بقلم القاضي المستشار الشَّيخ عبد الرَّحمـٰن الحلو بلغني صبيحةَ يومِ الأَربعاء في 31/ 8/ 2022، نَعْيُ العلّامة المُفَسِّر، ذي السَّمت الحَسَن والخُلُق المُسْتَحْسَن، المُعَمَّر البَرَكة، الأُستاذ عفيف عبد الفتّاح طبّارة؛ فاسترجعتُ للتَّوّ، وأَطرقتُ لِلَحْظَةٍ غامرةٍ عامرةٍ بحنين الذّاكرة وذاكرة الحنين، أَيّامَ كُنّا نتباحث معًا «روح القرءان» ونتدارس سويًّا «روح الدِّين»؛ فالأُستاذ الكبير لم يفتأ يهجس بذِكْر الرُّوح وروح الذِّكْر، أَينما طَلَع وحيثما أَطْلَعَ، ولن يَغْدُوَ حديثُ الرُّوحِ مَطْلَبًا هاذًّا أَو مَرْكَبًا لاذًّا إِلّا لِهُمامٍ قَمْقامٍ مسكونٍ بروحٍ عُلْوِيَّةٍ، تجتذبك نحو المطالب الوامقة والمراتب السّامقة ، وما من ريبٍ في أَنَّ الأُستاذ عفيف طبّارة أَحَد الأَحَدِين من أُولئك العُلْوِيِّين، حقيقًا خليقًا بوصف صديقنا أَبي الطَّيِّب المتنبِّي: النّاسُ ما لَمْ يَرَوْكَ أَشْباهُ والدَّهْرُ لَفْظٌ وَأَنْتَ مَعْناهُ تَعُود علاقتي المعرفيَّة بالأُستاذ الكبير عفيف طبّارة إِلى سنة 1992 م، يوم جاء قاصدًا شيخنا العلّامة الفقيه خليل الميس ـ رحمه الله تعالى ـ في مكتبه في «أَزهر لبنان»، يسائله عمَّن يراجعه في تحريراته وتقريراته وتفسيراته بعد انتقال شيخنا العلّامة شيخ القرّاء حسن دمشقيَّة ـ رحمه الله تعالى ـ أَيْنَ كان مَرْجِعَه في كلِّ ذلك؛ فأَشار عليه شيخنا الميس بمراجعتي فيما هنالك، قائلًا له: «لا تَنْظُرْ إِلى سِنِّهِ ـ وأَنا يومها دون الثَّلاثين ـ وَلكِنِ انْظُرْ إِلى مِفَنِّهِ». لقد راجعتُ مع الأُستاذ عفيف استصدار ثلاث طبعات متتالية من كتابه الطّارف التَّليد «روح الدِّين الإِسلاميّ»، وما يزيد على تسعة أَجزاء من تفسيره الرّائق العصريّ العتيد «روح القرءان»، وكان ءاخِر التَّطْواف مع تلك المراجعة الدَّقيقة لكتابه الأَخير الأَثير «معجم القرءان الكريم»، يومتا أَشرتُ على الأُستاذ بضرورة إِصدار مثل هذا «المعجم»؛ تتويجًا لتفسيره السّالف الذِّكْر. وعلى الرَّغم من كون الأُستاذ حينذاك في عنفوان التِّسعين من عمره المبارك، فقد رأَيتُ منه عزيمة الشَّباب وشكيمة كبار الكُتّاب، لا يألو جهدًا في جَعْلِ ما يُؤَلِّفُه ويَجْمَعُه ويَكْتُبُه ويَشْقَعُه، قَرِيبَ المتناولِ من قارئيه سَهْلَ المأخذِ على مطالعيه. أَذْكُر يوم باحثني حول مصاديق أَقاسيم مطلع سورة الصّافات: ﴿وَالصَّـٰفَّـٰتِ صَفًّا * فَالزَّ ٰجِرَ ٰتِ زَجْرًا * فَالتَّـٰليـٰتِ ذِكْرًا﴾ (الصّافّات 37: 1 ـ 3)، مُسْتَعْرِضًا الآراءَ الَّتي أَوردها