إذا كان المرء قد اضطر الى أن ينتظر عصور الرومانسية ثم بدايات القرن العشرين قبل أن يواجه مكانة جديدة للشاعر، تحوّله الى أسطورة، - ليس بفضل أشعاره وحدها أو بفضل اشتغاله المتجدد على لغة الشعر نفسها أو حتى ارتباط شعره بحركية المجتمع الذي يسري من حوله، وليس فقط بما حدث في الماضي وأساطيره -، بل كذلك بفضل ارتباط حياته بأشعاره (رامبو، بودلير وفرلين وكثر غيرهم)، فإن أواسط القرن الخامس عشر الفرنسي، كانت قد شهدت ناحيتها وفي وقت مبكر للغاية، حياة وكتابات شاعر عرف كيف يبكر في التحوّل الى أسطورة. وكان واحداً من أول الشعراء الفرنسيين الذين طغى لديهم عنصر الذات على عنصر الموضوع، وجعل ذلك العنصر همه وموضوعه الأولي في وقت كانت إنسانية عصر النهضة بالكاد قد بدأت باكتشاف الفردية والعنصر الذاتي في الآداب والفنون. > إنه فرنسوا فيون، ذو الاسم الساحر والشعر الذي يعتبر عادة فاتحة الشعر الإنساني الفرنسي، وكذلك ذو المصير الغامض الذي أتى في نهاية حياته ليزيد إضافات أساسية الى البعد الأسطوري في تلك الحياة، وليكشف كم أنه يمكن الشاعر أن يجعل من حياته وشعره شيئاً واحداً. ومن هنا، يكثر في الشعر الفرنسي بخاصة، والحياة الثقافية الأوروبية بصورة أكثر عمومية، ومنذ استعادة ذلك الربط الرومانسي بين الحياة والشعر، الحديث عن فيون والإشادة به، واعتباره مثلاً يحتذى، بما في ذلك بالنسبة الى الجانب الأكثر ظلاماً وشراً في حياته، هو الذي ما عرف الهدوء طوال تلك الحياة، بل أمضى سنوات عديدة منها في السجون وفي إثارة المشكلات، خائضاً السجالات الدامية وحتى المبارزات العنيفة مع الآخرين، سواء كانوا شعراء أو من أهل السلطة والبلاط أو حتى من الناس العاديين الذين بالكاد كانوا يعرفون شيئاً عن حياته وشعره، معبراً عن ذلك كله لاحقاً في شعر ينبع أصلاً من رحم تلك التجارب الحياتية اليومية، سرعان ما كان ينتشر بين طبقات الشعب، وذلك في شكل خاص بفضل كتابته بلغة كانت أقرب الى المحكية – ما كان يعتبر في مقاييس تلك الأيام نوعاً من الهرطقة التي تشبه على سبيل المثل «البدعة» التي جاء بها في لبنان الشاعر الراحل سعيد عقل، مرة حين دعا الى كتابة الشعر كله بالمحكية اللبنانية، ومرة حين دعا الى استخدام الحرف اللاتيني لكتابة الشعر العربي، علماً أن معركة فيون كانت أشدّ ضراوة، لأن اللغة الرسمية في ذلك الحين كانت نوعاً من النحوية اللاتينية، كانت ذات قداسة تفوق ما يُسبغ اليوم على قداسة الفصحى العربية، لكن هذه طبعاً حكاية أخرى لن نتوقف طويلاً هنا عندها -. حكايتنا التي نعود إليها هنا، هي حكاية الشاعر فرنسوا فيون الذي كتب أشعاره في تلك الأزمان المبكرة لاجئاً الى أسلوب بسيط معبر عن ثنايا الروح، بالتعارض مع الأسلوب الفخم والكلاسيكي الذي كان يُكتب به الشعر في ذلك الحين. وعلى رغم وجود العديد من القصائد الطويلة التي تنسب عادة الى فرنسوا فيون، الذي غناه الشعراء الفرنسيون كثيراً في القرون الأخيرة، فإن ثمة من بين أشعار فيون قصيدة تعتبر انعطافية في مساره الشعري، كما تعتبر تأسيسية في الشعر الفرنسي الحديث، وهذه القصيدة هي «أغنية المشنوقين». > تقول الحكاية أن فرنسوا فيون كتب «أغنية المشنوقين» بوحي من فترة حكم عليه فيها بالإعدام، بعد أن أودع السجن من جديد في العام 1462. وهو كتبها وسط تأمله حاله كما حال رفاقه في السجن من البائسين الذين رأى فيون مبكراً في ذلك الزمن، أن أحوال المجتمع هي التي قادتهم الى الجريمة، لا رغبة الأقدار وحدها. ومن هنا، انطبعت القصيدة بدرجة عالية من الحزن والواقعية، وبكونها - من ناحية الموضوع - تتجاوز كثيراً، الحكي عن السجن والحكم بالإعدام، لتطاول الشرط الإنساني في صميمه، ويأس الإنسان