انفضت المنافسة على خليفة بوريس جونسون كرئيس للوزراء البريطاني، بفوز وزيرة الخارجية ليز تراس على وزير الخزانة السابق ريشي سوناك، لتصبح رئيس الحكومة البريطانية القادمة، وقد حصلت تراس على 57% من أصوات أعضاء في انتخابات حزب المحافظين، تمت دعوة تراس من قِبَل الملكة إليزابيث الثانية لتشكيل حكومة جديدة بدءاً من 6 سبتمبر 2022. شهدت تراس البالغة من العمر 47 عامًا صعودًا سريعًا إلى قمة السياسة البريطانية، حيث تم تعيينها وزيرة للخارجية قبل تقلدها أعلى منصب في السياسة البريطانية، وتبدو خلفية السياسة الخارجية لتراس معقدة؛ ففي الوقت الذي كانت تشغل فيه وزيرة التجارة الدولية، روجت لشعار بوريس جونسون «بريطانيا العالمية» في جميع أنحاء العالم، حيث وقّعت اتفاقيات التجارة الحرة مع اليابان وأستراليا. وكتب الصحفي بن جودا، لمجلة فورين بوليسي، أن تراس هي «مزيج معقد من سياسية متلونة مع قناعة راسخة بالجغرافيا السياسية». وعند تطرقه لكيفية تمثيل تراس «كمرشحة مستمرة على النزعة الأطلسية» للحكومة السابقة في معاونة أوكرانيا، زعم جودا أن تراس مع ذلك «تتوق إلى اتخاذ إجراءات أكبر على الساحة العالمية بعد أن شغلت وزيرة للخارجية خلال الحرب الأوكرانية». وفيما يتعلق بمسائل السياسة الخارجية العاجلة التي يجب معالجتها، فقد تم الاستشهاد بالدعم البريطاني المستمر لأوكرانيا في مقاومتها للعملية الروسية كأولوية. ويرى رايلي سميث، في صحيفة التليغراف، أنه من «الأهمية بمكان» أن تُبقي المملكة المتحدة على مساعدتها السياسية والعسكرية إلى كييف، ففي أول خطاب لها قبيل شغلها للمنصب، تعهدت تراس بمعالجة ارتفاع أسعار الطاقة في المملكة المتحدة، كنتيجة مباشرة لانخفاض تدفق النفط والغاز الطبيعي الروسي إلى الغرب، وأضافت برونوين مادوكس، مديرة المعهد الملكي للشؤون الدولية، أن تراس يمكنها الاستناد إلى «موقف بوريس جونسون الواضح أخلاقيًّا واستراتيجيًّا» في مساعدة أوكرانيا «للبناء على ما سيكون شتاءً شديد الصعوبة لحكومات أوروبا». يجب وضع أهداف السياسة الخارجية طويلة المدى لتراس في سياق تصورات تصاعد المنافسة بين القوى العظمى الولايات المتحدة والصين على مستوى العالم. ولهذا السبب، فكر لاندلر، من صحيفة نيويورك تايمز، في كيفية «تشكيل الدور العالمي المستقبلي لبريطانيا من خلال دور أكبر تتبناه رئيسة الوزراء الجديدة». ومع ذلك، لا يزال دور بريطانيا المستقبلي في هذا المشهد الجيوسياسي غير واضح. بينما ادعى لاندلر أن بريطانيا في عهد تراس يمكنها أن تتصرف «كعامل حر أكثر» في الجغرافيا السياسية، «تسعى إلى الحصول على علاقاتها الخاصة مع القوى العظمى مثل الصين»، وذكر رايلي سميث أنه «من المتوقع أن تتخذ تراس موقفًا أكثر صرامة تجاه بكين» من جونسون، مستشهدا كيف منعت رئيسة الوزراء الجديدة، وقتما كانت وزيرة للخارجية، الشركات الصينية من المشاركة في البنية التحتية الوطنية الحيوية. وتبدو معارضة تراس في بكين وموسكو واضحة بالفعل، حيث اتهم وانغ يوي، الأستاذ بجامعة رينمين في بكين، رئيسة الوزراء الجديدة بـ«الإمبريالية البريطانية القديمة» لانتقادها «النفوذ الخبيث المتزايد للصين»، في حين وصفت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الحكومة الروسية، رئيسة الوزراء الجديدة بأنها «متعطشة للدماء ومدمرة جدًا». وبالتوازي مع سياق تنافس القوى العظمى والحاجة إلى الرد على حرب روسيا في أوكرانيا، هناك شعور سائد بالاستقلال الجديد في السياسة الخارجية البريطانية، بمساعدة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعدم الرغبة في الاعتماد على القيادة الأمريكية. وكتبت مادوكس كيف تُحافظ تراس على «رؤية الاستقلال البريطاني»، وأوضحت ليزلي فينجاموري، مديرة برنامج الولايات المتحدة والأمريكتين في المعهد الملكي للشؤون