المُفَسِّر الفقيه والمُتَكَلِّم النَّظّار النَّبيه، القاضي عبد الله ابن عمر البيضاويّ في تفسيره المُسَمَّى بـ: «أَنوار التَّنزيل وأَسرار التَّأويل»، ليحسم القَوْلَ بأَنَّ المُقْسَمَ بهم هم الملائكةُ الصّافُّون في مقام العبوديَّة على مراتب؛ باعتبارها تَفِيضُ عليهم الأَنوارُ الإِلـٰهيَّةُ منتظرين لأَمر الله، الزّاجرون الأَجرام العلويَّة والسُّفليَّة بالتَّدبير المأمور به فيها، التّالون ءايات الله وجلايا قدسه على أَنبيائه وأَوليائه؛ مستبعدًا ما قيل من كون المُقْسَمِ بهم طوائفَ الأَجرامِ المرتَّبة كالصُّفوف المرصوصة، والأَرواح المدبِّرة لها، والجواهر القدسيَّة المستغرقة في بحار القدس، ومستبعدًا بالأَحْرَى قولَ مَنْ قال بكونهم نفوسَ العلماء الصّافِّين في العبادات، الزّاجرين في المنهيّات، التّالين للشَّرائع والآيات، أَو نفوسَ الغزاة الصّافِّين في الجهاد، الزّاجرين الخيل أَو العدوّ في السّاحات، التّالين ذِكْرَ الله في عمومِ الأَوقات. ومستدلًّا على ذلك بالقرءان وبالسُّورة نفسها في قوله: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ (الصّافّات 37: 164 ـ 166)، وما فيه من اعتراف الملائكة بالعبوديَّة وتفاوت مراتبهم فيها، والانتهاء إِلى أَمر الله في تدبير العالَم. فاستحسنتُ ذلك من الأُستاذ كلّ الاستحسان، تفعيلًا لمبدأ تفسير القرءان بالقرءان، وما عتَّم أَنْ جَرَى الأُستاذُ على هذه النَّهْجَة اللّاحِبَة في «معجم القرءان الكريم»، المعدود عندي من أَجلّ معاجم المفردات القرءانيَّة في سياقاتها من الآيات والسُّور. ولو قُدِّرَ لهذا «المعجم» أَنْ يُطْبَعَ على هامش «المصحف الشَّريف»؛ لكان أَوْضَح بيانًا من «تفسير الجلالَيْنِ»، وأَفْصَح لسانًا من تفسير شيخ شيوخنا العلّامة يوسف النَّبهانيّ المُسَمَّى بـ: «قرَّة العَيْن من البيضاويّ والجلالَيْن»، بَلْهَ تفسير «كلمات القرءان: تفسير وبيان» لشيخ شيوخنا أَيضًا العلّامة الشَّيخ حسنين محمَّد مخلوف. ينتمي الأُستاذ الكبير عفيف طبّارة إِلى جيلٍ غادَرَنا مُعْظَمُ أَهْلِهِ وعمومُ ناسِهِ، فهو من مواليد 1923 م، ومن طليعيِّي خِرِّيجِي «الكلِّيَّة الشَّرعيَّة»[1]، فقد تخرَّج بكِبار علماء عصره وحِرار نبغاء دهره، من أَمثال سماحة المفتي الأَكبر الشَّيخ محمَّد توفيق خالد، والقاضي العلّامة النَّحْويّ الشَّيخ مصطفى الغلاييني، وأَمين الفتوى في بيروت العلّامة اللُّغَويّ الشَّيخ عبد الرَّحمـٰن سلام، والعالِم التَّقِيّ النَّقِيّ البَقِيّ الشَّيخ محمَّد سعيد إِياس، والعالِم الفقيه