مع اقتراب ختام عام عاصف وعسير في التعامل مع روسيا، قد ينظر المرء الى معارك ومفاجآت 2015 في سبيل استخلاص توقعات وتنبؤات عن هذا العام، فيتوقف عند معركة ديبالتسيفي (شرق أوكرانيا) وعمليات موسكو في سورية، والأزمة مع تركيا. ويعيش الخبراء والسياسيون الذين يتناولون الشأن الروسي، على وقع حوادث متباينة من التدخلات العسكرية والأزمات، الى الانحراف عما تقتضيه العلاقات الثنائية. وإذ يلهث المراقبون وراء الحوادث، قد يخلصون الى تنبؤات ليست في محلّها، ومنها: 1- الحكومة الروسية هشة. ويُقال أن نظام فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، مصدر خطر في الأمد القصير، وأنه قد يتداعى في القريب العاجل، وأن الاضطراب سيهزّ لا محالة روسيا. وإثر كل أزمة، يسارع محللون الى توقّع أفول بوتين. لكن علوم التنبؤ بمآل الأنظمة وأفولها متأخرة حتى عن علم التنجيم. لذا، حريّ بنا ألا ننسى أن قلة فحسب توقعت الأفول السريع للاتحاد السوفياتي، واندلاع الربيع العربي، أو سقوط فيكتور يانوكوفيتش في أوكرانيا إثر الاحتجاجات في ميْدان. وثمة نموذجان يدحضان مثل هذه التوقعات: باكستان، على سبيل المثل، وهي بلد لا يفهم تماسكه الى اليوم وعدم انهياره على وقع مشكلات كثيرة، وكوريا الشمالية. ولاحظ وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، ساخراً، أن سجل (أميركا) في التكهُّن باندلاع الأزمات «ممتاز... فنحن لم نصب يوماً». وليس القصد مما أسوقه أن احتساب أحوال استقرار الكرملين هو مضيعة وقت، لكنه واحدة من طبقات تحليل مركب ومعقد لا يقطع شكاً بيقين. وفي 2018، تُمتحن هشاشة النظام الروسي حين يعلن الروس موقفهم من انتخاب بوتين مجدداً. ولا أحد يعرف ما ستكون عليه حينها حال الاقتصاد وقيمة العملة الروسية أو حجم احتياط العملات الأجنبية أو أسعار النفط أو مواقف روسيا. 2- مشكلة الولايات المتحدة هي مع بوتين نفسه وليس مع روسيا. لا شك في أن شخصية مَنْ يتربع في سدة السلطة تؤثر في القرارات الرئاسية، وربما لم يكن رئيس روسي آخر ليضمّ القرم ويجتاح أوكرانيا رداً على فوز حركة الميدان الأوكراني. ولكن، إذا افترض المرء أن المشكلة مردها الى بوتين، وجب على الدول عدم مساومة موسكو وتفادي تدهور العلاقات معها في انتظار الرئيس المقبل. لكنني أرى أن هوية هذا الرئيس لن تغيّر في الأمر شيئاً. فشواهد التاريخ الروسي تظهر أن بوتين لا يغرد خارج سرب القيادات الروسية (والسوفياتية) السابقة، وأنه يمشي على خطى أسلافه. وردت السياسة الخارجية الروسية والسوفياتية، على إرساء الأمن الإقليمي الروسي من طريق تقويض سيادة دول الجوار. فالتباين بين سياسة بوتين وسياسة بوريس يلتسن- أول رئيس روسي ديموقراطي- ضعيف. ويُقال أن الفرق مردُّه الى وهن روسيا وعجزها عن تحدّي الاتفاقات الأمنية في أوروبا ما بعد الحرب الباردة. وفي مطلع 2014، دعا هنري كيسنجر واشنطن الى عدم «الانشغال» ببوتين (عن صوغ سياسة واضحة)، وكتب: «شيطنة فلاديمير ليست سياسة، بل هي ذريعة تسويغ الافتقار إليها (السياسة)». والتزم يلتسن توسّل القوة لبلوغ غايات سياسية في روسيا ومحيطها: التدخل في تراسنيستريا وطاجيكستان في 1992، وأبخازيا في 1993، واستخدام الدبابات في قمع الأزمة الدستورية في موسكو، وحرب الشيشان الأولى بين 1994 و1996، وسيطرة قوات روسية غير نظامية على مطار بريستينا الدولي (أكبر مدينة في كوسوفو) عام 1999، قبل انتشار قوات حلف الأطلسي في كوسوفو. وندّدت إدارة يلتسن بمناورات عسكرية غربية، وشكت توسّع الحلف والتدخل العسكري الأميركي. وفي عهد يلتسن في التسعينات، عدلت روسيا عن السعي الى التزام الديموقراطية. 