'رحَّالة' أولغا توكارتشو كخزانة من الفضول والبحث والتأمل

  • 9/15/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تمزج رواية "رحَّالة" للروائية البولندية أولغا توكارتشوك الحاصلة على جائزة نوبل للعام 2018 تأملات حول السفر وتجليات رؤاه وأفكاره التي تحمل استكشاف متعمق لحركة الجسد الإنساني، ووقائع الحياة المعاشة، والمرض والموت، والحب، والهجرة، وذلك من خلال أجساد وعقول شخصيات حقيقية ومتخيلة ومتشابكة مع تأملات ملتبسة ومؤرقة ومرحة ومثيرةتم نسجها ببراعة، تستكشف الرواية التي ترجمها إيهاب عبد الحميد ما يعنيه أن تكون مسافرا أو متجولًا أو جسمًا في حالة حركة دؤوبة ليس فقط عبر المكانوالزمن ولكن أيضا عبر فضاءات وعوالم أنثربولوجيا ثقافية. من أين أنت قادم؟ إلى أين تذهب؟ ما الذي تحمل؟ ما الذي ترى أو تشاهد أو تفكر به؟. رجل بولندي في جزيرة كرواتية لقضاء عطلة، يبحث عن زوجته وطفله المفقودين؛ أستاذ كلاسيكي تم تعيينه كمحاضر بارز في رحلة بحرية يونانية، يسقط على متن القارب ويموت في أثينا؛ أم روسية كانت مقيدة منذ فترة طويلة برعاية ابنها المريض بشدة، تخرج من منزلها وحياتها، وتجرب حياة جديدة محفوفة بالمخاطر، وركوب مترو موسكو وقضاء بعض الوقت مع المشردين؛ طبيب ألماني مهووس بأجزاء الجسم "يحتفظ بصور الفرج في صناديق من الورق المقوى"، يسافر إلى مؤتمر للتحدث في مداخلة له عن "الحفاظ على عينات الباثولوجيا من خلال بلاستيك السيليكون.. إلخ. الرواية التي صدرت عن دار التنوير تتميز بحبكة غير تقليدية، قد تبدو فوضوية في البداية، لكننا بعد ذلك نجد أنفسنا أمام هيكل معقد للغاية، ولم ينتج عنه اتجاه سردي واحد، بل نوعًا من شبكة متلألئة من الترابطات السردية، وكأن المؤلفة استلهمت خرائط ومسارات الخطوط الجوية الشبيهة بالشبكة. تربط المؤلفة بين قصصها بطريقة التشريح وكأنها تفكك خيوط الغموض، وتقوم بفحص وإعادة فحص كل عينة بتفاصيل دقيقة بشكل متزايد. تدور كل قصة حول البحث عن الحياة الخالدة وجوهر الوجود البشري. إنه بحث يقود شخصيات رحلات الطيران وراويها إلى سبر لا ينتهي ولا يهدأ للعوالم الخارجية والداخلية للبشرية، رافضًا الفصل بين الجسد والروح. هناك نظرية طوباوية للتنقل وفضول لا نهاية له، هناك الواقع اليومي، الذييتكون من مئاتالتفاصيل المألوفة، معظمها لا يوصف - الغرف التي نجلس فيها، والغرف الباهتة التي نشأنا فيها؛ الشوارع التي نعيش فيها، والشوارع القديمة التي نشأنا عليها، والتي لا توجد الآن إلا في رؤوسنا. هناك الأفق المرغوب فيه، ولكن هناك أيضًا الحقل المجعد الذي نعرفه جيدًا والذي جعلنا ما نحن عليه. تبدأ بتذكر الراوية/ الرحالة طفولتها البولندية، وكيف انجذبت إلى نهر "أودر"، وهو مثال للحركة التي تنطلق في آفاقها الرواية "بدا لي هائلا ينساب على هواه، بلا عراقيل تذكر، ميال للفيضان، غير متوقع. من حين لآخر على طول ضفافه،كان يقابل عائقا تحت السطح، فتتشكل دومات. لكن النهر كان ينساب بخيلاء، لا ينشغل بمقاصده الخفية وراء الأفق، في مكان بعيد هناك في الشمال، لم يكن بوسعك أن تركز عينيك على المياه، إذ كانت ترفع أنظارك إلى ما وراء الأفق، إلى أن تفقد توازنك". الراوية التي يبدو