اعتُبر نبأ إعلان وفاة صاحبة السمو الملكي إليزابيث الثانية، ملكة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، عن عمر يناهز 96 عامًا، أنه يمثل مرحلة تغيير في مسار التاريخ البريطاني. فقد أشارت ريبيكا ميد، من مجلة نيويوركر، إلى نهاية «المسار الطويل للعصر الإليزابيثي الثاني»، بينما سجلت صحيفة الغارديان «بداية فصل جديد وغير مكتوب للنظام الملكي البريطاني والبلد نفسه»، وتعني وفاة الملكة أن يخلفها الآن ابنها كملك تشارلز الثالث. وعلى الرغم من أن تقدمها في السن أدى بشكل غير مفاجئ إلى تدهور صحتها بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، فقد ذكرت كريستينا لو، من مجلة فورين بوليسي: أن إعلان قصر باكنغهام عن وفاة الملكة إليزابيث بعد ظهر يوم 8 سبتمبر 2022 «أثار موجة من الحزن في جميع أنحاء العالم». إن قوة رد الفعل العالمي الموحد، الذي لم يحظ به أي زعيم عالمي من قبل، ليس مفاجئًا بالنظر إلى مكانة الملكة العريقة كممثلة لبريطانيا العظمى بالنسبة إلى العالم، جنبًا إلى جنب مع سجلها في الكرامة واللياقة كملكة دستورية، بالإضافة إلى حقيقة أنه بالنسبة إلى مليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم، كانت هي الملكة البريطانية الوحيدة التي عرفوها على الإطلاق. ووسط احتفاء واسع النطاق بطابعها الشخصي وتفانيها في أداء واجبات ملكة بريطانيا، أشار المراقبون إلى كيف واصلت الملكة، الموجود جثمانها بقلعة بالمورال في اسكتلندا، مسؤولياتها الملكية لأطول فترة ممكنة، فقد كان آخر التزام علني للملكة هو دعوتها رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس لتشكيل حكومة جديدة في السادس من سبتمبر، وتم إلغاء الاجتماع المقرر مع مجلس الملكة الخاص الذي كان مقررًا عقده في اليوم التالي؛ فقط بناءً على نصيحة أطبائها. تماشيا مع هذا الالتزام، أشار محللون إلى تأثيرها المتزن الذي لا يمكن إنكاره خلال أكثر من 70 عامًا من التغييرات المجتمعية، وأوضح آلان كويل من صحيفة نيويورك تايمز كيف أن عهد إليزابيث الثانية كان «وقتًا يموج بالاضطرابات الهائلة»، ليس فقط في بريطانيا ولكن في جميع أنحاء العالم، ولكن «أسلوبها اللطيف والمنضبط لم يتغير كثيرًا» خلال هذا الوقت. وفي هذه الأثناء، كتب الصحفي المخضرم روبن أوكلي، من مجلة فورين بوليسي، كيف «يمكن تذكر الملكة بشكل أفضل كقائدة قدمت نموذجًا للثبات في عالم سريع التغير»، وقد أضاف المؤلف أوين ماثيوز، من مجلة فورين بوليسي، أنه أثناء فترة حكمها «تغير العالم بشكل لا يُمكن التعرف عليه»، فيما ظلت الملكة إليزابيث «ثابتة واثقة؛ تمثل رمزًا لماض قومي متلاش لن يعود ومستمرة وسط عالم متغير». وتعد الملكة البريطانية إليزابيث الثانية الوحيدة التي احتفلت بمناسبة مرور 70 عامًا على جلوسها على العرش، فقد وُلدت في لندن عام 1926، وأشار أوكلي إلى أنها «كبرت ولم يكن يدور بخلدها أن تصبح ملكة المملكة المتحدة». ومنح تنازل عمها الملك إدوارد الثامن عام 1936 لوالدها، الملك جورج السادس، الفرصة بأن يصبح العاهل البريطاني ودفعها بشكل غير متوقع لتصبح وريثة العرش. وحللت ريبيكا ميد، بشأن الملكة التي توجت في سن الخامسة والعشرين، أن «مشهد صاحبة السيادة الشابة» المنخرطة في «عقود من الخدمة» ساعدت في بث «إلهام ما يغلب عليه الاحترام الشخصي الدائم والمودة تجاهها بين عامة الناس». علاوة على ذلك، على الرغم من الفضائح