وأنا أطالع ديوان «الحَمَدِيَّات» لصديقنا الشاعر محمد هادي الحلواجي الذي ضمنه قصائده التي أنشدها في حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، والذي صدر تزامنًا مع احتفالات البلاد بأعيادها الوطنية في أواخر العام 2020م، لفتت نظري مجموعة من الظواهر الأدبية التي اشتمل عليها. وكان الشاعر قد شرفتني بكتابة تقديمٍ لديوانه أشرت فيه إلى مجموعةٍ من تلك القضايا والمميزات، غير أن مقام التقديم أضيق من أن أتناول فيه كل القضايا التي تميز بها، إذ إن التقديم ليس هو مقام الدراسة، كما أن كل ناظرٍ في قضيةٍ لا بد له أن يتنبه إلى جديدٍ، كلما أعاد النظر في النصوص الأدبية وتأمل في سياقاتها، والحقيقة أنني أرجو أن تتاح لي فرصة إقامة دراسة نقدية شاملة للديوان. إلا أنني في هذا المقال أردت الإشارة إلى قضية أخرى استدعاها في ذهني استقبال صاحب الجلالة الملك المعظم لأخيه فخامة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مملكة البحرين أواخر شهر يونيو الماضي، وتضمين حفل الاستقبال قصيدة ألقاها شاعرنا كان مطلعها: في حبِّ مصر جميل الشعر يبتسم ومن هواها الهوى بالحلم يلتحمُ من دانة الأرض من بحريننا انطلقتْ ولهفة الشوق بالأبيات تضطرمُ والحقيقة أن هذا المشهد نبهني وأعادني إلى صفحات ديوان «الحمديات» لتلمس ظاهرة أدبية فريدة وغير مسبوقة، وهي توظيف جلالة الملك للشعر والأدب توظيفًا جميلاً في الدبلوماسية البحرينية. ولعلَّ من أصعب المواقف التي يقف فيها الشاعر هو أن يقف بين عاهلين يمدحهما ويجمع رؤاهما من محافظته على التوازن في التناول، والمحافظة على انتمائه دون ارتباكٍ، وقد تضمن الديوان مجموعةً من القصائد التي وقف فيها أمام جلالة الملك في أثناء استضافة جلالته أو زيارته لعددٍ من الملوك والرؤساء والقادة، وهو جزء من الديوان جديرٌ أن يخص بدراسةٍ أدبية تظهر قدرة الشاعر وأدبه، إذ استطاع شاعرنا أن يستشرف الرؤية الملكية في بناء تلك العلاقات، وأن يلتمس القضايا والسمات المشتركة بين البحرين والدول التي وقف أمام زعمائها. إن أهم ما يميز الشاعر الفحل هو أن يمتلك رؤيةً شعرية واضحة، وموقفًا شموليًا للقضايا، وقدرةً على التقاط الدقائق ليبني عليها شعره، وينسج مها رؤية متسقة لا ارتباك فيها. ولولا إيمان الشاعر واطمئنانه إلى الذائقة الأدبية الرفيعة لدى ملكيه، وما يكنه جلالته من تقديرٍ لقيمة الفن والأدب وتأثير الكلمة لما استطاع أن يقف في تلك المواقف الصعبة ويلقي ما جادت به قريحته الرائعة بما يأخذ بالأسماع والقلوب. والشواهد على هذا التوظيف البديع كثيرة في الديوان، وهي تبدأ مع زيارة جلالة الملك للمعفور له صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في 16 يوليو 2001، التي القى فيها الشاعر قصيدة عنوانها «شوقًا لعليائك السامي» ومطلعها: جاءتك موشيةً بالورد والعنَمِ غراء قد صدحتْ من كوكب النعم تزهو بأحرف نورٍ من مناقبكم دِيفتْ بحلو الجنى من يعرب الشمم ويصدح الشاعر بقصيدة ثانية عنوانها «زايد الخيرات» في زيارة أخرى قام بها جلالة الملك لسموه بتاريخ 2 مارس 2003 كان مطلعها: نفسي الفداء لغادةٍ حسناءِ خطرت أمام العين في استحياء تختال من فرط الجمال كأنها بدر التمام بليلةٍ ظلماءِ ويجيء الشعر مرة أخرى قصيدة ثالثة أهديت لسموه من جلالة الملك بعنوان «رسالة حب» في سبتمبر 2004 مطلعها: غن المحبة الوئام نشيدًا واصدح بها بين الربوع قصيدًا واملأ فضاء الكون شعرًا صادقًا قد صاغ عقدًا في الوداد فريدًا ويظهر في هذا التوظيف كذلك لدى استقبال جلالته للمغفور له صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد في 18 سبتمبر 2001 بقصيدة عنوانها «تصافح المجدان» ومطلعها: غنىَّ برائعة البيان لساني حبًا لذكر جلالة السلطان وتمايلت طربًا حروف قصيدتي تمشي الهوينى مثل عود البانِ وكتب الشاعر قصيدة أخرى أهدافها جلالة الملك في لوحةٍ مخطوطةٍ إلى جلالة السلطان قابوس في يناير 2014 وكان مطلعها: حيِّ الإباء وحي العزم والهمما وحي من شيد الأمجاد مذ حكما وحي شمس عمان وهي مشرقة مدى الزمان وتخطو للعلى قدما ويبرز الشعر مجددًا بقصيدة «تحية حب» في حفل استقبال جلالة الملك لضيفه فخامة الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي في 16 مايو 2003 ومطلعها: لعمرك لولا الحب لم ينطق الشعر ولولا لسان الصدق ما أزهر الفكر ولولا النوايا الصادقات لما ارتقت شعوب وظل الجهل يطبق والضر ويصعد الشاعر المنصة صادحًا بقصيدته «المغرب والبحرين» في زيارة جلالة الملك لجلالة الملك محمد السادس في اغسطس 2003 ومطلعها: أضحى لسان الهوى بالشعر ينتظم فحلَّق الحرب والتبيان والقلم وحلَّقت هدهدات الشعر هائمة في عالم السحر والأحلام تبتسم ويتجدد الموقف في دولة الإمارات المتحدة بقصيدة «تهنئة البحرين للإمارات» التي ألقيت في زيارة جلالة الملك للمغفور له صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان في 31 يناير 2005 وكان مطلعها: أوقدْ بعزمك للسراة ضياء وارفع بشاهقة الفخار لواءَ جاوز بأجواز السماء مفاخرًا جازت بإنجازاتها الجوزاء لقد استطاع ابن البحرين أن يشد انتباه أولئك القادة إلى غرضه في توظيفٍ سياسي جدير بالإشادة، وتمكن من التقاط رؤية ملكية لتلك الروابط، وأن يعكس منهج البحرين في مد الجسور وبناء العلاقات واستطاع أن يجسد الغرض الذي كان حاضرًا في ذهن جلالة الملك بتوظيف الشعر توظيفًا سياسيًا ودبلوماسيًا رائعًا يجمع بين الأدب والسياسة، وأن يكون حاملاً للرسائل التي يريد مليكه أن يوجهها، فعكس كرم الضياف والتكريم لأولئك الزعماء من جهة، ووضوح المنهج من جهة أخرى، فتوافقت دبلوماسية السياسة مع ما يمكن أن نطلق عليه «دبلوماسية الشعر» وهي قريبٌ مما يطلق عليه النقاد القدماء «اللباقة» وما يمكن أن نطلق عليه في عصرنا «أصول اللياقة» فكانت تلك تلك القصائد رسائل في السياسة في ثوب الشعر الجميل. ولعل اتقان شاعرنا لهذا الدور هو ما جعل القيادة تجعل من تلك القصائد جزءًا من بروتوكولات الضيافة، إذ رأت أنه يعبر عن المقاصد الدبلوماسية، فكانت تطبيقًا للمقولة المشهورة «فأرسل حكيمًا ولا توصه». ولا شك أن هذا التوظيف البديع للشعر من لدن جلالة الملك يعد سبقًا لافتا في تاريخنا الحديث بالموازنة الحصيفة بين الأدب والسياسة، وقد تفرد به جلالته، وهو توظيف غير معهودٍ لاختصار كثير من المقالات والمحاورات لبناء العلاقات وتوظيف الأدب. ويذكِّرنا هذا المنهج بما كان يقوم به الشعر من وظائف سياسية وإعلامية في الشعر العربي القديم، ويؤكد تلك القيم العربية والذوق العربي يوم كان الشعر ديوان العرب. نعم لقد حرص جلالته على إحياء قيمة الفن والأدب، واستثمارها لتكريس القيم وإحياء المشاعر النبيلة واستنهاض الجوانب الانسانية، لذلك ترى جلالته حريصًا على جعل الشعر حاضرًا في كثير من الاحتفالات والمحافل الوطنية والاستقبالات الاجتماعية، التي صدح فيها الكثير من شعراء البحرين أمام جلالته. والحقيقة أن هذا المنهج في بناء العلاقات سواء في الداخل او الخارج كان أمرًا لافتًا في سعي جلالته الإصلاحي والتنموي، وهو ما عبّرت عنه قصائد الديوان في مجملها. وبكلمة موجزة، فإن هذا الديوان يمكن أن نجد فيه ملامح الرؤية السياسية للبحرين ومليكها في بناء القيم، وترسيخ الثوابت، والسعي بكل الطرق إلى بناء نهج ثابت في الدبلوماسية والسياسة.
مشاركة :