بعد سبعة أشهر من العملية الروسية في أوكرانيا، عانت قوات «بوتين» من أكبر انتكاسة لها منذ بداية الهجوم على كييف، مع هجومين كبيرين نجحا في استعادة أكثر من 6000 كيلومتر مربع من الأراضي الأوكرانية حتى الآن في هجمات وصفها «جاك ديتش»، في مجلة «فورين بوليسي»، بأنها «صادمة» في سرعتها، وجعلت «القوات الروسية تهرب تحت وطأتها، فضلا عن زيادة الضغط الداخلي على الرئيس الروسي، الأمر الذي أثار تساؤلات المحللين الغربيين عن إمكانية إجلاء القوات الروسية بالقوة عن الأراضي التي لا تزال تسيطر عليها». وعلى الرغم من أن هذه العملية هي نجاح لكييف، إلا أنه ينبغي النظر فيما إذا كانت ستؤدي قريبًا إلى إنهاء الأعمال العسكرية. فلا تزال القوات الروسية تسيطر على مساحات شاسعة من البلاد، وتبدو دفاعاتها في جنوب أوكرانيا أكثر مقاومة للهجمات، علاوة على أن احتمالية التوصل إلى سلام عن طريق التفاوض غير قابلة للتطبيق في الوقت الحالي. وبعد فشل هجوم الموجة الأولى في فبراير ومارس 2022 لإحباط المقاومة الأوكرانية؛ شنت روسيا هجومًا ثانيًا خلال فصلي الربيع والصيف، واستولت على أجزاء كبيرة من منطقة «دونباس» الشرقية، وعززت قبضتها على جنوب أوكرانيا. وفي 29 أغسطس 2022، ردت أوكرانيا بهجمات مضادة، وعجّلت بما وصفه الخبراء الغربيون بوقف تقدم موسكو. وبدأ بهجوم مضاد على مدينة «خيرسون» جنوب البلاد، في محاولة لتطويق الروس، بما أشارت إليه «جيزيل دونيلي»، من معهد «أمريكان إنتربرايز»، باسم «جيب خيرسون»؛ أطلقت أوكرانيا هجومًا ثانيًا أكبر حول مدينة «خاركيف»، وهو ما وصفته أيضا بـ«الخطأ التام للجيش الروسي»، والذي عانى على أثره بعد ذلك من «انهيار كامل». وأضاف «فيليبس أوبراين»، من جامعة «سانت أندروز»، أنه عند لجؤهم إلى إبعاد نظر الروس عن هجومهم الأكبر، فإن الأوكرانيين «حققوا ضربة رئيسية» من الخداع العسكري أدت إلى «تشتت» القوات الروسية حول خاركيف. ويعد أفضل تقييم لنجاح الهجوم الأوكراني في سبتمبر حتى الآن؛ هو احتساب الأراضي التي تمت استعادتها. وفي 12 سبتمبر 2022، أوضح الرئيس الأوكراني، «زيلينسكي»، أن قواته استعادت أكثر من 6000 كيلومتر مربع، بما في ذلك مواقع استراتيجية رئيسية في شرق وجنوب البلاد. وتنعكس سرعة التقدم من خلال مطالبته بتحرير 1000 كيلومتر مربع فقط في الثامن من سبتمبر؛ واستعادته 3000 كيلومتر مربع في 11 سبتمبر. وعلى الرغم من تحقيق غالبية التقدم في الشمال، فقد تم الإبلاغ عن تقدم حوالي 500 كيلومتر مربع في جنوب البلاد، حيث المقاومة الروسية أقوى. ووفقا للعديد من المحللين، فإن هناك أهمية استراتيجية للأراضي التي استعادتها «كييف». وأشار «ديتش»، إلى أن هذا هو «أكبر تحرير للأراضي خلال هذه الحرب»، حيث «استعادت أوكرانيا في غضون أيام معظم المكاسب التي تحققت في الربيع للروس بدونباس». وقدم «جاك واتلينج»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، شرحًا