العامة التي تؤثر على دعم مؤسسة العائلة المالكة، أشار كويل إلى أن الملكة «لم تتلطخ أبدًا سيرتها حتى بتلميح بعيد بعلاقتها بفضيحة»، وأنها حظيت «بإعجاب مؤيدي ومناهضي الملكية على حد سواء؛ بسبب تفانيها الذي لا يتزعزع في أداء الواجب»، و«رفضها الانصياع لتوقعات النقاد الخيالية». وعلى صعيد السياسة، أشاد ماثيوز بمحافظة إليزابيث على «الحياد الدقيق بشأن القضايا السياسية» خلال النظام الملكي الدستوري البريطاني، وأن آراءها الشخصية بشأن التغييرات التي حدثت في بريطانيا خلال فترة حكمها ظلت أمرًا «خاصًّا بشدة». وأشار كويل إلى أن لقاء الملكة الأسبوعي مع رؤساء الوزراء «وفر لها نظرة ثاقبة على أعمال الأمة، بينما كان يُنظر إلى استضافتها التجمعات الدولية وقادة العالم على أنها تعزيز لقدر البريطانيين». هذا هو الاحترام الكبير الذي لا تزال تحتفظ به الملكة، فقد حكم مارك لاندلر، من صحيفة نيويورك تايمز، بأنه «لا يوجد شخصية بريطانية مماثلة ستثير الحزن بشدة»، إلا مع رئيس الوزراء في زمن الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل فقط باعتباره الشخص الذي «قد يكون الأقرب لكسب مشاعر البريطانيين». وبالفعل، أطلق إعلان قصر باكنغهام بداية «انهيار جسر لندن»، وهي مجموعة من الظروف المخطط لها منذ فترة طويلة للأيام المقبلة والتي تعني رحيل الملكة، بما في ذلك عشرة أيام حداد وطني، وعقد جنازة رسمية، وتقييد الإعلانات والتصريحات من قِبَل أعضاء الحكومة البريطانية. وعلى الصعيد الدولي، أدى حضور الكثير من ملوك الدول لزيارات المملكة خلال فترة حكمها، فضلاً عن الترحيب بالكثير من المسؤولين رفيعي المستوى بقصر باكنجهام، إلى تعزيز علاقات لندن مع بقية العالم بشكل لا بأس به؛ فقد قامت الملكة إليزابيث الثانية خلال فترة حكمها بأكثر من 260 زيارة رسمية إلى 117 دولة. كما أوضح مارشال بأسلوب دبلوماسي قائم على الاحترام والحوار، أن وفاتها قد «يشير إلى نهاية نهج سياسة عالمية» لطالما تميزت بـ«فكرة كون العالم أشبه بأسرة دولية أو مجتمع تحكمه العلاقات العائلية فحسب»، مؤكدًا أن الملكة ترى أن دورها يتخطى مسألة «تعزيز التدفقات التجارية ومبيعات الأسلحة، وأن مكانة بريطانيا بين دول العالم تتعلق أكثر بتوطيد العلاقات بين الشعوب، وليس فقط بين النخب والشركات وحكومات الدول، أو الملوك والأمراء». يتضح مدى الشهرة العالمية للملكة في ضوء التصريحات الصادرة عن الكثير من قادة العالم ردًّا على وفاتها؛ حيث أشاد بها الرئيس الأمريكي «جو بايدن» باعتبارها «سيدة دولة كانت تتمتع بكرامة وثبات ورباطة جأش»، كما يرى الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» أن لها «مكانة خاصة في قلوب الشعب الفرنسي بأكمله». وأعربت البلدان الواقعة خارج حدود دول الكومنولث وأقرب الحلفاء للمملكة المتحدة عبر مواقفها العامة عن أسمى آيات الاحترام والتقدير. كما أعلن الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو الحداد الوطني مدة ثلاثة أيام على وفاتها. وعلاوة على ذلك، أرسل المنافسون العالميون لبريطانيا رسائل تعزية حارة، لدرجة إشادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالملكة ووصفه إياها بأنها «قوة نافذة على الساحة الدولية»، ووصف الرئيس الصيني «شي جين بينغ» وفاتها بأنها «خسارة كبرى للشعب البريطاني»، وتعكس تلك الرسائل ردود فعل إيجابية حيال مكانة الملكة إليزابيث كشخصية