لو عدنا بعدادات الزمن للبدايات الأولى لنشوء الفكر الفلسفي في الدولة اليونانية بالقرن السادس قبل الميلاد، لوجدنا أنها وهبت البشرية أيقونات ثقافية عظيمة ساعدت على تفتق الذهن البشري المحدود، ومساعدته على فك طلاسم الحياة والكون، وحلحلة الطلاسم، التي كانت تعترضه، فقامت بتنمية القدرة على التفكير المنطقي، وفتح الطرق الحرة الأصيلة والجانبية للحوار بما يمكن أن يؤطر ويبني ما يتوارد على الذهن من أفكار، ودون فسفسطائية كلامية أو تلاعب بمعاني الكلمات، أو البدء من فوق قواعد تقديس المسلمات غير المثبتة، فتمت مناهضة ضيق الغباء بالمصداقية والواقعية والسببية، والبحث عن كثير مما كان غير واضح، ولا متوافر في المحيط والوعي حينها سواء في مشارب وأعماق النفس البشرية، أو في مفهوم تكوين ونقض علاقات التجمعات الإنسانية، وبما لا يمكن أن يسمى بنافلة القول، ولا بمجرد حلحلة سطحية ووضع الحلول المؤقتة للمعضلات الفكرية والحسابية أو الهندسية أو المنطقية، بل من خلال إطلاق العنان للفك والتركيب، والابتكار، والخيال المثمر، ودون ركون وهمي خيالي لما هو شائع حينها من أساطير وجن وعفاريت وسحر أو حكايا وسرديات، ما قسم الناس إلى صنفين أحدهما قلة قليلة ممن يطولون الفلسفة، والأخرى أغلبية متكاسلة متكلسة تكره التعمق، وتستسيغ السهل المنقول، وترفض كل مستحدث يرهق الفكر. الفلسفة آلية مكنت الإنسانية من صنع التركيبات الفكرية المبتكرة والابتكارية، ووضعت لها الأسس المتينة، على أيدي الفلاسفة سقراط وأرسطو وطاليس وأفلاطون وفيثاغورس، وغيرهم من المؤسسين، والذي بدونهم لم تكن البشرية لتصل إلى عُشر ما وصلت إليه في عصرنا هذا من علوم ومعارف وثقافات وتنظيمات وحسابات وفلك، وبلوغ قمم وتطويع دقة واعجازية التقنية والمخترعات والمكتشفات، ليس فقط على حدبة الأرض، ولكن تغلغلا في أعماقها، وسبر غموض بحارها ومحيطاتها، ومن ثم امتطاء صهوة الواقع واعتلاء الأجواء، وبلوغ الأبعاد والأوتار وتكوينات البيئة والطقس والكواكب والنجوم والأجرام والمجرات والسدم والأعمدة والثقوب السوداء. الإنسان قبل نشوء الفلسفة كان منغلقا على نفسه ومحيطه الضيق، وبعدها أصبح له منطلقات أخرى تختلف في الكنه والتفاصيل والتوجهات والكليات، ما يزيد من صعوبة قياس الفوارق العظيمة المستحدثة بين النقطتين المتباعدتين، والمتواكبة مع شجاعة التبحر وخلس ثياب البدائية، وسبر أغوار الجديد، والترقي الفكري، والحداثة والتحديث في كل مجال ومقال، ولو تأخر ظهور تلك النظريات والعلوم الفلسفية لسنوات عمياء، لما كنا نحن حاضر البشر، من نباهي في أمجاد عصرنا المنطلق بكل العلوم والفضاءات والتوجهات والعمق والتمكن والمعرفة. وقد كانت النظريات الفلسفية بناء عظيم، رغم ما مرت به من عقبات، ومن استصعاب ورفض ممن كانوا يمرون حولها، ويضحكون ويستنقصون، بيقين واهم، ما يجعلهم يشككون في حقيقتها وجدواها، بل وبالإمعان في السخرية ومضايقة وتحجيم روادها واتهامهم بالجنون والهرطقات والسحر والشعوذة، مع أنها كانت تمثل قبس البواتق الأولى، التي أحرقت أكسيد الغموض وأطلقت أكسجين الحقائق، وسمحت بالدمج، والتركيب، والتسامي، وإعادة التكوين من جزئيات متباعدة، أهلت الفكر البشري للنمو المطرد، والإبداع ببلوغ التراكمية المتنوعة المفيدة، وحررت عقول البشر لبلوغ حقائق الأخلاق واليقين والجدوى. وقد كانت العلوم الفلسفية أيضا عوامل اكتشافات للنفس البشرية، بدوافعها، ومخاوفها، وغرائزها، ولتفاعلها الشكلي واليقيني بما يحدث وسط الجسد والأعصاب والفكر من تفاعلات كيميائية، وعضوية، ونفسية، مكنت العلماء بالمضي إلى مزيد من البحث والتجريب والمعارف والعلوم، لوضع أسس معرفة وفحص وتشريح أعضاء الجسد، وحلحلة الوعي البشري، والتجاوز لغيره من الكائنات، في مقارنات واندماج وتفاعلات متكاملة تصنع التلاقي والتلاقح والمعالجة، والتغور في خلايا وجينات المخلوقات بتنوعاتها، والسعي لمنع وجود التناقض في كل أجزاء