إبراهيم كانو.. الأب الروحي لإذاعة البحرين وكبير رموزها

  • 9/5/2022
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

معظم الذين ولدوا في البحرين أو في دول الجوار الخليجي القريبة، ولاسيما المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، مع انتصاف القرن العشرين تحفل ذاكرتهم بقصص وحكايات عن إذاعة البحرين اللاسلكية التي كانت أول محطة إذاعية تبث من منطقة الخليج العربي. فقد عاشوا سنوات شبابهم على أثيرها، وتماهوا معها وجدانيا، واستقوا من برامجها ثقافتهم المبكرة، وكانت أحد المصادر القليلة لتسليتهم والترفيه عنهم. تقول أدبيات الإعلام المسموع في الخليج والجزيرة العربية أن أول إذاعة تؤسس في المنطقة كانت إذاعة البحرين الأولى التي أسستها سلطات الحماية البريطانية، لتزويد الجمهور بآخر تطورات الحرب العالمية الثانية، وأيضا لمواجهة دعايات إذاعة «هنا برلين.. حي العرب» النازية، وقد افتتحها المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة بكلمة في مقرها بمبنى المحاكم بتاريخ 4 نوفمبر 1940م. عن هذه الإذاعة كتب الباحث عبدالعزيز يوسف السيد في كتابه «مسيرة وطن» ان الحكومة قررت زمنذاك فرض رسوم سنوية على استعمال الراديو قدره روبيتان (ألغي القرار في عام 1945)، وأن عدد من كان يمتلك جهاز راديو آنذاك لم يتعد 68 شخصا.   إبراهيم علي كانو بين زمنين   ثم جاءت بعدها الإذاعة السعودية من مكة المكرمة التي أمر الملك عبدالعزيز آل سعود بإنشائها عام 1949 بمرسوم ملكي تضمن «ضرورة التزامها بالصدق والامانة والواقعية، والالتزام بالموضوعية، وعدم التعرض لأحد بالشتم أو التعريض بأحد أو المدح الذي لا محل له، كما أكد ضرورة الاهتمام بالأمور الدينية وإذاعة القرآن الكريم والمواعظ الدينية». هذه الاذاعة اتخذت من جدة مقرا لها، وساهمت مصر في تنشيطها بناء على اتفاقية أبرمت بين البلدين، ومضت سنوات طويلة مذاك قبل تدشين إذاعة سعودية تبث من الرياض عام 1964. غير أن المعروف لدى سكان الرياض هو ظهور إذاعة خاصة قبل ذلك التاريخ كانت تسمى «إذاعة طامي» نسبة إلى من انشأها بمجهوده الفردي وهو «عبدالله بن سليمان بن عويد بن طامي»، حيث كانت تبث بعض الاغاني والمواعظ الدينية والاخبار الاجتماعية، إضافة إلى نداءات حول التائهين من الأطفال والمواشي. أما الكويت فقد عرفت البث الإذاعي ابتداء على يد عائلة بهبهاني التي كان لديهم جهاز ارسال في منزلهم فكانوا يبثون من خلاله الموسيقى والاغاني الشعبية في أواخر الاربعينات، لكن إرسالهم كان ضعيفا ولا يغطي سوى دائرة ضيقة من البلاد. وهكذا فإن اللبنة الاولى للبث الاذاعي في الكويت وضعها المرحوم مبارك الميال الذي تأثر بجهود المذيع العراقي يونس بحري فقرر استثمار معلوماته حول الامور السلكية واللاسلكية وجهود صديقه الباكستاني محمد خان في تحويل جهاز لاسلكي بقوة نصف كيلوواط إلى جهاز يبث موجات قصيرة وطويلة بترددات تبلغ المئات من الكيلوهرتز من داخل غرف الأمن العام في قصر نايف حيث كان الميال يعمل آنذاك.  وتعود بدايات البث الاذاعي في دولة الامارات إلى عام 1961 حينما أطلق مواطن من عجمان يدعى «راشد عبدالله بن حمضة العليلي» إذاعة شعبية بمجهوده الشخصي وكنتيجة لولعه بتصليح أجهزة الراديو الذي كان تعلمه من العمل لدى أحد الهنود في بمبي. واستمرت هذه الاذاعة البدائية ذات الارسال المحدود إلى عام 1965 حينما تأسس ما عرف بـ«إذاعة صوت ساحل عمان» من الشارقة والتي أسسها الانجليز بمساعدة المدرس الفلسطيني «سليم عرفات البايض»، وكانت تبث من داخل قاعدتهم العسكرية بالشارقة بقوة 2 كيلوواط قبل أن يزيدوها إلى 4 كيلوواط فصارت برامجها الطربية والدينية والاخبارية والثقافية مسموعة في كل الإمارات إضافة إلى عمان.   