدولية لتحقيق المصالح التركية، وليس على قناعة حقيقية بضرورة التوافق حول سياسات تحقق مصالح كل الأطراف في آنٍ واحد.
مشاركة :