النَّبيه الشَّيخ أَحمد عمر المحمصانيّ، والعالِم الرَّبّانيّ الواسع الاطِّلاع الطويل الباع الشَّيخ محمَّد عليّ الأُنسيّ، والأُستاذ الأَديب الأَريب الشَّيخ راشد عليوان، والعالِم الثَّبْت الضَّليع الشَّيخ محيي الدِّين المكّاويّ، والعلّامة المُحَدِّث المُسْنِد السَّيِّد محمَّد العربيّ العزُّوزيّ، والعلّامة الحافظ الجامع الشَّيخ محمَّد توفيق البابا، والعلّامة الفقيه الورع النَّبيه الشَّيخ مختار العلايليّ، والعلّامة الدَّرّاكة الصّالح العدل الثِّقة الشَّيخ محمَّد الدّاعوق، والعلّامة الأَديب اللَّوذعيّ الخطيب الأَلمعيّ الشَّيخ أَحمد العجوز، والعلّامة الدّاعية المِفَنّ المِعَنّ الشَّيخ عليّ الطَّنطاويّ، والعلّامة المُرَبِّي الصّالح النّاصح الشَّيخ صلاح الدِّين الزَّعيم، والعلّامة الفقيه المتضلِّع الشَّيخ محمَّد صالح الفرفور، إِلى علماء أَفذاذ ءاخرين كان لقيهم وتأَدَّب بهم وأَفاد منهم. عُرِفَ الأُستاذ الكبير عفيف طبّارة بجودة الخطّ، وجزالة اليراع، والخَطُّ على حدّ وصف أَحَد عِلْيَةِ أَهل النَّظَر إِبراهيم النَّظّام: «أَصْلٌ في الرُّوحِ يَظْهَرُ بآلةٍ جَسَدانِيَّة»، وهو أَيضًا: «أَحَدُ اللِّسانَيْنِ» و«سَمْط الحِكْمَة» وتصنيفه كـ: «تصنيف النَّغَم واللُّحون».وقد درس الخطّ أَوَّلًا على أُستاذه في «الكلِّيَّة الشَّرعيَّة» الخطّاط البارع الأُستاذ الشَّيخ نسيب مكارم، ثُمَّ أَتقنه وأَجاده على أُستاذَيْه الكبيرَيْنِ الخطّاط الصَّيداويّ الأُستاذ كامل سليم البابا، وشيخ الخطّاطين في بلاد الشّام الأُستاذ محمَّد بدوي الدِّيرانيّ؛ وقد ازدانت كتبه بنماذج من خطِّه الرّائق الفائق وذوقه الرَّقيق الأَنيق، كما تصدَّرتْ عناوين الصُّحف كجريدَتَي «الحرِّيَّة» و«السَّفير» بمطرَّزات يراعه وممشوقات قلمه؛ مع لوحات خصِّيصَى لا تتجاوز عَدَّ الأَصابع، شاهدة على يَدِ صَناعٍ وطُولِ باعٍ. أُوتي الأُستاذ الكبير عفيف طبّارة فتوح العبارة بأُسلوب سَلِسٍ عَذْبٍ؛ وَصَفْتُهُ في تقديمي لآخِر أَعماله «معجم القرءان الكريم» بـ: «السَّهل الممتنع»، ولشدَّ ما بثَّني حرصه على تبسيط العبارة وتهذيب اللَّفظ وترقيق الإِشارة، مضيفًا عقولَ مَنْ يسائلهم إِلى عقلِهِ، في تواضعٍ جَمٍّ يجعل من إِنالةِ القارئ فَهْمَ المرادِ، مقصدًا أَوَّليًّا لكلّ مَنْ يتصدَّر التَّصنيف ويتعاطى التَّأليف. وكانت هذه دِينَتُهُ ونَهْجَتُهُ في جميع تصانيفه وعموم تآليفه، وكان من علائم قبولها واقتبالها تجديد طباعتها بأَرقام قياسيَّة، في بلادنا العربيَّة، ومن أَمثلته الجليَّة: أَنَّ كتاب «روح الدِّين الإِسلاميّ» وصل إِلى الطَّبعة الخامسة والثَّلاثين في حياة مُؤَلِّفه، لا يدخل في تعدادها الطَّبعات المَسْروقة ولا الإِصدارات المُتَرجَمَة؛ وقد تجاوزت نُسَخُه المِئَتَي أَلف نُسْخَة، كانت سَبَبَ اهتداءٍ واقتداءٍ. أَشرتُ في فواتح الكلام إِلى بيت مُقَلَّدٍ للمتنبِّي، «النّاسُ ما لَمْ يَرَوْكَ أَشْباهُ»: ومقصودي من هذا الشَّطْر إِيراد العَتْب على طلبة العِلْم وشيوخ التَّربية والتَّعليم، أَفْرادًا ومُؤَسَّساتٍ وجَمْعيّاتٍ، فلو سأَلناهم هل أَفَدْتُم من الأُستاذ الكبير عفيف طبّارة، أَو هل تخرَّجتم بكتبه وتصانيفه، أَو هل تأَدَّبتم بمكنونات حِكَمِهِ وتواليفه، من موائد التَّفسير القرءانيَّة، إِلى موارد الحِكْمَة النَّبويَّة، وبُسُط الأَنبياء، وسُمُط العلماء؟ أَو هل سعيتم إِلى تكريمه وهو «إِهاب القرءان»؟ أَو هل بادرتم إِلى منحه العالِمِيَّة «الدُّكتوراه» الفخريَّة، وهو من جميل العِرْفان وجليل الشُّكْران؟ فماذا عسى أَنْ نُخَمِّنَ الجواب؟ ومَنْ يَدْرِي كم عَدَدُ أُولئك الطَّلبة النّاهضين المستفيدين؟ وتلك المُؤَسَّسات والجَمْعِيّات المُضْطَلعةِ بسياسة الدُّنيا وحِراسة الدِّين! لا جَرَمَ أَنَّهم قِلَّة بالقَطْع والحَسْم والجَزْم واليقين؛ على أَنَّ الأُستاذ الكبير لم يكن يطلب لنفسه شيئًا من ذلك يبتغيه أَو يرتجيه، ولكن هو الاعترافُ بالفضل لأَهله وذويه، «وَلا يَعْرِفُ الفَضْلَ لِذَوِي الفَضْلِ إِلّا ذَوُو الفَضْلِ». وما مَثَلي في هاتِهِ الأُعتُوبةِ إِلّا كمَثَلِ الشّاعر الهادر الصِّنديد، صَخْر ابنِ عمرِو ابنِ الشَّريدِ، في عِتِّيباه الغاضبة: لَعَمْرِي لَقَدْ أَيْقَظْتُ مَنْ كانَ نائِمًا وَأَسْمَعْتُ مَنْ كانَتْ لَهُ أُذُنانِ كنتُ يومًا في خِدْمَةِ سيِّدي وشيخي ومرشدي حضرت سَيِّد الأَولياء شاه محمَّد عثمان سراج الدِّين الثّاني ـ قدَّسنا الله تعالى بسرِّه النُّورانيّ ـ بدارته في مدينة بيوك چكْمَجه، منطقة مراد چشمه، بضواحي إِستنپول صَيْفَ عام 1992 م، فأَتَى على الحديثِ عن مناقبِ جَدِّهِ حضرت سيِّدنا الشَّيخ عمر ضياء الدِّين، وذِكْرِهِ إِيّاه وتذَكُّرِهِ له وهو ابن خمس سنين، ثُمَّ التفتَ إِليَّ وقال: «كاكه عبد الرَّحمـٰن: «مَنْ لَمْ يَرَ مُفْلِحًا لا يُفْلِحُ»». ثُمَّ بعد حينٍ اجتمعتُ بشيخنا العلّامة المحقِّق الفهّامة المدقِّق الأُستاذ عبد الفتّاح أَبو غدَّة ـ رضي الله تعالى عنه وأَرضاه ـ في دارته بمدينة حلب الشَّهباء صَيْفَ عام 1996 م، فحثَّني على البقاء مع طلبة العِلْم ومعايشتهم ومداخلتهم