ثمنة الجندل في أجواء الخريف الجميلة، وفي ركن الطفل بمجمع السلطان قابوس للثقافة والترفيه. أتيحت لي الفرصة بأن أقدم عدة حكايات شعبية من التراث الشعبي الظفاري، والتي يطلق عليها في ظفار " الحزاية"، وعلى الحكواتية "المحازية". وعادة الحكواتية هي الجدة أو السيدة الكبيرة في البيت، تبدأ الحزاية بقولها: "يا حزاية أحزيلكم، والحزن ما هو لكم، إلا لخصمكم وعدوكم". وتنهيها بعبارة:" اشتكت والتكت وفي حبال السرير انطوت". إنها المرة الأولى التي يحظى فيها الأطفال بالاستماع إلى حكايات الحكواتي. كانت حكايات وقصص الحكواتيين شائعة في ظفار، لكن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية بما فيها التلفزيون والسينما ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، أنهت دور الحكواتي. وفى محاولة موفقة أعادت دائرة الثقافة بالمديرية العامة للثقافة والرياضة والشباب الروح لهذا الموروث الثقافي الجميل الذى أوشك على الاندثار. جلس الأطفال برفقة أمهاتهم حولي، وهم في غاية الانتباه والهدوء، مشدودين لما ستقوله" الحكواتية" من كلام سحري. سردت لهم الحكاية باللهجة المحلية الظفارية، الآسرة للقلوب والعقول بجمال ألفاظها وكلماتها وصدقها ودفئها وثراء معانيها وتأثيرها الإيجابي على المستمعين. أعتقدتُ بأن الصغار سيواجهون مشكلة في فهم بعض الكلمات المحلية القديمة، وسيؤثر ذلك سلبا على فهمهم لأحداث الحزاية. لكنني تفاجأت بأنهم يعرفون كل الألفاظ، ويفهمون كل الأحداث، ولديهم القدرة على التحليل والنقد، وحفظ الأمثال المصاحبة لبعض الحزايات. لقد شبهوا حزاية (فطيمون وعويشون) بالقصة العالمية(سندريلا)، و حزاية (سبلة اللؤلؤ) بقصة (رابونزل - Rapunzel). ومما يجدر ذكره، بأن الأطفال في الركن يمكثون أوقاتا طويلة قد تمتد إلى عدة ساعات، دون اصطحاب هواتفهم أو أجهزتهم اللوحية، أو حتى مجرد التفكير فيها، وهم الذين كانوا لا يتخلون عنها أبدا مهما كانت الظروف. جذبت الحكواتية انتباه واهتمام الأطفال بالحكايات الشيقة وبأسلوبها السهل الممتع، يستمعون الأطفال بشغف وشوق للحزاية، وصل بهم الاندماج والانغماس إلى درجة أنهم تألموا عندما ضرب السوط السحري الطفل القزم في حزاية " شبير والبئر". وغضبوا جدا من العجوز التي حولت أخوان فاطمة إلى حجر في حزاية "فاطمة النبعة وإخوانها السبعة". وصدحوا فرحا، وتعالت هتافاتهم بالمدح والثناء عندما انتصر الخير على الشر في حكاية " الأعور الكذاب". حكايات وقصص الحكواتي تشعل وتشغل خيال الصغار، فيخترعون عوالمهم الخاصة ويلونوها بمزاجهم وعاطفتهم بما سمعوه من الحكايات، سواء إن كانت واقعية وحقيقة، أو حكايات من التاريخ والتراث الإسلامي ، أو حكايات الخيال و الجن والسحر والحكايات العجائبية وغيرها. من خلال هذه الحكايات يتعرفون على موروثهم الثقافي الشعبي الثري بالقيم الأخلاقية والفنية والجمالية، العاكسة للإبداع المجتمعي، بكل معتقداته وعاداته وتقاليده وتجاربه في الحياة، التي يفتخرون بها وتعكس هويتهم الوطنية