سنتجاوز ما تفعله فينا الأرقام والإحصائيات من إحباط للعزائم بخصوص تزايد حالات العنف بأشكاله المتعددة ضد النساء في العالم وأيضاً في بلداننا، مع إيلاء العنف المخفي عن الانتباه من تصاعد واتساع في الحجم. ولا يخفى أن التفاقم متوقع جداً؛ فكلما اشتدت الأزمات الاقتصادية طال العنف الفئات ذات الهشاشة. وفي كل مرة أيضاً تتم إعادة اكتشاف انتماء النساء إلى الفئات ذات الهشاشة؛ الأمر الذي يحتم مجدداً الخروج من الأساس من إطار الهشاشة وسجنها أولاً وأساساً. وفي هذا السياق، يكفي أن نضرب مثلاً قريباً يرتبط بجائحة «كوفيد» حتى نتأكد كيف أن النساء هن الضحايا في الأزمات، وليس صدفة أن الأزمات تفتك الاقتصادات بشكل أساسي مما يقوي العلاقة السببية بين العنف والوضعية الاقتصادية. أولاً، وكي لا يتم حصر العنف في الجانب المادي المرئي منه، من المهم تحديد ما نقصده بالعنف ضد المرأة؛ لأن في الإشارة إلى تعدد أشكاله لفت انتباه إلى حجم الظاهرة وتمظهراتها. وأيضاً يمكن تحديد من المهددة بالعنف ومن تمتلك مقومات النجاة من العنف. يُعرف العنف ضدّ المرأة بكونه تلك الأفعال والممارسات والاعتداءات الموجّهة ضد المرأة على أساس جنسها وكونها امرأة، والذي يتسبب في إيذاء أو ألم أو ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي للمرأة، ويشمل أيضاً التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان من الحقوق والحريات، سواء في الحياة العامة أو الخاصة، ومن هنا يتبين لنا الطابعُ المعقّدُ والمركّبُ للظاهرة. فالعنف ضدّ المرأة يُعدّ أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشاراً واستمراراً، حيث تباينت مظاهره مع مرور الوقت وبين المجتمعات، فغالباً ما يُنظر إلى هذا العنف على أنه آليّة لإخضاع النساء، سواء في المجتمع بشكل عام أو في العلاقات بين الجنسين، بحيث ينبني على علاقات القوّة غير المتكافئة بين الرجال والنّساء. ولكن من باب الموضوعية والنظرة الشاملة للقضايا والظواهر من المهم تنزيل العنف القائم على النّوع الاجتماعي، ضمن ظاهرة العنف في المجتمع ككل، ذلك أن الاقتصارَ في المعاينة والملاحظة على العنف المسلّط على المرأة قد يفضي إلى استنتاجات مبالغة وغير دقيقة من شأنها الإسهام في تشويش الفهم والمبالغة في وضع استنتاجات بعيدة عن الموضوعيّة والدقّة. فلا بد من تناول الظاهرة من المنظور النفسي والسوسيولوجي والثقافي والاقتصاديّ، وعدم الاكتفاء بالتعاطي القانوني والقضائي، حيث إنّنا عالمياً وعربياً إزاء عنفٍ مركّبٍ ومعقّدٍ... عنفٌ يطالُ الطفلَ وكبيرَ السنّ والنّساء وحتى الرجال أيضاً، بل إنّ الاعتماد على أثر المتغيرّات الاجتماعيّة في ظاهرة العنف لا يقدّم لنّا التفسيرات التي تشبع توقعاتِنا المعرفيّة. نعتقد أن ما يمكن الحفر فيه معرفيّاً لفهم ظاهرة العنف القائم على النّوع الاجتماعي، يتصل بتحديد خصوصيّة أو خصائص هذا النوع من العنف، أي بالتوقّف عند سوسيولوجيا النّساء المعنفات: من هن النّساء الأكثرُ عرضة للعنف والأقلُ تعرضاً، ومن هن الناجيّاتُ من العنف؟ لقد أولينا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وإلى حد اليوم التفسيرَ الثقافي في مقاربة ظاهرة العنف وأثر النسق الثقافي القائم على الهيمنة الذكوريّة في إنتاج علاقة بين الجنسين تقوم على التمايز في الأدوار، النصيبَ الأكبرَ من التفسير، وأهملنا التفسيرَ الاقتصادي في فهم ظاهرة العنف، وهو تفسيرٌ لا مفر من الإصغاء إليه والتعامل معه بكل جرأة وشجاعة من أجل الفهم الموضوعي للظاهرة ومن ثم القبض على أحد أهم أسبابها. فالتمكينُ الاقتصادي أكثرُ قدرة على تغيير واقع المرأة، إضافة إلى أنه يمتلك قوة جذب الأبعاد الأخرى وتيسير تحقيقها. هكذا هو واقعُنا اليوم: إرادات سياسية قوية في انتصارها لحقوق المرأة وكرامتها، وتشريعاتٌ رائدة وبرامجُ وخياراتٌ تنتصر للمساواة بين الجنسين وتكافؤ الفرص وسياسات وطنية تُرصد فيها الاعتمادات حسب إمكانيات الدول وميزانياتها. ولكن كل المجهود المتراكم منذ سنوات لم يسهم كما يجب وكما نتوقع في تراجع العنف ضدّ النساء، وهو ما يقودنا إلى طريق الفكر النقدي وتطوير البحوث العلمية وتشجيع الدراسات الكمية والكيفية وإنتاج الإحصائيات، لإيجاد حلول تساعد على تقليص الفجوة بين الترسانة القانونيّة التي تقرّ بالحقوق وتضمنها، والواقع المجتمعي الذي يعاني من تنامي ظاهرة العنف، وبالتالي لا بد من العمل على حسن تطبيق هذه القوانين والتفكير في المشكلات التي تعترضها وتعطل أحياناً مسارَها التطبيقيَّ، خاصة منها ما يتصل بالممارسات الاجتماعية التي لا تزال مترددة بين رفض العنف والتسامح معه. إنّ مقاربتنا تشريعية والمهيمن على تفسيرات ظاهرة العنف التفسير الثقافي، ولكنّنا لم نفكر جميعاً في الخسائر التي يتكبّدها كلُ المجتمع بسبب العنف عموماً والعنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل خاص. أي بلغة خبراء المال: ما هي التكلفة الاقتصادية التي ندفعها بسبب ظاهرة العنف المسلط على المرأة؟ إننا نفترضُ أن حصرَ هذه التكلفة، التي لن تكون إلا باهظة جداً، وضبطَ الخسائرِ المدفوعة بوعي أو بغير وعي، من النقاط التي يمكن أن تحوّل وجهة المقاربة ومنهجية المعالجة بشكل ربما يحدث فارقاً. إنّ الأكثر نجاة من العنف هن صاحبات الاستقلالية الاقتصادية.
مشاركة :