وعجزه، أمام ذلك الشرط. > في الأصل، كان فيون جعل عنوان قصيدته «شاهدة قبر فيون»، غير أن ناشري القصيدة بعد ذلك غيروا العنوان الى «أغنية المشنوقين» لأنهم رأوا أن هذا يناسبها أكثر، فعرفت به. ولقد اشتهرت هذه الأنشودة الى حد كبير، وقلدت كثيراً، وهي تعتبر من أجمل ما كتب فيون خارج إطار القصائد التي تشغل «وصيتيه» (الكبيرة والصغيرة) وتشكلان آثاره الأساسية. في القصيدة/ الأنشودة هذه، يحدثنا فيون عن وجوده في السجن، ويصف كيف أنه رأى نفسه، مسبقاً، مشنوقاً تنفيذاً لحكم المحكمة، مع عدد من رفاق بؤسه، وقد غسلتهم أمطار الشتاء، وجفّفتهم قوة الشمس ومزّقتهم العقبان وغيرها من طيور الموت، ثم عبثت الرياح بهم. غير أن هذا كله لا يدفع فيون الى القول أنه ظُلم في ذلك الحكم الذي صدر عليه. كان حكماً عادلاً في رأيه، وكان هو يستحقه، حتى وإن لم يكن واثقاً من أن الآخرين يستحقون ما أنزل بهم من أحكام. وهو، إذ يعترف بهذا، يطلب الرحمة وأن يُرأف به ويُبعد عنه ذلك المصير الذي أخذ يتصوّره وينزل به الرعب، دافعاً إياه الى التوبة. كانت خلاصة ما يطلبه فيون في قصيدته طلب رحمة الباري به وبأمثاله: «لقد أخطأنا وخطايانا كبيرة، لكن هل نحن حقاً مسؤولون عن أخطائنا؟». كانت تلك واحدة من المرات الأولى التي يدين، فيها، شاعر، المجتمع وليس أعداء معينين، على ما لحق به وما أصابه وجعله يرتكب، هو بدوره، الشر في حق المجتمع وفي حق الآخرين. > على رغم جمال القصيدة/ الأنشودة وما ينضح منها من صدق ورغبة حقيقية في التوبة، ثمة ما يشبه الإجماع لدى النقاد والمؤرخين، على أن فرنسوا فيون لم يكتبها حقيقة في السجن وتحت ضغط التهديد بإعدامه شنقاً. فالواقع أن الإعدام لم يتم في ذلك الحين، بل إن فيون سومح في نهاية الأمر من «برلمان باريس»، لكنه منع من دخول المدينة اعتباراً من يوم الخامس من كانون الثاني (يناير) 1463. وهو امتنع بالفعل عن دخولها منذ ذلك اليوم. لكنه في الوقت نفسه اختفى تماماً، ولم يعد أحد يراه، بعد أن نشر قصيدته تلك. وكان اختفاؤه وانتشار القصيدة في وقت واحد، مدعاة لتضخّم أسطورته وتحوّله الى حكاية غريبة يتناقلها الشعراء والرواة، كما لا يزالون يفعلون حتى اليوم. > وُلد فرنسوا فيون واسمه الأصلي فرنسوا دي مونكوربييه، في باريس في العام 1431، وهو ولد يتيماً فرعاه ورباه خاله غيوم دي فيون، فحمل اسمه. في البداية، تلقى فرنسوا الشاب، علومه في جامعة السوربون حيث نال شهاداته، لكنه في الوقت نفسه اختلط بمجموعة من الطلاب الشبان العابثين الذين كانت معاهد التعليم الفرنسية بدأت تمتلئ بهم، في عصر شهد الانتقال من الصرامة الدينية والأكاديمية الى نوع من الاندفاع نحو الذات. وهكذا تحول الطالب النجيب الى «فاسق عربيد» وفق ما كتب بعض المحافظين في ذلك الحين، في الوقت نفسه الذي راح يكتب فيه شعراً، حافلاً بالعبارات الشعبية والمعاني المتمردة. وكانت النتيجة أن أودع السجن، لكنه سرعان ما خرج منه، ليصطدم بقسيس ويقتله، ما اضطره الى الهرب فترة عاد بعدها الى المدينة وقد صفح عنه. > غير أنه بدلاً من أن يخلد الى الهدوء هنا، شارك في سرقة في العام نفسه الذي كتب فيه «الوصية الصغيرة» أو «لاييس»، وهي أشعار عابقة بالحزن والتمرد مهّدت لاعترافاته التي ملأت «الوصية الكبيرة» لاحقاً. في العام 1456، أرغم فيون مرة أخرى على مبارحة باريس، ووصل الى بلوا حيث شارك في مسابقة شعرية كتب خلالها قصيدته الرائعة «أموت عطشاً قرب النبع». بعد ذلك، سجن مجدداً، وكان ذلك تمهيداً لدخوله السجن وخروجه منه مرات ومرات، حتى كانت المرة الأخيرة بعد أن حكم عليه بالشنق، ثم خرج ليختفي الى الأبد، مخلفاً كتذكار على أيامه الأخيرة «أغنية المشنوقين».
مشاركة :