ما يحاول المعسكر الغربى تحليله وترويجه، فى هذا الفصل من عمر الحرب الروسية الأوكرانية، أن الضغط العسكرى على وحدات الجيش الروسى الموجودة فى مناطق بعينها على الأراضى الأوكرانية، يمكن أن يحدث تبدلات جوهرية فى مهام تلك القوات التكتيكية ومنها على الأقل التراجع والانسحاب من المهام المكلفة بها. يأتى هذا بغرض إيضاح الصورة أمام دعاة التفاوض مع الجانب الروسى، بأن فتح باب التفاوض أمر جيد لكن هناك تأكيداً على ضرورة ألا يكون بمعزل عن مسرح القتال، فعليه وحده يمكن إجبار الروس على التفاوض بجدية، عندما يواجهون ما يشبه الـ«هزيمة عسكرية» على أحد خطوط التماس المهمة، وليس مجرد حالة من جمود الأحداث. هناك نموذجان يستشهد بهما لإثبات أهمية وجدية هذا الطرح، الأول الهجوم الروسى على العاصمة كييف، والثانى التخلى عن جزيرة الأفعى، فى كليهما أثبتت القيادة العسكرية الروسية أنها مستعدة للكف والتراجع رغم محورية الهدف بالنسبة لها، عندما ترى فشلاً أكبر يلوح فى الأفق. فى نهاية شهر أغسطس الماضى صعدت القوات الأوكرانية بشكل كبير من شدة هجماتها، فيما سمى بـ«الهجوم المضاد» على المواقع الروسية حول مدينة خيرسون الاستراتيجية، بعد أشهر طالت فيها النقاشات حول جدوى الهجوم الأوكرانى ومدى إمكانية استثماره، أدى ذلك إلى طوفان من التكهنات حول الأهداف والنوايا الأوكرانية. لكن كييف فى النهاية حسمت أمرها لثلاثة أسباب رئيسية؛ أولها أن المسرح الكلى للعمليات فى احتياج طوال الوقت لتعطيل القوات الروسية التى تحتل أوكرانيا باستمرار، حتى لا تتمكن من استعادة زمام المبادرة أو تعزيز سيطرتها على الأراضى والبلدات التى قامت باحتلالها. الثانى له بعد سياسى لا يقل إلحاحاً يتمثل فى ضرورة الإثبات لشركاء أوكرانيا الدوليين، أن إمدادهم بالسلاح والذخائر يؤدى إلى إحراز تقدم فى ساحة المعركة، فى ظل ما ينتويه البعض من خفض وتقليص الإنفاق قبل فصل الشتاء الصعب. والثالث بالضرورة هو الهدف النهائى المعنى بإخراج القوات الروسية من أوكرانيا، عبر تحرير الأرض بالقوة العسكرية المباشرة. مراهنة الجانب الأوكرانى على نجاحه المحتمل فى هذا الهجوم المضاد المنظم، يأتى فى البداية على الأهمية الرمزية الكبيرة للمدينة، فهى واحدة من المدينتين الوحيدتين «خيرسون، ماريوبول» تم احتلالهما بالكامل خلال الحرب الروسية ضد أوكرانيا. وخيرسون التى بلغ عدد سكانها قبل الحرب نحو 300 ألف نسمة وتمثل عاصمة لإقليمها الواقع شرق «نهر دينبرو»، تخضع منذ شهور لخطوات إجراء استفتاء على انضمامها إلى روسيا رسمياً، وهذا ربما حسم قرار الهجوم المضاد لقطع الطريق على ابتلاع روسى نهائى بدا وشيكاً. بدأت عمليات الجيش الأوكرانى منذ أسابيع فى تمهيد نيرانى مكثف ومركز، استهدف بالأساس فصل القوات الروسية هناك عن طرق إمداده الرئيسية، ويبدو أن هناك نجاحاً أوكرانياً ما تحقق رغم ادعاء الجانب الروسى أن القوات الأوكرانية تكبدت خسائر فادحة خلال محاولة هجوم فاشلة، فالثابت أن تلك المرحلة من العمليات لم تشهد هجوماً يمكن توصيفه