كانو خلف الأمير الشيخ عيسى وأخيه الشيخ خليفة والشيخ عيسى بن راشد آل خليفة في الستينات   بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتفى الغرض من إذاعة البحرين الأولى، فأغلقت وعاشت البحرين عقدا من الزمن تقريبا دون إذاعة إلى أن تقرر تأسيس إذاعة جديدة، افتتحها عظمة حاكم البحرين وتوابعها المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في 21 يوليو 1955. وكانت هذه الإذاعة الجديدة بقوة كيلووات واحد فقط وفترة بث لا تزيد على الساعتين في اليوم، لكن ساعات البث ازدادت تدريجيا حتى وصلت إلى 18 ساعة متواصلة، مع تنوع البرامج واكتشاف الأصوات الرجالية والنسائية الواعدة. ما يعنينا هنا هم الرجال الأوائل الذين ساهموا في تأسيس إذاعة البحرين اللاسلكية من الصفر، وعملوا على إدارتها وانجاحها وتوصيل صوتها إلى الخارج وانتاج وتقديم برامجها في زمن الموارد القليلة والامكانيات المحدودة والحياة البسيطة. من بين هؤلاء يبرز إسم «إبراهيم علي ابراهيم محمد أحمد مبارك هلال كانو» صاحب الصوت الرخيم القوي والإذن الموسيقية والطول الفارع والمواهب المتعددة والشخصية الآسرة الطيبة الذي كان أول مدير لهذه الإذاعة، وقوتها الدافعة ولولبها المتحرك ومنتج معظم برامجها لسنوات، قبل أن ينتقل إلى الديوان الأميري زمن الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة للعمل كمستشار إعلامي.   كانو مع رئيس الوزراء الراحل الشيخ خليفة خلال جولة تفقدية لسموه في الإذاعة عام 1974م   ولد كانو (الذي لم أقابله شخصيا لكني عرفته صوتا نقيا مزمجرا منذ سنوات صباي وشبابي) في المنامة عام 1921، ونشأ في فريج كانو المعروف بوسط العاصمة، ودرس بمدرسة الهداية الخليفية بالمحرق، ثم أكمل تعليمه في الجامعة الأمريكية في بيروت. وحينما كان تلميذا بمدرسة الهداية برزت مواهبه الكثيرة من خلال الأنشطة المدرسية المتنوعة، خصوصا وأنه كان هاويا للقراءة والإطلاع وشغوفا بالشعر والتراث العربي الإسلامي. فمن ناحية برز كخطيب في المناسبا والاحتفالات المدرسية وغيرها بفضل صوته الجهوري المتميز، ومن ناحية أخرى برز في الأنشطة الرياضية المتنوعة ولاسيما لعبتي الطائرة والسلة بفضل طوله الفارع، ومن ناحية ثالثة لمع اسمه في النشاط المسرحي بسبب عشقه للروايات والقصص.   كانو مع عظمة الحاكم الشيخ سلمان بن حمد يوم افتتاح الاذاعة في يوليو 1955   على خلاف الآخرين من أبناء الأسر المعروفة، فضل كانو أن يعتمد على نفسه في بداية مشواره، فاقتدى بمواطنيه الذين كانوا في أربعينيات القرن العشرين يولون وجوههم شطر السعودية بحثا عن العمل والرزق، فسافر إلى الخبر بحرا ومنها انتقل إلى مدينة عرعر في الشمال السعودي للعمل في مشروع شركة أرامكو الجبار لمد خط التابلاين عبر الصحاري القاحلة لنقل البترول إلى ميناء صيدا اللبناني. بعد فترة من العمل المضني هناك عاد إلى البحرين فعمل في بلدية المنامة، ومنها انتقل للعمل لدى شركة نفط البحرين (بابكو) لفترة من الزمن. إلى ذلك، دفعه شغفه بالرياضة للعمل مدرسا للتربية البدنية في المدرسة الشرقية بالمنامة لبعض الوقت، خصوصا وأنه كان