الدولية، أن اختيار تراس كزعيمة لحزب المحافظين ورئيسة للوزراء يمثل «قطاعًا عريضًا من بريطانيا لا يحب الاعتماد على الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي». ويتجلى الدليل على ذلك في تعهد رئيسة الوزراء الجديدة بزيادة الإنفاق الدفاعي. وبحسب المعهد الملكي للخدمات المتحدة للدراسات الدفاعية والأمنية أن التعهد بنسبة 3? من الإنفاق الوطني على الدفاع بحلول عام 2030 سيكلف 157 مليار جنيه إسترليني وستمثل أكبر زيادة منذ العقد الأول من الحرب الباردة. ومن بين أكثر عقبات السياسة الخارجية التي تواجه تراس، وفقًا لمعلقين غربيين، علاقات المملكة المتحدة المتوترة مع كل من الحلفاء الأوروبيين والولايات المتحدة؛ فأثناء ما حدث لحزب المحافظين خلال الأسابيع الأخيرة من سباق قيادة حزب المحافظين، صرحت تراس بأن «الرؤية لم تتضح بعد» بشأن ما إذا كان الرئيس الفرنسي صديقًا أم عدوًّا للمملكة المتحدة، وأنه إذا تم انتخابها، فإنها ستحكم على نظيرها الفرنسي من منطلق «الأفعال وليس الأقوال». وقد أثارت هذه التعليقات انتقادات من المحللين وكبار المحافظين، ووصفت مادوكس تعليقات تراس حول ماكرون بأنها «استفزازية وانتهازية»، وأشارت إلى أنها «صدمت» حلفاء بريطانيا وخصومها على حد سواء. ووصف أليستر بيرت، وزير الخارجية السابق، تصريحات تراس بأنها «خطأ فادح للغاية»، ومن جانبه وصف السير بيتر ريكيتس، السفير البريطاني السابق في فرنسا، التصريحات أيضًا بأنها «غير مسؤولة» وانتقد قرار إهانة «أقرب حليف لنا في الدفاع والأمن في أوروبا». وفي رد مقتضب، أصر ماكرون على أن «أيًّا كان الشخص الذي يعتبر الزعيم التالي لبريطانيا»؛ يجب أن يتذكر أن «بريطانيا صديقة لفرنسا وأن الدولتين الفرنسية والبريطانية قد تواجهان «مشاكل خطيرة» إذا لم تستطع اعتبار تلك الديمقراطيات الليبرالية نفسيهما كحليفين دوليين في عالم ما زال يعج بـ«الديمقراطيات غير الليبرالية، والدول الاستبدادية، وسط حالة من اختلال توازن القوى بالنظام الدولي». وانطلاقًا من ذلك، فإن وضع تراس كداعم تأخر تشجيعها لمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يطرح تحديات واضحة إزاء إصلاح العلاقات مع بروكسل. كما كتبت مادوكس أن الخلافات المستمرة مع بروكسل حول الوضع التجاري لأيرلندا الشمالية تخاطر باحتمال وقوع «حرب تجارية كاملة الأركان» قد تنتشر بأرجاء القارة الأوروبية، وهو الأمر الذي قد يمثل «إضعافًا للعلاقات مع مجموعة من الحلفاء الأوروبيين ذوي القيم المشتركة» الذين «يتشاركون جوارًا مضطربًا بشكل متزايد في الآونة الأخيرة». وفيما يتعلق بالتأثير الذي بدأ يتناقص لدى الجانب البريطاني على كل من بروكسل وواشنطن، جادل لاندلر بأن لندن «فقدت دورها كجسر» بين الاثنين، ما يعني أنها «أصبحت لاعبًا أقل تأثيرًا في القضايا العالمية ذات الاهتمام المشترك». ومع ذلك، أشار المحللون إلى وجود فرص للتعامل والتعاون بشكل بنّاء مع حلفاء بريطانيا. فعلى المسرح الدولي، من المرجح أن تكون أول مشاركة خارجية لـتراس هي الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة لقادة العالم في نيويورك في أواخر سبتمبر الجاري، لا سيما مع تأكيد «بن رايلي سميث»، من ذا تليجراف البريطانية، أن هناك توقعًا أن تتواجه خلال هذا الاجتماع الأول وجهًا لوجه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن كجزء من زيارتها المحتملة. ولم تتخل مادوكس عن احتمالية تعزيز العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حيث أكدت أن إقامة علاقات ودية مع الدول الأوروبية يجب أن يكون «نقطة البداية» لسياسة تراس الخارجية المرتقبة، والتحدث إلى «حكومات الاتحاد الأوروبي حول مستقبل دول القارة الأوروبية في العديد من الجبهات ومجالات التعاون المشترك». وأعرب السير بيتر