حط رحال الفنانة التشكيلية العراقية ميسلون فرج للمرة الأولى في فرنسا، لتنقل إلى جمهور الفن التشكيلي جزءا من أعمالها الفنية، التي تمزج بين مدارس الشرق والغرب متأثرة بالمدرسة التكعيبية نظرا إلى تكوينها الهندسي بالأساس، وتحاول تقديم فهم وتحليل فني لتأثير الحجر الصحي على الإنسان عامة والفنان بصفة خاصة. الإنسان كائن عجيب، ليس لأنه كوكب غير مُكتشف، بل لأنه أذكى كائنات الأرض ولكنه في ذات الوقت الأكثر تفريطا أو استخفافا بمن يحيط به من كائنات مُحبة بصدق غير مرتبط بعدد السنوات ولا بالمصالح الشخصية. وإن كان ذلك شائعا جدا ويزداد انتشاره اليوم، فكيف لا يكون إهمال الإنسان للأشياء الصغيرة التي تحيط به، والتي اختارها يوما ما وأحضرها إلى منزله أو إلى أي مساحة شخصية يسيل فيها ساعات من عمره المُقدر له على الأرض، أمرا مفروغا منه ولا لبس فيه؟ عندما حلت فترة الحجر الصحي بسبب وباء فايروس كورونا المستجدّ، الوباء الذي يزداد الغموض حول أصوله وأهدافه المٌحتملة جدا إضافة إلى نتائجه الملحوظة، دُفع الإنسان إلى التروي والنظر من حوله لا بل التأمل في كل ما يحيط به مما حضر عن طريق الصدفة أو مما اختاره أو قُدم له. لم يعد أي شيء من المُسلمات وكل الأشياء عادت لتظهر بالطاقات المشحونة بها سلبا أو إيجابا. للهندسة حضور طاغ في لوحات ميسلون فرج ونظمت معارض فنية كثيرة في كل دول العالم حول موضوع الوباء، ونشأت مواهب فنية جديدة خلال تلك المرحلة من السبات الجسدي والتوقد الروحي. واستمر أثر هذه المرحلة دامغا في نفوس البشر لفترة طويلة بعد فك الحجر الصحي حتى برز هذا السؤال: إلى متى سيظل الإنسان يتذكر ما حدث له في تلك الفترة وكيف تحولت نظرته إلى الأمور وإلى ما اعتبره من الأولويات؟ من الواضح أن “العجيب” سيظهر مُجددا وهو قدرة الإنسان على نسيان الضعف والحيرة التي اختبرها نحو المزيد من "التصحّر" الروحي والتمسك بالعوالم الافتراضية التي صُممت كي تنزع ما تبقى من إنسانيته. ويأتي معرض الفنانة العراقية ميسلون فرج المتعددة الوسائط، والذي أقامته مؤخرا، بعد مرور عدة أشهر على انحسار موجة الوباء ولأول مرة في مدينة باريس، العاصمة الفرنسية، مُذكرا بالألق الذي استعادته الأشياء البسيطة من حولنا والأشياء الجميلة التي أحضرناها يوما إلى بيتنا ولم يعد لنا متسع من الوقت للتمتع بها وبالتالي الشعور بالرضا. هذا الشعور تحديدا، شبه مفقود في العالم اللاهث نحو فنائه. وأطلقت الفنانة العراقية على معرضها هذا عنوان "في بيتي"، وضم لوحات بأحجام مختلفة رسمتها ميسلون فرج خلال فترة الحجر الصحي ما بين عامي 2020 و2021 وعرضتها اليوم فجاءت كنوع من فعل إنعاش، إذا صح التعبير، مشاعر اختبرها الإنسان حول العالم أثناء فترة الحجر الصحي. وقد وشت اللوحات التي عرضتها الفنانة في صالة مارك هاشم الباريسية بالخلفية الأكاديمية للفنانة، فهي مهندسة معمارية وممارسة لهذه المهنة. وقد استخدمت في لوحاتها الحاضرة كما السابقة الكثير من العناصر الهندسية كالمثلثات والمستطيلات والمربعات حيث تلاقت