أن لوالديها جذور عميقة في البلد، وهو وجود تقليدي تتخلله الإجازات السنوية فقط، تخبرنا أنها مسرورة لوجودها الحر "واقفة هناك فوق السد على الضفة أحدق في التيار، أدركت أن الشيئ المتحرك ـ رغم كل المخاطر ـ يظل دائما أفضل من الشيئ المستكين؛ أن التغير يظل دائما أنبل من الديمومة، أن الساكن سيتفكك ويتحلل، ويتحول إلى تراب بينما المتحرك قادر على البقاء إلى أبد الآبدين". هكذا فإن الطاقة الفنية التي كتبت بها الرواية هي طاقة مستمدة من الحركة من ارتعاش الحافلات، وضجيج المطارات، قعقعة الطائرات، اهتزاز القطارات والعبارات وتقلبات البشر والطبيعة، وتناقضات التاريخ والثقافات والحضارات. إنها رواية مثيرة بالطريقة التي تكون فيها الأشياء غير القابلة للتصنيف مثيرة، إنها عمل خيالي وخزانة من الفضول والبحث والتأمل، تسافر بقارئها عبر سلسلة لا نهائية من المطارات، والتي تعتبرها الراوية/ الرحالة موطنًا إنسانيًا جديدًا. تقول "لطالما حلمت بالمشاهدة من دون أن يراني أحد. مثل كاميرا "الغرفة المعتمة" التي صنعتها ذات مرة من صندوق أحذية. كانت تلتقط لأجلي جزءا من العالم عبر فضاء أسود مغلق له حدقة مجهرية يتسلل منها الضوء. كنت أتدرب". إن الراوية/ الرحالة تنجذب إلى كل الأشياء الفاسدة، المعيبة، المحطمة"، إلى "أي شيء ينحرف عن القاعدة، صغيرا جدًا أو كبيرا جدًا"، ويتجلى ذلك في حكاياتها الصغيرة عن المطارات وردهات الفنادق وعلم نفس السفر وكتيبات إرشادية، وحكايات أطول تدور أحداثها في جميع أنحاء العالم وفي عصور تاريخية مختلفة، كما لو تم العثور عليها. لذا فإن الرواية ممتلئة بعوالم وفضاءات شديدة الثراء الإنساني والاجتماعي والثقافي، هذا الثراء الذي يرزخ تحت وطأة تناقضات وهزائم ونزاعات السياسة. مقتطف من الرواية ** متلازمة أعراض سجل سفرياتي سيكون في الحقيقة سجلا لعلّة مرضية. أعاني من متلازمة يمكن العثور عليها بسهولة في أطلس المتلازمات السريرية تزداد وتيرتها ـ على الأقل وفقا للأدبيات ـ بمعدل أكبر فأكبر. والأفضل أن نلقي نظرة على تلك الطبعة القديمة "المنشورة في السبعينيات" من كتاب "المتلازمات السريرية"، وهو أشبه بإنسيكلوبيديا للمتلازمات المرضية. كما أنه بالنسبة لي معين لا ينضب من الإلها. فمن يجرؤ على وصف الناس كوحدات متكاملة؛ من الناحية الموضوعية والعمومية على حد سواء؟ من ذا الذي سيوظف فكرة "الشخصية" بتلك القناعة؟ من ذا الذي سؤاكمها فوق بعضها ليخرج بأنماط مقنعة؟ لا أظن. فكرة متلازمة الأمراض تناسب "علم نفس السفر" مثلما يناسب القفاز اليد. المتلازمة صغيرة، محمولة، لا تثقلها النظرية، مجزأة. يمكنك استخدامها لوصف شيئ ما ثم طرحها جانبا. أداة معرفية تستخدم لمرة واحدة ثم تلقى بعيدا. متلازمتي تسمى "متلازمة التطهر التكراري (من السموم)". ويتلخص وصفها، من دون تزين أو تزويق، في إصرار وعي المرء على العودة إلى صور بعينها، أو حتى على البحث الهوسيّ عن تلك الصور. إنها تنويعة على "متلازمة العالم الخسيس"، التي وصفت باستفاضة نسبية في الدراسات النفسية العصبية كنوع معين من العدوى تسببه وسائل الإعلام. إنها علة مرضية بورجوازية بامتياز، فيما أظن. بقضي المرضى ساعات طويلة أمام التليفزيون، ينقرون