يحمل فيلم «ليدي من شانغهاي» الرقم خمسة بين أفلام أورسون ويلز، الذي حقق هذا الفيلم في العام 1946، وكان في الحادية والثلاثين من عمره. وإذا كان كثر من مؤرخي السينما يفضلون حتى اليوم فيلمه الأول «المواطن كين» على أفلامه التالية، فإن عدداً لا بأس به من هؤلاء النقاد والمؤرخين، يرى أن «ليدي من شانغهاي» يحمل من الدلالات و»اللؤم» الفني أضعافاً مما يحمل «المواطن كين». بل إن هؤلاء يرون ان «ليدي من شانغهاي» يكاد يكون الفيلم الأكثر ارتباطاً برؤى ويلز ورغباته من أي فيلم آخر له، مستشهدين على هذا بما قد يراه المهتم العادي أفكاراً تأتي طبيعية في سياق الفيلم، لكن المهتم الأكثر تبحراً في حياة ويلز وأعماله، يراه مجموعة من تصفيات الحساب تأتي من خارج الفيلم، لكنها تعود وتندمج معه تماماً، بحيث تبدو في النهاية عموده الفقري. ودليلهم على هذا ان قراءة متأنية للقصة الطويلة التي اقتبس منها الفيلم وعنوانها «إذا ما مت قبل أن أفيق» لشروود كينغ، ستكشف ان دلالات كثيرة حفل بها الفيلم، لا تبدو حاضرة تماماً في ذلك النص الأصلي. ولعلنا هنا لا نستبق الأمور إن نحن أشرنا منذ الآن، الى أن قصة كينغ، لا تحتوي تصفية حساب أخلاقية مع المرأة التي يحمل عنوان الفيلم إشارة إليها، ولا تحتوي على أي تصفية حساب مع أميركا ولا مع هوليوود، ولا مع مفهوم المال والنجاح الذي صنع الحلم الأميركي. لكن هذا كله موجود في الفيلم. ودائماً من وجهة نظر المتمرد الهامشي الفوضوي الذي كانه أورسون ويلز منذ بداياته. علماً أن المتفرج الواعي، لا يمكنه أن يخرج من هذا الفيلم من دون أن يحس أن في خلفية الأمر موعظة أخلاقية يحاول أورسون ويلز أن يوصلها، لكنه لا يفعل ذلك إلا مواربة في النهاية. فويلز لا ينسى أبداً، على أي حال، أنه فنان والعمل الفني لا يتعين عليه أن يكون مجرد موعظة. > «ليدي من شانغهاي» مأخوذ من قصة بوليسية تبدو في شكلها الأول حافلة بأحداث مركبة، وبشخصيات يخيل الى القارئ للحظات ان العلاقات في ما بينها أكثر تشابكاً مما يحتاج هذا اللون الأدبي. غير أن ما يشفع هنا، هو تلك الخبطات المسرحية التي لا تتوقف من فصل الى آخر، بل من صفحة الى أخرى. وهي خبطات مسرحية من الواضح انها كانت أكثر ما أثار اهتمام ويلز الى درجة إقباله بحماسة شديدة على تحقيق الفيلم. ناهيك برغباته الخاصة الدفينة التي لم تبد واضحة أولاً، لكنها تتكامل في النهاية، ولا سيما حين نسمع صوت ويلز وهو يقول لنا في اللقطة الأخيرة من الفيلم: «ها هي براءتي تبدو واضحة للعيان. ولكن أن أكون بريئاً أو مذنباً أمر لا يعني شيئاً على الإطلاق. المهم هو أن يعرف المرء كيف يشيخ». > وإذا كان هذا الكلام يبدو هنا غامضاً مرتبطاً بفصاحة لغوية قد لا تعني شيئاً للقارئ، فإن اختتام ويلز حوارات الفيلم بها، يبدو حاملاً كل دلالاته في سياق الأحداث. وهذه الأحداث تبدأ مع البحار مايكل أوهارا، (ويلز)، كما مع إلسا بانستر (ريتا هايوارث)، التي كانت في ذلك الحين، زوجة ويلز، وفاتنة أميركا ورمزاً للمرأة الأميركية). وتبدأ الأحداث بإلسا وقد تعرضت لهجوم من قبل فتيان أشرار، وإذ يكون أوهارا موجوداً في المكان، وهو البحار القوي، يسارع الى إنقاذها منهم... وإثر ذلك يتنزه الاثنان معاً وتشكره عارضة عليه، اعترافاً بفضله، أن ينضم اليها وإلى زوجها عاملاً على متن يختهما، فيرفض. لكنه ينضم بالفعل الى اليخت في اليوم التالي حين تعرفه إلى زوجها المحامي آرثر بانستر، الشخصية الشهيرة في تلك المنطقة، والحيوي بقوة على رغم أنه مقعد. ذلك أن الزوج، رغبة منه في شكر أوهارا، يستضيفه في رحلة على متن اليخت. وهناك، تنشأ بعد فترة علاقة متبادلة بين أوهارا وإلسا، يبدو بانستر أنه غير مبال بها، على عكس شريكه جورج