الزوايا والخطوط وشكلت أحجاما متقاربة ومتباعدة، وانبثق بعضها من قلب بعضها الآخر حتى باتت بعض الأعمال كثيرة الشبه بالأعمال التكعيبية مع الحفاظ على شاعرية قليلا ما كانت تحضر في اللوحات التكعيبية الجارحة في مجملها، حتى وإن كانت تعبر عن الحزن الشديد كما في اللوحة الشهيرة للفنان بابلو بيكاسو التي حملت عنوان "المرأة الباكية". ميسلون فرج من الفنانين الذين نهلوا من الفنون الغربية و"لوّحوها" بشمس عربية غيرت معالم اللوحة وأبعادها النفسية كما استخدمت ميسلون فرج في لوحاتها ألوانا متماسكة وقوية أخذتنا هي أيضا إلى أوج أيام المدرسة التكعيبية (بدأت حوالي العام 1907) حيث غابت التدرجات اللونية وبرز اللون الأسود كخط يحدد الأشكال ويقيم توازنها وتناغمها في فضاء اللوحة. وسبق أن ذكرت الفنانة ما يؤسس لأعمالها الفنية بشكل عام وينطلق أساسا مما ذكرناه آنفا في هذه الكلمات “بقدر ما أستطيع أن أعود فيها بالذاكرة أجد أنني مفتونة بصنع الأشياء، فبواسطة تجميع قطع من ورق تغليف الحلوى أو أغطية القناني لصناعة تصاميم لثريات، أو أنسجة الخياطة العائدة إلى والدتي كنت أصنع تصاميم لملابس الدمى. كما بواسطة اللدائن الملونة، الأقلام الملونة والأصباغ، كنت أرسم العديد من الأعمال زاهية الألوان، كل ذلك كان، كما وجدته، يحمل سحرا بأتم معنى الكلمة". صحيح أن الفنانة تأثرت كثيرا بالمدرسة التكعيبية لناحية توزيع الأشكال، إلا أنها تستحضر في اللوحات ذاتها أجواء الفنان فنسنت فان غوخ والفنان هنري ماتيس لتطعم معظمها بنكهة عربية - عراقية بارزة. حين تكون للألوان فرادتها وللعمق أثره والجدير بالذكر هنا أن بعض لوحات الفنانة تذكّر بتلك التي أنجزها الفنان هنري ماتيس حين اعتكف في بيته بعيدا عن أجواء الحرب العالمية المحتدمة من حوله. أما بعض اللوحات الأخرى للفنانة ميسلون فرج فتأخذنا إلى عوالم فنسنت فان غوخ، وتحديدا إلى تلك التي رسمها في أيام عزلته. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار ميسلون فرج من هؤلاء الفنانين الذين نهلوا من الفنون الغربية و"لوّحوها" بشمس عربية غيرت معالم اللوحة وأبعادها النفسية والاجتماعية والثقافية. ونذكر من عناوين لوحات الفنانة "دوار الشمس العراقي" و"وقت الشاي مع التمر وماتيس" و"استكانة الحب" و"ماتيس والشال الأحمر" و"على الحافة" و"نفس عميق". واحتدمت الألوان في تلك اللوحات. وظهرت في إحداها سماء زاخرة بشموس فنسنت فان غوخ. وفي تعاكس مع الألوان الدافئة داخل المنزل ظهرت رماديّة وخواء الطرقات من خلال نافذة مفتوحة. واكتست في لوحات أخرى الطاولات التي تقف عليها مزهريات عابقة بالأزهار، بزرقة ناصعة مُستقاة من روعة البحر في يوم شتائي صاف لتكون مصدر فرح لقلب الفنانة المختبرة للعزلة. وقد قالت ميسلون فرج عن هذه المجموعة "الألوان بالنسبة إلي هي لغة الحب. خلال أيامنا الأشد ظلاما حاجتنا إلى ما يطمئننا ويؤكد لنا أن الإنسانية في نهاية المطاف ستنتصر هي أهم ما نريده. لأجل التغيير وإشراق الضوء من جديد، أقدم هذه اللوحات!".
مشاركة :