ومناصحتهم ـ وأَنا يومها مديرٌ لكلِّيَّة الشَّريعة الإِسلاميَّة ـ قائلًا لي: «طالِبُ العِلْمِ ما لَمْ يَرَ مُتَحَرِّقًا لا يَتَحَرَّكُ». إِنَّني بصدد التَّنويه بأَهمِّيَّة لُقْيا العلماء ومُشامَمَة العُرفاء، فقد رُوِّينا عن سيِّدي أَبي طالب المكِّيّ في «قوت القلوب» قال: «وقد كان الفقراءُ والمريدونَ يَقْصِدُون الأَمصارَ للقاءِ العلماء والصّالحين، للنَّظرِ إِليهم والتَّبرُّك والتَّأَدُّب بهم». ومن هذه النَّبعة استقى العلّامة ابن الجوزيّ في كتابه «صيد الخاطر» فأَدْلَى ماتحًا: «قد كان جماعةٌ من السَّلَف يقصدون العبدَ الصّالحَ للنَّظَر إِلى سَمْتِهِ وهَدْيِهِ، لا لاقتباسِ عِلْمِهِ، وذلك أَنَّ ثَمرة عِلْمِهِ: هَدْيُهُ وسَمْتُهُ». وفي السِّياق فإِنَّ نصائح شيوخي تحيل على ضِراميَّة اللُّقْيَة وءاكديَّة الرُّؤية، مع الاستغراق في غمرات نور كَيْنُونَة الأُسْوَة والقُدْوَة، وهو ما يفتقده طلبة العِلْم الشَّرعيّ اليوم أَيَّما افتقاد، أَيْنَ أَضْحتِ المُعاصرةُ حِرْمانًا والمُنافرةُ عُنْوانًا وعُلْوانًا وعُدْوانًا. رَحَلَ عفيف طبّارة إِلى جوار مَنْ أَحَبَّ وخَدَم.. و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».. ونِعْمَ الجِوارُ جِوارُ المُحِبِّين.. وقد عَرَفَ طريقه إِلى السَّماء.. بمعارج أَنوار القرءان.. ومدارج أَسرار الفرقان.. ومهما امتدَّ العُمُر بأَحدنا فإِنَّ لحظة الوداعِ تظلُّ ذاتَ تَوَجُّعٍ وتَفَجُّعٍ.. والأُستاذ الكبير عفيف طبّارة مهما عاش بيننا يظلُّ رحيلُهُ باكرًا.. ولكنْ هو الموت يترصَّد الكائن ويتحوَّطه.. مصداقًا لِما فاه به يومًا الشّاعر الثّائر الأَبيّ.. أَبو الحَسَن عليّ ابن محمَّد التِّهاميّ.. راقمًا في مرثيَّته الخالدة: حُكْمُ المَنِيَّةِ فِي البَرِيَّةِ جارِ ما هذِهِ الدُّنْيا بِدارِ قَرارِ بَيْنا تَرَى الإِنْسانَ فِيها مُخْبِرًا أَلْفَيْتَهُ خَبَرًا مِنَ الأَخْبارِ فالعَيْشُ نَوْمٌ والمَنِيَّةُ يَقْظَةٌ والمَرْءُ بَيْنَهُما خَيالٌ سارِ والنَّفْسُ إِنْ رَضِيَتْ بِذلِكَ أَوْ أَبَتْ مُنْقادَةٌ بِأَزِمَّةِ الأَقْدارِ لقد انطوت صفحة الوجود الظِّلِّيّ لفقيدنا فقيد العِلْم والقِرْطاس والقَلَم، وانطوت معها سِنُو قَرْنٍ مِئَوِيٍّ، لم ينقطع خلالها ذيّاك المشارك النِّحرير عن الإِفادة والاستفادة، في متعة العالِم النَّبيل وروعة المُعَلِّم الجليل، خالدٌ بخُلودِ «المَعْرِفَة كَهَيْئَةِ المَكْنُون»، تالدٌ بأُبودِ «نُونْ وَالقَلَمِ وَما يَسْطُرُون». ولله دَرُّ الشّاعر الأَديب النِّقريس