3- موسكو عاجزة عن مواصلة نهج المواجهة مع الغرب. يدور الكلام على الضعف الاقتصادي الروسي لدى مناقشة هل موسكو قادرة على المضي قدماً في المواجهة. وسردية أن أموال روسيا ستنفد في القريب العاجل غالبة الكفة في الغرب، على رغم استقرار الاحتياط الروسي من العملات الأجنبية وارتفاعه ارتفاعاً متواضعاً في الأشهر الأخيرة. ولكن، لماذا نتكلّم عن روسيا كما لو أنها مصرف أو شركة، ونظامها خرج سالماً من إعلان الإفلاس في1998؟ آنذاك، لم يتقاضَ عامة الروس رواتبهم طوال أشهر إبان الأزمة المالية والنقدية العاصفة، ولم ينتفضوا على النظام. وأعلن بوتين إصلاحات عسكرية طموحة في 2009، يوم كانت أسعار النفط متدنية (البرميل 35 دولاراً). وعلى رغم أن الاقتصاد الروسي بدأ ينكمش في ختام 2013، اجتاحت روسيا أوكرانيا وضمّت القرم إليها في 2014. وإثر أزمة 1998 وشنّ حرب الشيشان الثانية في 1999، بلغ بوتين السلطة. ولكن، هل كان الاقتصاد يوماً ركن القوة الروسية في النظام العالمي؟ لطالما بدا أن روسيا هي رجل أوروبا المريض، فهي متخلّفة عن الدول الأوروبية تكنولوجياً واقتصادياً، ونظامها السياسي يعجز عن النزول على حاجات الروس. لكن الاتحاد السوفياتي لم يكن يوماً قوة عظمى اقتصادياً تهدّد اقتصاد الولايات المتحدة أو الغرب. ففي أواخر الستينات، وفي ذروة نموّه، بلغ الناتج المحلّي السوفياتي 57 في المئة من نظيره الأميركي، قبل أن يبدأ بالتقهقر. واليوم، يرى عدد كبير من المسؤولين الأميركيين أن روسيا مصدر خطر استراتيجي وغريم وازن يهدّد حلف الأطلسي، على رغم أن ناتجها المحلي هو بالكاد عشر نظيره الأميركي، وأن اقتصادها يمثل 3.3 في المئة من الناتج العالمي. 4- روسيا عاجزة عن مواصلة العمليات العسكرية. في مطلع 2015، راجت رؤية مفادها أن القوات المسلّحة الروسية يُثقل عليها التدخل في أوكرانيا، وأنها بدأت «تغرق» هناك. لكن هذه الرؤية تبددت في أيلول (سبتمبر) المنصرم، حين بدأت موسكو عملية عسكرية واسعة في سورية، ونظمت مناورات استراتيجية ضخمة. ويقال أن الحاجة أمّ الابتكار: صادرت روسيا سفناً تجارية تركية واستخدمتها في رفع عدد قواتها في سورية وتوسيع انتشارها. وأمكن موسكو تمويل إطلاق صواريخ كروز، على أنواعها، والحفاظ على موازنة عسكرية هي الأعلى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مقدارها 4.2 في المئة من الناتج الروسي، أي 3.3 تريليون روبل. وغالباً ما ينظر المحللون الى روسيا وكأنهم محاسبون في شركة، فيتناسون خبراتهم في التحليل الجيواستراتيجي. 5- روسيا قوة تأفل. أرى أن روسيا قوة تأفل، وأن بنيتها تضعف شيئاً فشيئاً. لكنني أتساءل اليوم عن وزن مثل هذا التقويم والفائدة التي تُرتجى منه. فأفول روسيا، إذا كانت تأفل، بطيء الوتيرة، وقادتها لا يصدعون بمثل هذا المآل. 6- تراجع عدد سكان روسيا يحدّد مصيرها. تعتبر مشكلات روسيا السكانية البيّنة الأبرز على أفولها البنيوي. فيقول الخبراء أن هذا البلد لن يسعه في الأمد البعيد تهديد الغرب، ويتنبأون بالمشكلات الناجمة عن اضطرابه. لكن مما لا شك فيه، أن روسيا تملك ما يكفي من الرجال للاحتفاظ بـ1550 سلاحاً نووياً استراتيجياً، وقوات تقليدية تضاهي قوات دول الجوار، ما خلا الصين. ورفعت موسكو عديد جيشها من 667 ألفاً في 2012 الى 900 ألف جندي اليوم، والاقتصاد الروسي والموازنة يعتمدان على النفط واستخراج الموارد، ومثل هذه الصناعات لا يقتضي يداً عاملة ضخمة. وروسيا تستقبل موجات كبيرة من الأيدي العاملة الآتية من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وهي ثالث أو ثاني أكبر وجهة للمهاجرين في العالم. ولكن، هل في إمكان روسيا تجنيس هذه اليد العاملة، وما أثر التجنيس في التماسك الاجتماعي؟ وهل تختلف مشكلات روسيا السكانية (شيخوخة المجتمع) عن مشكلات عدد كبير من الدول المتقدِّمة بين حلفاء أميركا؟ * محلّل، عن «وور أون ذي روكس» الأميركية، 23/12/2015، إعداد منال نحاس
مشاركة :