ورتوش الحياة. لم توجد حضارة إنسانية ناهضة مؤثرة لأي من شعوب الأرض، إلا وكانت الفلسفة رافدا من روافد معارفها الأصيلة، وشمس تنير للباحثين والعلماء طرقهم وطرقاتهم، وتساعدهم على تكوين وتأصيل أمكنة وإمكانات الحضارات المختلفة، وحيثما كانت الفلسفة حاضرة، تظل تزيح مساحات الخوف والوهم والسحر، والشعوذة، وتبدع بغزل الأبجديات، وتمازج وتراكب الصناعات، والقدرات المادية، والمعرفية. علوم الفلسفة ونظرياتها عميقة عمق تجارب الإنسانية، وللأسف أننا نجد بيننا من يتهم الفلسفة اليوم بالعجز والقِدم، والمحدودية في مواكبة عصرنا المنفتح على كل عجيب وغريب وجديد، والقول بأنها لم تعد بذات أهميتها القديمة، خصوصا بعد أن وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من علوم ومخترعات، وقدرات تواصل، وعوالم افتراضية، وقياسات بلغت ما هو أصغر من النانو والفيمتو ثانية، وتعاظمت لتقريب المسافات بما يفوق الصوت، ويقترب من سرعة الضوء، وبأن الفلسفة تعد الآن مجرد هرطقات بالية، ونظريات حلزونية طويلة، معقدة اللغة والكنه، لا بد للأجيال من تخطيها وهجرها في طريق المستقيم الصاعد، والتوجه فقط للعلوم والمعارف المادية الحالية، والتقنيات والتطبيقات المستحدثة الصلدة! وهذا أمر مجحف قاصر النظر، وهادم لأصول التدرج والترقي المعرفي، حينما ينكر البعض ما فعلته الفلسفة من خدمات جليلة أصيلة أوصلتنا لكل ما نتمتع به اليوم ومما لا نكاد نحصيه عددا، وفي نفس الوقت فهو ينفي عنها قدرة التجدد والترقي، وبلوغ حدة الزوايا، والثقوب، والتقدم والتطور، والقدرة على خلق المزيد من التخيل والنظريات والعلوم في حاضرنا ومستقبلنا. هل يعتقد أصحاب هذا الرأي المزاجي المتعالي المزعج بأننا قد بلغنا درجات الكمال والتعالي على الفلسفة، وأن إعمال العقل بالتفكير في فلسفات الماضي وتدرجاتها، ومحاولات تثبيت ما يثبت منها، وتطوير ما يحتاج منها لتعديل وزيادة وتطوير مجرد عبث يعيدنا للخلف، بادعاء أننا لن نجد الجديد فيها!؟ مع أنها سر الحياة الأولى، وعصارة الثانية، وجحافل غزو حياة المستقبل، بكل خيالها وثقتها، وجنونها، وهي تفرعات العلوم واندماجها، وهي الزيادات، والتمكن، والقدرة. الفلسفة هي حبوب النباتات التي تستقر فوائدها في أحضان السنابل، وكم يبخس الجهلة حقها، ويتهمونها بأنها لا تستحق مكانتها وأهميتها مع وجود بدائل عصرية سهلة موجودة بين أيدينا نتاج جهود غيرنا، وأنه يسهل علينا تهميشها، وقطف، وعلك التكوينات المستحدثة، والتمتع بطعمها الأخضر، دون العودة للجذور. غير أن ذلك زيف وقفز على الحقائق، كون الحبوب تعد أساس كل توازن غذائي، وكل تركيب، ودقيق، وكل مخبوز، وكل طعم أزهرت به موائد معارف البشرية، منفردة، أو مركبة، وبكون الكائنات الأخرى المعتمدة علينا، لا تستغني عنها، وهو ما يعني الديمومة متناهية الأهمية متصاعدتها، فلا يمكن التوقف بدونها عن إنتاج المزيد من السنابل وما يتبعه من مسحوق ومطحون ومعجون ومخبوز، وطعام العقول لا يكتمل ولا يمتدح إلا بجعلها جزء أساسي من مكوناته، لا يمكن إنكار فائدته ولا قيمته، ومهما تحايل البشر للإتيان بالأطعمة المستحدثة الافتراضية المكونات، في بعد عن دقيقها، وعجائنها ومكوناتها الغنية المفيدة لكل حياة. جينات البشر بنيت بالفلسفة، فلا تتركوها مثل زائدة دودية، لا يعود يحتاج لها البدن، كما في وجهة أنظار المتسرعين. ومشروع أحتفظ فيه ببراءة وحقوق فكرة نجيبة، فأتمنى أن تتبنى مجموعة من المبرمجين الإليكترونين عمل برنامج عملاق على شكل ألعاب نقدمها لأطفالنا، تحتوي على العقدة الفلسفية، والحلول البديلة، والحل الأمثل، بطريقة تجمع بين ماضي الفلسفة وعصريتها، وبين سهولة الحاضر، فتعطينا الشق النظري من الفلسفة، والتطبيق العملي الفوري الإليكتروني، ومؤكد أنها ستكون أفضل أزارير لعبة مفيدة للعقول والأنفس، وقد تتحايل وتحل معضلة قلة إقدام الأجيال الجديدة على القراء وهرمونية الأفكار المتعمقة.
مشاركة :