عمليًا ورمزيًا لأهمية الهجوم من المنظور الأوكراني، حيث وثق كيف تواجه كييف حاليًا “ثلاث ضرورات»؛ أولها «المطلب السياسي» لإثبات أن توفير المساعدة العسكرية من الحلفاء «يؤدي إلى تقدم في ساحة المعركة»، وثانيًا ضرورة «استمرار تعطيل روسيا حتى لا تتمكن من استعادة زمام المبادرة أو تعزيز سيطرتها»، وثالثها إخراج الروس بالقوة من البلاد. وحاز نجاح الهجوم الأوكراني على استحسان المراقبين الغربيين. وكتب «إيان بريمر»، لمجلة «تايم»، أن «الأمور تغيرت في الحرب»، وأوضح «جيريمي بوين»، من شبكة «بي بي سي نيوز»، أنه «أهم انتصار» لأوكرانيا. وأشارت «دونيلي»، إلى كيفية «تنفيذها خداعًا استراتيجيًا رائعًا». ولتوضيح هذه الديناميكية، أوضح «أوبراين» في مجلة «ذي أتلاتنيك»، أن هذه العملية لم تكن «مفاجئة»، وإنما كانت نتيجة «تخطيط عسكري دؤوب، وعملية أمنية ممتازة». ورأى «كير جايلز»، من «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، أن الأهمية الحقيقية «لا تكمن فقط في التقدم الاستثنائي لأوكرانيا»، ولكن أيضًا في «إثبات أنها تستطيع الأخذ بزمام المبادرة وتحرير الأراضي بمعدل مرتفع». في المقابل، نظر المراقبون إلى هذا التطور باعتباره تراجعًا شديدًا لـ«عملية بوتين العسكرية الخاصة» في أوكرانيا. وأوضح «أندرو كرامر»، و«أندرو هيغينز»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الكرملين «أصيب بالذهول» من «التقدم السريع للقوات الأوكرانية». وفي حين حاول حفظ ماء الوجه من خلال الإشارة إلى أن الانسحاب كان محاولة «لإعادة تجميع القوات؛ أكد «بوتين»، أن التراجع هو «هزيمة»، موضحا كيفية فشل «الاستخبارات العسكرية الروسية»، وتخلي الجنود عن كميات كبيرة من المعدات بدلاً من القتال. وسجل «معهد دراسة الحرب»، أن الجبهة الشمالية لروسيا في أوكرانيا «تنهار»، حيث «لم يقم الجيش بانسحاب منظم»، بل “سارع بالفرار». واستمرارًا، كتبت «آن أبلباوم»، في مجلة «ذي أتلانتك»، أن «أكبر صدمة» للهجوم لم تكن «تكتيكات أوكرانيا، بل الرد الروسي»، مع انسحاب جنودها في حالة من الذعر، و«الهروب بأسرع ما يمكن»، بدلاً من التصدي للقوات الأوكرانية. ومن وجهة نظرها، تسلط هذه الديناميكية الضوء على أن «الاختلاف الأساسي» بين الجنود الأوكرانيين، «الذين يقاتلون من أجل وجود بلادهم»، والروس، «الذين يقاتلون من أجل رواتبهم، هو الفيصل الأساسي». وأشار «ميك مولروي»، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق إلى أن الهجوم الأوكراني «يتحرك بشكل أسرع، وأن الاستعداد الروسي للقتال على مستوى جنود المشاة يتراجع». ونتيجة لهذا الأمر، زادت حالة السخط الداخلية لدى الروس لدرجة اعتراف قنوات التلفزيون الرسمية أن قواتها عانت من «أصعب أسبوع لها حتى الآن» في الحرب برمتها. وأوضح «بريمر»، أن «الحالة المزاجية بدأت في التدهور»، لاسيما مع «ازدياد استياء القوميين الروس». وأشار «كرامر»، و«هيغينز»، إلى