غريسبي الذي لا يفتأ يغمز من قناة العاشقين الشابين، متسلياً بين الحين والآخر بالإتيان على ذكر ماضي أوهارا، الذي شارك في الحرب الأهلية الإسبانية وأعدم بيده أحد الخونة خلال الحرب. لاحقاً يعرض جورج غريسبي على أوهارا مبلغ 50 ألف دولار في مقابل ادعاء اغتياله - أي اغتيال غريسبي - عبر خطة رسمها والغاية منها ان يحصل من شركة التأمين على مبلغ ضخم، ومن ثم يهرب بعيداً من هذا العالم المعرض لخطر القنابل في كل لحظة من اللحظات. بعد أن ينصت مايكل أوهارا الى عرض غريسبي يبدو متردداً بعض الشيء. وحين يعود المركب الى سان فرانسيسكو، يعرض أوهارا على إلسا ان تتخلى عن كل شيء وترافقه، فترفض. وعند ذاك يقرر أوهارا قبول عرض غريسبي ويوقع تصريحاً يقول فيه انه هو الذي اقترف الجريمة. غير ان إلسا سرعان ما تنبه أوهارا، الى فخ يرسمه له زوجها، لكنه لا يقتنع بكلامها. ولاحقاً عند المساء يطلق غريسبي النار على بروم، وصيف بانستر وعينه الساهرة... ثم يتوجه غريسبي مع أوهارا بغية وضع الخطة النهائية لـ «جريمة» القتل التي سيبدو غريسبي ضحيتها. وبعد حين إذ يهتف أوهارا الى بيت بانستر يرد عليه بروم، الذي سنعرف الآن ان اصابته لم تكن قاتلة، ويعلمه أنه أي أوهارا، انما خُدع من قبل غريسبي الذي كان كل همه أن يقتل بروم ويلصق التهمة بالبحار الشاب. غير ان الذي يحدث بعد ذلك، هو ان غريسبي يعثر عليه قتيلاً بالفعل قرب دارة آل بانستر، ويُعتقل أوهارا لتوجه اليه تهمة القتل إذ وجد الاعتراف الذي كان وقعه بنفسه. ويتولى الدفاع عنه محاميه، بانستر، الذي يؤكد له الآن بكل لؤم أن لا أمل له بالإفلات. وبالفعل يصدر الحكم على أوهارا أنه مذنب، لكنه يتمكن من الفرار الى حيث يلتقي، في صالة مسرح صيني، بإلسا... التي يلاحظ وجود مسدس في حقيبتها، فيدرك انها هي القاتلة. ان بروم قُتل لأنه حاول ابتزازها... ثم بعد ان تخلصت منه عادت وتخلصت من جورج غريسبي الذي كان مطلعاً أكثر من اللازم على ما تفعل. وإذ يدرك أوهارا هذا كله وأن إلسا تسعى الآن إلى قتله يهرب ليجد نفسه وسط غرفة مرايا في مدينة ملاه... لكنه ليس وحده هناك، بل معه إلسا وبانستر. وهكذا تبدأ رحلة مطاردة وكراهية ومحاولة كل واحد للتخلص من الآخرين في تلك الغرفة، حيث تتضاعف صور الأشخاص، ما أتاح للمخرج ويلز أن يصور واحداً من أغرب المشاهد في أي من أفلامه. في النهاية يتقاتل الزوجان ويقتلان بعضهما بعضاً... ولكن ليس قبل أن تعترف إلسا بكل جرائمها. أما بحارنا فإنه يتابع طريقه لا يلوي على شيء. > تلك هي، في اختصار، أحداث هذا الفيلم، الذي أزعج الأميركيين كثيراً في ذلك الحين، خصوصاً أنهم أدركوا، بمساعدة النقاد والصحافة، ما فيه من «تحامل» على المرأة، وعلى منظومة النجاح، وعلى الحلم الأميركي حيث لوحظ قدر الشر الذي أسبغه ويلز على ليدي جميلة، لم تكن زوجته فقط، بل كانت - في حد ذاتها - حلماً أميركياً يتعلق بأمثلة المرأة، وتقديس الحب. والحقيقة ان الأميركيين لم يكونوا مخطئين في تلك النظرة التي أطلقوها على سينمائي شاب، كان سبق في «المواطن كين» وفي «آل أمبرسون الرائعون» أن أطلق الرصاص نفسه على وجوه أخرى من أوجه ذلك الحلم الأميركي، الذي كان هو، أورسون ويلز (1915 - 1985) يجسد وجهه الآخر، ويؤمن بأن لا لقاء بين وجهي الحلم. بل لا حياة لأحدهما في وجود الآخر: فإما أن يكون الحلم مبنياً على النجاح المادي المرتبط بألف خديعة ومهزلة، وإما أن يكون مبنياً على قدرة البريء على فرض منظومة أخلاقية على المجتمع. ونعرف، من خلال شخصية أورسون ويلز كما من خلال أفلامه، انه دائماً ما سعى إلى جعل حلمه الأميركي الأخلاقي الخاص، يقارع الحلم الآخر. وما «ليدي من شانغهاي» بالنسبة إليه، سوى جولة في ذلك الصراع.
مشاركة :