بأصابعهم على أزرار جهاز التحكم عن بعد، يقلبون في القنوات كلها إلى أن يعثروا على قنوات تبث أكثر الأخبار فظاعة: حروب، وأوبئة، وكوارث. ثم مفتونين بما يرونه، لا يستطيعون إبعاد أنظارهم. الأعراض نفسها ليست خطيرة، وتسمح للمرء بأن يعيش حياة طبيعية طالما ظل قادرا على الحفاظ على مسافة شعورية ما. هذه المتلازمة التعسة لا شفاء منها؛ يعجز العلم فيها إلا عن تأكيد وجودها المؤسف. عندما ينتهي الحال بالمرضى وقد انزعجوا من سلوكهم ذاته، إلى عيادات الأطباء النفسيين، يطلب منهم أن يحاولوا عيش حياة صحية أكثر ـ التوقف عن شرب القهوة والكحوليات، النوم في غرفة جيدة التهوية، ممارسة البستنة، أو النسج، أو التطريز. مجموعة أعراضي تتمحور حول انجذابي لكل ما هو فاسد، معيب، منقوص، معطوب. أجدني مهتمة بكل شكل قد يتخذه هذا، أخطاء في صناعة غرض ما، طرق مسدودة. ما كان يفترض أن يتطور لكنه لم يتطور لسبب ما؛ أو العكس، ما تمدد متجاوزا نطاق تصميمه. أي شيئ ينحرف عن النمط السائد، أي شيئ أصغر من الطبيعي أو أكبر من الطبيعي، متضخم أو ناقص، بشع ومقزز. الأشكال التي لا تكترث بالتناظر، التي تنمو بطريقة أسية، تطفح وتفيض، تنبثق هنا وهناك، أو على العكس التي تتقلص إلى وحدة مفردة. لا تعنيني الأنماط التي يحقق فيها الإحصائيون ويدققون، تلك التي يحتفي بها الجميع بابتسامة مألوفة وراضية على وجوههم. أشعر بالضعف تجاه العجائب والمسوخ. أؤمن على نحو راسخ، موجع، أنه في تلك المسوخ يشق الوجود طريقه إلى السطح ويكشف عن طبيعته الحقيقية. كشف ناتج عن ضربة حظ. عبارة "لا تؤاخذني" يقولها شخص بالحرج، خياطة لباس داخلي تظهر من تحت تنورة أنيقة متعددة الثنيات. الهيكل المعدني البشع الذي ينط فجأة من التنجيد المخملي؛ انبثاق نابض من داخل كرسي وثير يفضح أوهام الطراوة. ** سبع سنوات من الرحلات "كل سنة ننطلق في رحلة، ظللنا نفعل ذلك لسبع سنوات، منذ أن تزوجنا"، هكذا قال الشاب في القطار. كان يرتدي معطفا أسود، طويلا أنيقا، ويحمل حقيبة مستندات صلبة تشبه نوعا ما شنطة فضيات مائدة فاخرة. كان يقول: "لدينا أطنان من الصور، نحفظها بطريقة منظمة. جنوب فرنسا، تونس، تركيا، إيطاليا، كريت، كرواتيا ـ بل وإسكندنافيا". قال إنهما عادة يتفرجان على الصور عدة مرات: أولا مع العائلة، ثم في المكتب، ثم مع الأصدقاء، وبعدها تحفظ الصور بأمان في ملفات بلاستيكية، مثل دليل في خزانة محقق ـ دليل على أنهما كانا هناك. سارحا في أفكاره، راح ينظر من النافذة على المنظر الطبيعي الذي بدا وكأنه يهرع متجها صوب مكان ما. ألم يفكر قط في معنى عبارة "كنا هناك" من الأساس؟ أين ذهب هذا الأسبوعان في فرنسا؟هذان الأسبوعان اللذان بات بالإمكان حشرهما اليوم في بضع ذكريات فحسب ـ الإحساس المفاج بالجوع بجوار جدران المدينة القروسطية وألق المساء في مقهى سقفه مغطى بتعريشة عنب. ماذا حدث في النرويج؟ لم يبق منها إلا مياه البحيرة الباردة في ذلك النهار اللانهائي، ثم فرحة البيرة التي اقتنصت قبل إغلاق المتجر مباشرة، أو النظرة الأولى الآسرة للزقاق البحري. "الأشياء التي رأيتها صارت ملكا لي"، هكذا استنتج الشاب الذي عاد من سرحته فجأة، وهو يضرب فخذه بكفه.

مشاركة :