أن «أكبر إحراج» لبوتين يتمثل في «حالة السخط لدى المدونين الموالين له مؤخرًا». وفي غضون ذلك، توجه «رمضان قديروف»، زعيم الشيشان، وحليف الرئيس الروسي، إلى وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد «الأخطاء» الروسية علنًا، وطالب بتفسيرات “للوضع الحقيقي على الأرض». ومع ذلك، فإن سيطرة الكرملين على وسائل الإعلام والتواصل، تؤكد أن السخط العام الصريح لا يزال محدودًا حتى الآن، ولكن لا يمكن ضمان استمراره في حالة حدوث المزيد من الخسائر. وبالفعل، فإن معالجة «بوتين»، للأبعاد الاقتصادية والسياسية الناجمة عن الحرب كانت موضع شك. وأشارت «دونيلي»، إلى أن آلية شراء الأسلحة من إيران وكوريا الشمالية، «لا يمثل الطريقة المثلى التي تخطط بها قوة عظمى لشن حرب»، وأنه «من المؤكد» أن بوتين «لم يتمكن من ترجمة قرار بيع النفط والغاز بالروبل إلى إنشاء قدرات قتالية كبرى جديدة». وأكد «ستيف روزنبرغ»، من شبكة «بي بي سي»، أن الانتكاسات الأخيرة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية، تُظهر أن قرار بوتين كان بمثابة «إساءة تقدير لا يمكن تخيلها»، لكنه مع ذلك أكد، أن الرئيس الروسي «نادرًا ما يعترف بأخطائه»، و«نادرًا ما سيحدث أية تغيرات لتدارك الموقف». وفي ظل هذه الديناميكيات، تناول المراقبون مسألة ما إذا كانت الحرب ستنتهي قريبًا أم لا. وعلى الرغم من الاعتقادات السائدة بأن الأوكرانيين يمكنهم حقًا الانتصار في تلك الحرب، فقد أصدر الخبراء السياسيون تحذيرات من أنه ينبغي توقع استمرار حالة الصراع عدة أشهر، إن لم يكن لسنوات قادمة. وأوضح «واتلينج» أنه يجب «إقناع الروس بالتفاوض بجدية وإدراك أن الهزيمة العسكرية الوشيكة أمر منطقي تمامًا بالوقت الراهن». وأشارت «أبلباوم»، إلى أن “واقعًا جديدًا أكثر منطقية قد تم تشكيله” مفاده أن «الأوكرانيين يمكن أن ينتصروا». ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبرى أمام أوكرانيا. فلا تزال روسيا تسيطر على حوالي 1/5 من الأراضي الأوكرانية وتتوغل بقوة في منطقتي لوغانسك ودونيتسك. ومن وجهة نظر «كرامر»، و«هيغينز»، «لا يزال تحقيق النصر بعيدًا، حيث يتعين على «كييف»، تكبيد موسكو خسائر طائلة، مقابل كل قدم من الأراضي التي قد يستعيدونها». ورأى «ماثيو لوكسمور»، في صحيفة «وول ستريت جورنال»، أن الأوكرانيين يواجهون الآن “تحدي العثور على القوة البشرية والذخيرة اللازمة لتعزيز مكاسبهم، وتوسيع نطاقها»، بينما أشارت «أبلباوم»، إلى أن “الروس لا يزال لديهم مخزون أكبر بكثير من الأسلحة والذخيرة». علاوة على ذلك، فإنه على الرغم من انتكاساتها، لم تعترف «موسكو» بالهزيمة. وفي حين أصر «أوبراين»، على أن «بوتين»، سيكون «ذكيًا» لبدء المفاوضات لإنهاء الحرب؛ أصر المتحدث باسم الكرملين، «دميتري بيسكوف»، على أن روسيا ستواصل القتال «حتى يتم الانتهاء من جميع المهام التي تم تحديدها في البداية». وبالتالي، تم