الأَريب أَبي الفَتْح عليّ ابن محمَّد البُسْتِيّ في قوله السّائر: إِذا أَقْسَمَ الأَبْطالُ يَوْمًا بِسَيْفِهِمْ وَعَدَّوْهُ مِمّا يُكْسِبُ المَجْدَ والكَرَمْ كَفَى قَلَمُ الكُتّابِ مَجْدًا وَرِفْعَةً مَدَى الدَّهْرِ أَنَّ اللهَ أَقْسَمَ بِالقَلَمْ أُستاذي وصديقي وسيِّدي وقدوتي.. ستظلُّ لأَجيالٍ في ذاكرة الكون وتَذْكار الخالدين.. محتفظًا بحضورٍ أَثيريٍّ.. هو من مَعْدِن روحك الرَّفيفة الأَقباس.. الرَّهيفة الأَنفاس. قالَهُ بفَمِهِ ورَقَمَهُ بقَلَمِهِ الفَقِير الأَقَلّ عبد الرَّحمـٰن ابن ديب الحلو بشامون في 3/ 9/ 2022 (1) هي مُؤَسَّسة التَّعليم الشَّرعيّ والتَّأهيل العِلْميّ الدِّينيّ الَّتي رفع بنيانها ووضع أَركانها سماحة المفتي الأَكبر الشَّيخ محمَّد توفيق خالد سنة 1932 م، تخليدًا لذِكْرَى الشَّيخَيْنِ الكَبِيرَيْنِ العَلَمَيْنِ البَيْرُوتِيَّيْنِ الشَّيخ عبد الله خالد والشَّيخ محمَّد الحوت، ولذا عُرِفَتْ باسم: «الكلِّيَّة الشَّرعيَّة ـ ذِكْرَى الشَّيخَيْنِ خالد والحوت»، يُؤازره مجلس إِدارة من كبار العلماء الأُدباء والأَعيان النُّبهاء، وقد تولَّى إِدارة «الكلِّيَّة» يومذاك الشَّهم النَّبيل والأُستاذ الجليل محمَّد عمر منيمنة. وفي أَوائل سنة 1939 م، جرت معادلة شهادة «الكلِّيَّة الشَّرعيَّة» بالشَّهادة العُلْيا لجامعة الأَزهر، فَعُدِّلَ اسمها إِلى: «كلِّيَّة فاروق الشَّرعيَّة». ثُمَّ في أَواخر سنة 1961 م، أُبْدِل اسم «الكلِّيَّة» باسم «أَزهر لبنان» مع الإِبقاء على عبارة: «ذِكْرَى الشَّيخَيْنِ خالد والحوت» تحت العنوان. وقد حفلت «الكلِّيَّة الشَّرعيَّة» على امتداد تاريخها بأُستاذِينَ بارعِينَ أَثْرَوا الحياة العِلْمِيَّة والنَّهضة الدِّينيَّة في لبنان، وتخرَّج بها على امتداد تسعة عقود ما يزيد عن تسع مئة خرِّيج؛ عُرِفَ الكثير منهم بالعِلْم والأَدب والفلسفة والفِكْر، بَلْهَ الحصافة والصَّحافة والسِّياسة والشِّعْر؛ إِلى وَفْرٍ جميمٍ من ذوي الفقاهة والنَّباهة والدَّعوة والإِرشاد، بَلْهَ المُفْتِينَ والقُضاة. (حول هذه النُّبْذَة التّاريخيَّة؛ يُراجَع: جامعة بيروت الإِسلاميَّة: النِّظام الدّاخليّ للكلِّيَّة الشَّرعيَّة الإِسلاميَّة واللَّوائح التَّنفيذيَّة للنِّظام الدّاخليّ (جامعة بيروت الإِسلاميَّة، بيروت، ط 3، 1421 # = 2000 م)، ص ص 3 ـ 5). ويقارن بـ: الكلِّيَّة الشَّرعيَّة في بيروت ـ ذكرى الشَّيخَيْنِ خالد والحوت: البيان العامّ، 1375 # = 1939 م (بيروت، مطبعة النَّهار، ب. ط، ب. ت)، ص ص5 ـ 8.
مشاركة :