لاعبا وحارسا للمرمى وحكما ناجحا، بل من أوائل البحرينيين الذين مارسوا تحكيم الكرة ضمن الدوري العام. وقد قاده عشقه للرياضة وتشجيعه لنادي النسور بالمنامة (النادي الأهلي حاليا) إلى طلب عضوية النادي فصار من أعضائه المهمين وممن عملوا في سبيل رفعته وريادته في العديد من الألعاب. ومثلما برز كانو كعضو فعال وناشط في الحركة الرياضية البحرينية، فإنه كان أيضا من الشخصيات الفاعلة والنشطة في الحركة المسرحية. ولعل ما ساعده على اقتحام المسرح بنجاح قراءاته المتنوعة وصوته المميز وجمال إلقائه، ناهيك عن براعته في اللغة العربية والشعر الفصيح. وهكذا أسس كانو لنفسه تاريخا مسرحيا حافلا، أولا من خلال المشاركة في عدد من المسرحيات المحلية المقامة على مسارح المدارس والأندية، ولاحقا من خلال التمثيليات والمسرحيات والمسلسلات التي أعدها للإذاعة وشارك في بعضها شخصيا، ومنها على سبيل المثال المسلسل الإذاعي «البؤساء» الذي شارك فيه كانو متقمصا بصوته دور بطل القصة «جان فالجان».   كانو يسجل خطاب أنور السادات عام 1958 خلال توقف الأخير بمطار البحرين   كان عظمة الشيخ سلمان قد سمع عن كانو ومواهبه وصوته ونبوغه في الخطابة والإلقاء والتعليق على مهرجانات المدارس الختامية، فاستدعاه في حفلة سباحة أقيمت في عين عذاري أوائل عام 1955، وطلب منه الاستعداد للعمل في إذاعة ستؤسس قريبا، فرد كانو: «أنا دائما في خدمتكم وستجدوني عند حسن ظنكم». يقول حسين محروس في كتابه عن إذاعة البحرين الموسوم «سيرة الكلام» والصادر عام 2008 أن مستشار حكومة البحرين آنذاك سير تشارلز بلغريف اتصل به في اليوم التالي وأخبره بأنه تمّ اختياره لتأسيس الإذاعة، وسأله عمن يريد أن يكون معه مسؤولا عن الكونترول، فاختار صديقه عبدالرحمن عبدالله الذي بدأ معه في الإذاعة ورافقه لسنوات ثم خلفه في منصب المدير. وقتها كان عبدالرحمن عبدالله ينتظر ردا من شركة بابكو على طلب توظيفه، لكن كانو أغراه بالعمل سويا والتعاون في انتاج البرامج، فوافق. وهكذا حمل كانو على عاتقه المهمة الصعبة، وكان الصوت الأول الذي انطلق من الإذاعة في يوم افتتاحها قائلا: «سيداتي آنساتي سادتي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، باسم الله نبتديء، وعلى اسم الله نسير، لا نأخذ على الغيب عهدا، ولكن نقطع على أنفسنا وعدا. إنها خطوة مباركة في عهد عظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، حاكم البحرين المفدى، الذي لم يأل جهدا في توفير كل وسيلة من وسائل الثقافة والرقي لأبناء شعبه الكريم. نعم ستكون لنا أهداف وسنفرض على أنفسنا برامج، ولكن بمعاونتكم ومؤازرتكم وتكاتفكم مع هذه الإذاعة التي تحمل اسمكم ونعتبرها منكم وإليكم. وخلاصة أهدافنا هي تعريف العالم العربي بنا، وتعريف نفسه بنفسه، وستكون أداة للتثقيف والتسلية، وتحاول أن تلتقي بالناس قدر استطاعتها، لتسد جانبا من الفراغ على نحو طيب معقول من التسلية المحترمة المقبولة». عن بدايات عمله في الإذاعة وما واجهه من مصاعب قال كانو(بتصرف):«بدأنا العمل وحمد بلغريف (ابن مستشار الحكومة) مشرف علينا، وبعض البرامج يتم إعدادها في دائرة الإعلام وترسل إلينا لتقديمها إلى جانب برامج خفيفة كنا نعدها نحن ونسجلها ونذيعها. لم يكن لدينا في الإذاعة وقتها سوى الأسطوانات، أما المؤثرات الصوتية فكنا نتحايل لصنعها، فمثلا كنا نأتي ببانكة (مروحة) وخوص من سعف النخيل نضعه أمامها للحصول على صوت الريح، وللحصول على صوت صدى كنا نضع السماعة قرب المروحة، وللحصول على صوت الماء كنا نحضر طشتا به ماء ونحركه أمام الميكرفون». ويضيف كانو متذكرا: «في الستينات انضم إلى أسرة الإذاعة المدرس الموهوب «عتيق سعيد»، فبدأنا نقدم التمثيليات، وتغلبنا على نقص أشرطة التسجيل باستخدام الشريط الواحد عدة مرات، نسجل مادة ونمسحها لإستخدامه في مادة أخرى».   