والاجتماعية. بعد الانتهاء من سرد الحكاية، تتم مناقشتها، وذكر الدروس والعبر والأخلاق المستفادة منها. وأحيانا بعد الانتهاء من الحزاية، يقوم بعض الأطفال بتقمص دور "الحكواتي" ويمتلئون فخرا وفرحة لهذا الإنجاز الجميل، كما يقوم الأطفال بمسرحة الحزاية لإضفاء هالة من الفرح والمرح والضحك. ومن ثم تأتى الفقرة الحماسية في جلسة الحكواتية، وهي طرح الأسئلة والإجابة الصحيحة عليها، وسط تفاعل وصيحات وتصفيق الجميع. من أجمل اللحظات في حياة الطفل، والتي يثبت فيها أنه على أتم الاستعداد بأن يتخلى عن جهازه المضيء؛ هي عند استلام الجائزة والحلوى المرافقة لها. وكم يسعده ويبهجه بأن يرافق تلك الهتافات الجميلة؛ أحضان دافئة وقبلات حانية من أمه أو معلمته أو الحكواتية. فهذا يعنى له الكثير، يعنى بأنه أنجز وبذل مجهود، وعليه حصل على الجائزة المناسبة وعلى المحبة الصادقة. وأشادت الأمهات بالدور الرائع الذى تلعبه الحكواتية، واختيارها الحكايات المناسبة التي تجمع بين التشويق والمعرفة، وتحميلها رسائل تربوية واجتماعية ودينية، تساهم في تهذيب وتأديب الأطفال، وغرس القيم و الأخلاق الحميدة، والتعبير عن الذات. برنامج الحكواتي، وغيره من البرامج و الأنشطة الترفيهية المختلفة التي تقدم بطريقة مشوقة وجميلة، تبهج الأطفال، وتسعد قلوبهم، وترسم الرضاء على وجوههم، وتساهم في تشتيت أذهان وعقول الأطفال عن الهواتف الذكية وتبعدهم عنها. لأن الأجهزة الإلكترونية والألواح المضيئة ، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياة الأطفال. وأصبحت مصدر قلق عليهم، خاصة عند الاستخدام المفرط والمبالغ فيها، قد تسبب لهم الإدمان عليها، واصابتهم بالأمراض النفسية والجسدية وغيرها من المؤثرات السلبية على حياتهم. من التكتيكات الجميلة لإبعاد الأطفال عن الالتصاق بهواتفهم، على الأسرة بأن تغمرهم بالقصص الجميلة الجذابة؛ ليس لأنها تأخذهم إلى عوالم سحرية وشخصيات خيالية؛ بل لأنها تساعدهم في تطوير مهارات التواصل، وإثراء قاموسهم اللغوي، وإكسابهم مهارات القراءة والكتابة، وترسيخ القيم والمبادئ السامية فيهم. يفضل الأطفال الاستماع إلى الصوت الدافئ والمعبر أثناء سرد الحكايات من المعلمة أو الأم، أكثر من مشاهدة الصور النمطية الجاهزة في الأجهزة الإلكترونية، لأنها خالية من الأحاسيس والمشاعر، و الإضاءة المنبعثة منها ترهق وتتعب أعينهم، وتفقدهم التركيز والخيال والمتعة. محاكاة دور الحكواتية عند قراءة الحكايات لهم، واستلهام اسلوبها الشيق، وكلماتها السلسة والسهلة؛ ستغرس في أنفسهم حب الكتاب وعادة القراءة. وهذ يقودنا إلى أهمية زيارة الأطفال المستمرة للمكتبات التقليدية التي تضم في جنباتها مئات العناوين الشيقة مثل: مكتبة مجمع السلطان قابوس للثقافة والترفيه، ومكتبة دار الكتاب وغيرها من المكتبات؛ لتزويد الأطفال بالمعلومات والمهارات اللازمة لبناء شخصياتهم. وستساعدهم بطريقة أو بأخرى في التخلي رويد رويدا عن استخدام الهواتف الذكية بشكل مفرط.
مشاركة :