وستماكوت، السفير البريطاني السابق لدى الولايات المتحدة، عن آماله في أن يكون لدى تراس باعتبارها رئيسا للوزراء «إدراك واضح أن المملكة المتحدة باتت مهتمة بإيجاد حلفاء جدد لها داخل القارة الأوروبية»، وذلك «للحد من الأضرار الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي»، فضلًا عن جهودها المرتقبة لمعالجة« أسعار الطاقة والغزو الروسي لأوكرانيا». وفيما يتعلق بسياسات حكومة المحافظين الجديدة في الشرق الأوسط، من المتوقع أن تستمر تراس في تبنّي سياسات حكومة جونسون، خاصة فيما يتعلق بالسعي إلى إبرام اتفاق تجارة حرة مع دول الخليج، وهي العملية التي بدأت في يونيو 2022. وقد تحدثت تراس عن أهمية «العلاقات التجارية» مع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي؛ حيث صرح أومبرتو بروفازيو، المحلل بالمعهد الدولي للدراسات الأمنية في لندن (IISS)، بأن تراس ووزراء حكومتها القادمين «يدركون أهمية منطقة الخليج باعتبارها بالغة الأهمية لمصالح لندن، وذلك لأسباب تجارية واستراتيجية على حد سواء». لذلك، توقع بروفازيو احتمالية وجود «علاقات أوثق بكثير مع الشركاء الخليجيين» على أساس «بذل المزيد من الجهود لاستيعاب مصالح الشركاء الرئيسيين مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة». ويبدو أن تراس قد تنتهج سياسة مغايرة عما كانت تمارسها حكومة جونسون حيال الاتفاق النووي الإيراني، فهي ترى أن المفاوضات في فيينا بين طهران والموقعين الآخرين على اتفاق 2015 «لا تتحرك بالسرعة الكافية»، وأن هناك «خيارات أخرى مطروحة» للغرب لمنع النظام الإيراني من الحصول على أسلحة نووية إذا فشلت المحادثات في نهاية المطاف تمامًا. ويمكن توقع استمرار الدعم البريطاني لإسرائيل مع وجود تراس، على الرغم من الاحتجاجات والإدانات الغربية المناهضة للانتهاكات ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة؛ فلا يخفى أنه ردًّا على الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة في أغسطس 2022 والتي أسفرت عن مقتل 45 مدنيًّا، أكدت تراس حين كانت وزيرة للخارجية دعمها لوستمنستر بشأن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وبالإضافة إلى ذلك، أوضح «إليس جيفوري»، من موقع ميدل إيست آي، كيف أن رئيسة الوزراء المختارة حديثًا «أطاحت ببيروقراطيين خدموا فترة طويلة في وزارة خارجيتها» من أجل دعم إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كما أن تراس أيضًا «لم تعرض أو تعطي أي إشارة» إلى أنها ستوقف جهود وستمنستر لمنع الهيئات والمجالس العامة من الانضمام إلى حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). في النهاية، حلل بروفازيو الأدلة التي تشير إلى أن حكومة تراس ستتبع النهج «السياسي المعتاد» الذي لطالما اتبعته الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط، حيث ستقوم حكومتها «بإدارة الأزمات المختلفة وفقًا لمصالحها»، و«تفضيل دعمها لقضايا الأمن والاستقرار على أي قضية أخرى». وأصرت مادوكس على أن تراس يجب أن تسعى إلى «إنشاء علاقات جادة وقوية مع الاتحاد الأوروبي». ويرى رايلي سميث، أن «تطورات السياسة الخارجية غير المتوقعة» بالنسبة إلى ـتراس حتى الآن التحدي الأكبر لها في الأشهر المقبلة»، وأضاف إلى تلك التحديات الاتجاه طويل الأمد للحرب الروسية في أوكرانيا والمنافسة العالمية بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك الدور الجيوسياسي لبريطانيا في التعامل مع كل هذه التحديات. واختتم جودا قوله بأن «وريثة مارجريت تاتشر المحبة للاقتصاد الحر قد لا يكون لديها الوقت الكافي في منصبها» للوقوف في وجه الاتحاد الأوروبي بشأن القضايا الجيوسياسية المتعلقة بأيرلندا الشمالية أو الصين» حسبما تأمل، ولكن هذا «لا يعني أنها لن تحاول».
مشاركة :