بالفشل. فقد تركز استهداف الجيش الأوكرانى على المعابر الروسية الرئيسية (3 جسور عائمة) التى أنشأها عبر نهر دنيبرو، باستخدام أنظمة الصواريخ المتطورة «هيمارس» التى زودته به الولايات المتحدة، لذلك أعلنت القيادة الجنوبية للجيش الأوكرانى أنها دمرت الجسور الروسية المؤقتة فوق النهر، بهدف عزل القوات الروسية على الضفة الغربية للنهر من أجل استعادة منطقة خيرسون بأكملها فى النهاية. كما ترددت أيضاً رواية أوكرانية مضادة؛ تؤكد أن فوجاً من القوات المدعومة من روسيا ترك مواقعه فى منطقة خيرسون، بل إن وحدة المظليين الروس التى قدمت الدعم لهذا المحور انسحبت من ساحة المعركة. القراءة الأولية تشير إلى أن العمليات الهجومية الأوكرانية ستنفذ على مراحل متتالية، الأولى منها ستكون الهجوم على خيرسون مباشرة، لكنها بطبيعة تضاريس الأرض ومع التحصينات وقوة النيران الروسية، ستستغرق فترة مطولة من المناوشات عبر القصف الصاروخى الذكى، ثم الضربات العميقة لتعطيل وإرباك الاحتلال الروسى وإحباط معنويات قواته، إنما ستكون فترة العمليات القتالية الرئيسية فى بداية عام 2023. من الواضح أن الروس توصلوا إلى نفس النتيجة، لهذا قللوا بشكل كبير من محاولات إجراء المزيد من العمليات الهجومية، وبدلاً من ذلك يحاولون الحفاظ على قوتهم القتالية أثناء فترة إحلال وتجديد وحدات القتال، التى كشف عنها الرئيس بوتين أنها لن تكون متاحة إلا بحلول فصل الشتاء. لذلك بدأت أوكرانيا العملية فى هذا التوقيت، فمع احتمالية قضاء القوات الروسية شتاءً قارساً فى الهواء الطلق، تعانى من أجواء باردة ورطبة، بالتالى ستكون أكثر عرضة للصدمة وانهيار الروح المعنوية. لكن تظل تلك المؤشرات غير قاصرة على القوات الروسية وحدها، فأوكرانيا مثل بقية الدول الأوروبية تبحث من الآن فى احتمالات نقص الطاقة والوقود، فمعاناتها مضاعفة وتتجاوز الدول التى ليست فى حالة حرب، حيث تضررت الكثير من بنيتها التحتية أو دمر بالكامل. لذلك ستعمل روسيا بخطة جدية لإثارة الانتقادات للحكومة الأوكرانية من الداخل، تماماً كما يستخدمون الدعاية ووكلاء النفوذ للقول إن الحكومات الغربية يجب أن تنفق الأموال فى الداخل بدلاً من دعم أوكرانيا، فإحدى أهم نظريات النصر الروسية تركز على ضرورة كسر الدعم الغربى لأوكرانيا هذا الشتاء. موسكو فى رهان مقابل ترى أن هذا الدعم لا محالة سيتلاشى قريباً، وهو ما يبدو المعسكر الغربى منتبهاً له، لهذا تدعو الولايات المتحدة إلى أهمية أن يتوقف شركاء أوكرانيا الدوليون عن الإعلان حول قوائم سلاح محددة سيزودونها بها، عليهم بدلاً من ذلك أن يعبروا عن التزام طويل الأجل للمساعدات المؤثرة، على الأقل حتى نهاية عام 2024 لكسر النظريات الروسية من ناحية، ومن ناحية أخرى أهم إزالة الضغط السياسى المعرض له النظام الأوكرانى، مما دفعه طوال الشهور الماضية لإنفاق القوة القتالية لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، على حساب التوقعات طويلة المدى وهى الأهم التى ستتحكم فى مصير تلك الحرب.
مشاركة :