دولية رفيعة المستوى لم تتأثر مكانتها بالمنافسات الجيوسياسية التقليدية، وتمثل تلك الرسائل رؤية مثالية لكم من الاحترام الدولي والتبجيلات الرفيعة. وأثارت وفاة أطول ملوك بريطانيا حكمًا تساؤلات حول الوضع المستقبلي للنظام الملكي البريطاني بأكمله، كما أن الملك تشارلز الثالث الذي يبلغ من العمر 73 عامًا، ظل يحمل رقمًا قياسيًّا لأطول فترة بصفته وريثًا للعرش، وبات واضحًا أن انتقاله إلى تولي مهام ملكية رسمية رفيعة المستوى هو ما مكنه من البدء بتمثيل والدته في مناسبات عديدة، مثل الافتتاح الرسمي للبرلمان البريطاني في مايو الماضي. وعلى الرغم من أن تشارلز الثالث سيتولى المهام الاحتفالية كملك متوج ومن المتوقع أن يحافظ على مواقف والدته الحيادية في كل الواجبات الرسمية، إلا أن المعلقين لاحظوا بعض الاختلافات الرئيسية في شخصيتهما على مدى الحكومات السابقة والراهنة؛ فقد كانت الملكة إليزابيث ترفض التحدث في الأمور السياسية بأي شكل من الأشكال، لكن تشارلز -وفقا لأوكلي - «لم يُخفِ آراءه السياسية القوية بشأن مجموعة من القضايا»، وكان معروفًا بمراسلاته ومذكراته التي يبعثها إلى وزراء الحكومة «ذوي الحقائب والمناصب الحساسة». كما أشار لاندلر إلى أن تشارلز الثالث «أوضح أنه يريد تغيير طبيعة الآراء المعتادة حيال العائلة المالكة»، بما في ذلك تقليص تلك الآراء وصورتها العامة داخل المجتمع ووجهات نظره تجاه العائلة المالكة والحد من التصورات الخاطئة المفرطة حيالها. وتحظى هذه الرغبة بدعم الملك الجديد، حيث قال سايمون جينكينز، من صحيفة الجارديان، إن الملك الجديد سيكون «واعيًا جيدًا بإنهاء الكثير من الهراء الذي نشأ حول مفهوم العائلة المالكة إبان والدته»، حيث «يرى أن الأسرة المالكة لا تحتاج إلى الاستمتاع - أو في كثير من الأحيان تحمل - شهرة وأسلوب حياة مغاير عما تتبناه معظم العائلات المالكة الأخرى بالدول الأوروبية باختلافها». وفيما يتعلق باستمرار الإرث طويل الأجل والوضع المستقبلي للنظام الملكي في المستقبل، أشارت ميد إلى أن عهد إليزابيث تضمّن «تحقيق توازن بين حالة الشعبية والشهرة الطاغية للعائلة المالكة وبين الاحتفاظ بهالة من الغموض والخصوصية في آن واحد»، بمعنى أن يكون الملك «مألوفًا للغاية لدى الكثيرين، إلا أن هناك غموضًا أو خصوصية بشأن نواح كثيرة بحياته»، ومع ذلك سيتعين على تشارلز الثالث، بصفته الملك الجديد، وفقًا لما ذكر أوكلي، في النهاية «إقناع جماهيره العريضة المتشككة بشكل متزايد بأن النظام الملكي لا يزال جديرًا بالاهتمام وذي ثقل»، مشيرًا إلى أن «العديد من المواطنين والرعايا البريطانيين الذين يوقرون الملكة من غير المرجح أن ينقلوا هذه المودة وهذا التوقير إلى ابنها». في النهاية، تُنهي وفاة الملكة إليزابيث الثانية حالة وفاء عشقها المجتمع البريطاني والعالم أجمع منذ عام 1952، ورغم التدفق المستمر للتغييرات سريعة الوتيرة في الثقافة والسياسة والاقتصاد، إلا أن السلوكيات المتحفظة للملكة كانت سمة ثابتة بارزة بكل معنى الكلمة، كما ذكر المعلقون الغربيون أن وفاتها الآن يعزز الشعور بحالة عدم اليقين الراهنة في البلاد، ففي حين أنه من المتوقع أن يحافظ تشارلز الثالث الجديد على احترام مواقف والدته ومهامها الاحتفالية، فإن جيلًا أصغر من أفراد العائلة المالكة، وبالتحديد الأمير ويليام، بصدد إحداث المزيد من التغيير في واجباته وتصوراته الملكية أيضًا.
مشاركة :