تسليط الضوء على مخاطر حدوث مزيد من التصعيد مستقبلاً. وأشارت «أبلباوم»، إلى أن موسكو لا تزال قادرة على إلحاق الضرر بالمدنيين الأوكرانيين من خلال الهجمات الصاروخية وقطع الكهرباء، بالإضافة إلى «العديد من الخيارات القاسية الأخرى»، لاسيما مع وجود محطة «زابوريزهزهيا» النووية بالقرب من خط المواجهة. وفي هذا الصدد، أشار «ديتش»، إلى أن نجاحات أوكرانيا قد تؤدي إلى إشعال فتيل «الدعوات بين القوميين الروس لشن تعبئة واسعة النطاق». وحذر «بريمر»، بشدة من أن الأحداث قد تجعل الصراع «أكثر خطورة» لو لجأ الرئيس الروسي «إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل» لتحقيق أهدافه». ومن وجهة نظر المحللين الداعمين لكييف، فإن نجاح الأخيرة في حربها يضيف مصداقية للذين يدعمون تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لأوكرانيا. ويرى «مولروي»، أن «الآن هو الوقت المناسب لدعم الأوكرانيين»، «واستغلال كل فرصة لديهم لإضعاف وتدمير القدرة الروسية على مباشرة القتال». ودعت «دونيلي»، واشنطن إلى «الضغط»، «ليس فقط لاستعادة السيادة والحرية الأوكرانية»، ولكن أيضًا “لإحياء إيمان العالم بالقوة والمبادئ الأمريكية». من جانبه، يرى «واتلينج»، أن هناك احتمالات لاستمرار الهجمات الأوكرانية حتى عام 2023، «ومن المهم ألا يعتمد حلفاء أوكرانيا على القوائم المحددة من المعدات العسكرية الواجب إتاحتها حتى هذا التاريخ بعينه، ولكن “صياغة التزام طويل الأجل تجاه توفير العديد من المساعدات الهيكلية حتى عام 2024 على الأقل»، مضيفا، أن مثل هذه الخطوة من شأنها «إزالة الضغط السياسي» على كييف لإحراز تقدم سريع، و«توليد تأكيدات أكثر واقعية لدى الدول الغربية حول مدة الصراع وتأثيره». وبالفعل هناك توقع بمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال»، أنه على خلفية النجاحات الأخيرة، ستطلب «كييف» المزيد من المساعدات العسكرية، بما في ذلك أنظمة الصواريخ الأمريكية طويلة المدى، بالإضافة إلى العديد من الدبابات وأنظمة المدفعية والطائرات المسيرة. على العموم، فإنه على الرغم من النجاحات الحالية بالنسبة إلى كييف، فقد أشار «بريمر»، إلى أن هذه الهجمات وحدها «من غير المرجح أن تقصر أمد الحرب»، لكنها أظهرت أن موسكو يمكن بالفعل أن تتراجع عن تقدمها عن طريق استخدام أوكرانيا لأساليب الخداع والاستفادة إلى أقصى حد من الدعم الغربي. ولكن مع ذلك من غير المؤكد كيف يترجم هذا النجاح العملياتي الميداني إلى نصر استراتيجي أوسع نطاقًا، لاسيما مع إشارة «دونيلي»، إلى أن «وتيرة النصر ستتباطأ بالنسبة إلى الأوكرانيين»، وأن الطريق إلى ذلك لا يزال «غير مؤكد». وعليه، فإن المحللين الغربيين يرجحون أن القتال والهجمات المضادة من كلا الجانبين ستستمر لأشهر عديدة قادمة، في الوقت الذي لا يتمتع فيها أي من طرفي الصراع بالقوة الكافية لتحقيق نصر بشكل كامل على الطرف الآخر.
مشاركة :