كانو يقرأ نشرة الأخبار من داخل دار الإذاعة في الخمسينات    والمعروف أن كانو هو الذي كان يحرر نشرة الأخبار مستقيا محتواها من المحطات الإذاعية الأخرى. لذا كان يحرص دوما على أن يقرأ النشرة بنفسه، خصوصا إذا كانت تتضمن أخبارا هامة، ما جعل المستمعين ينصتون إليه جيدا كلما كان هو قارئ النشرة. وفي هذا السياق أخبرني إبن إذاعة البحرين الراحل الأستاذ سعيد الحمد رحمه الله أنه كان من الصعب في تلك الأيام الوصول إلى كانو لاستدعائه إلى دار الإذاعة لتلاوة الأخبار المهمة، بسبب عدم انتشار الهواتف بعد، فتم الاتفاق بينه وبين زملائه على أن يذيعوا أغنية «النهر الخالد» لمحمد عبدالوهاب كإشارة على ضرورة قدومه إلى دار الإذاعة فورا لقراءة الخبر الهام. وفي السياق نفسه قال كانو عن نشرات الأخبار من إذاعة البحرين ما ملخصه أن الناس كانت تغضب من سماع أخبار لا تتطابق مع هواها، أو لا يعجبها. حدث ذلك مثلا عندما قرأ كانو أخبار هزيمة السادس من حزيران 1967، فرفض المستمعون تصديقه، بل اتهموه بأنه يخربط عليهم. وبالمثل، كان يسجل بصوته الرخيم أيضا النصوص الشعربية وقصائد المدح النبوي مستعينا بثلة من معارفه وأصدقائه ممن انتقاهم واكتشف مواهبهم الكامنة ووظفهم لحمل مشعل العمل الإعلام المسموع في البحرين. لذا فإن الكثيرين من أبناء الإذاعة يدينون له بالفضل ومنهم: أحمد يتيم وعلي تقي وعبدالرحمن عبدالله وعتيق سعيد وحسن كمال ومحمد صنقور، علاوة على مجموعة الشباب الذين برزوا من خلال برنامج «ركن الأشبال» الأثير مثل سعيد الحمد وأمينة الشملان وبروين زينل وأمينة حسن وبدرية عبداللطيف وفاطمة شويطر وعائشة عبداللطيف وغيرهم.   كانو إبان تدربه في إذاعة الشرق الأدنى بقبرص في الخمسينات   قلنا أن كانو تمتع بإذن موسيقية، وهو ما ساعده على اختيار الأجود من برامج الموسيقي العربية والأغاني المصرية واللبنانية والعراقية لإذاعتها، علاوة على تقديم فقرات يومية من الطرب الشعبي أيضا لكبار فناني البحرين الشعبيين. ومن هذا المنطلق قام بجهد جبار في كل اتجاه كي تكون للإذاعة مكتبة غنائية مكتملة، ما ساعدها على بث واحد من أكثر برامجها شعبية وهو برنامج «ما يطلبه المستمعون» الذي كان يكتظ بإهداءات الأغاني من فلان إلى علان، وهكذا. وأخيرا، فإن مما يجدر بنا ذكره، ضمن الحديث عن سيرة ومشوار إبراهيم كانو، أنه في بدايات عمله بالإذاعة التحق بدورة تدريبية في إذاعة الشرق الأدنى التي كانت تبث برامجها من قبرص، كما أنه ابتعث في فترة لاحقة إلى بريطانيا لتلقي دورة في فنون العمل الإذاعي، إخراجا وانتاجا وتقديما، لدى القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، وهو ما ساعده في تقديم الجديد والطريف من الأفكار والبرامج المشوقة والتغلب على ضعف الإمكانيات وسد فراغ قلة معدي ومخرجي البرامج. رحم الله إبراهيم كانو الذي انتقل إلى جوار ربه في الثاني من فبراير 1991، بعد رحلة حافلة في ساحة العمل الإذاعي تميزت بالتفاني والإخلاص والإبداع والتواصل مع الجمهور بتواضع وصدق ومحبة.

مشاركة :