يتقدم بين ظلين أولهما، ذلك الحلم الذي جاء ولم يكن بعيدا عن خطواته، بين عقب على رأس ورأس على عقب، كانت فصيلة الألم امرأة كادحة هاجرت من بيتها لتبني بيتا آخر يأكله الجوع، إنها الخادمة حينما لامست وجعا من عرفها سكنت قلوب عدة عرفت أن الغربة ضياع وألم لا يجف! هكذا قرأت بعضا من حلم الجميل القاص والروائي جابر خمدن وكنت في يوم ما أشعر أنه لم يلد على هذه التبانة دون أن يقرع أبواب موصدة لسنوات عن خطواته التي جاءت لتحدثنا أننا بين جابر خمدن الإنسان وجابر السارد جسرا نعبر محطاته، ونسعى أن نكون على ضفة نهر شخوصه التي تقدم بها ضمن مشروع (الرجل) الحالم ألوان أوقظها جابر خمدن من سباتها ليدخل لعبة السرد من حياكة القصة القصيرة من دون أن يلتفت إلى العيون التي تراقبه، كونه اختار بين كل الألوان ألوان الحب لتعطي القلوب الخالية من أطيافها معنى الحب، وإن كانت هذه اللفظة هي سر التكوين البشري في معادلة أراد منها الخالق أن تكون صحوة للخيول المطهمة ولفارسها الذي قد يغامر في مسألة الحب من دون أن يسقط في شهوة الشيطان! هو جابر خمدن، كانت هذه الألوان من السرد بالنسبة إليه رهانا تمسك به مبحراً في بحر عميق باحثاً عن لؤلؤ نادر في عمق البحر، ليفرح به اليابسة، فلم يكن ليناً في عمق الصراع ولم يكن خشناً في معادلة الكتابة، كونه صنع من الظن قلائد عدة، وكان من نصيب هذه القلائد أن تكون في أعلى الرقاب الناظرة إلى الشمس في يوم معتم! في تجربته الروائية وفي روايته المعنونة «خادمة من مونار» وقف جابر خمدن على قضية من أهم القضايا في المجتمعات الإنسانية من خلال طرحه معاناة الخدم في المنازل، عبر الرسائل التي شكلت بعداً ذا صلة قوية عبر بطلة الرواية «سلامة» التي كانت تعمل في أحد منازل عائلة بحرينية، هذه الرسائل فضحت تلك المعاناة التي عاشتها سلامة بعيدة عن أهلها، فكان الراوي من الدقة في تجسيد هذا البعد من خلال واقع معاناة الخادمة سلامة، ولم تفلت خارطة مواقع السرد الفني لدى جابر خمدن، حيث وقف من خلال تلك المعاناة في إبراز التفاصيل الدقيقة، وإن فلتت بعض مفاصل أحداث الرواية إلا أن جابر غامر واستطاع أن يؤكد أنه عبر هذه الفصول من الرواية مدركاً ماهية السرد في بناء الرواية الواقعية. ولكن لم يستقر جابر خمدن في بحثه عن ضالته ويستكفي بما قدمه في «مذكرات مونار» بل تجاوزها نحو البحث والتنقيب عن بعد آخر وإن كان هذا البعد أعتقد مضنيا عند جابر خمدن إلا أنه أعطاها القدرة على التجربة وطرح ما لم يطرح في مخالفة واقع الشخوص التي وظفها عبر سرده الروائي، فجاءت رواية رأس على عقب، لتؤكد أن جابر خمدن مدرك اللعبة فكان التجريب والغرائبية باديا بوضوح في هذه الرواية ومن عنوانها نرى أن جابر يحاكي بغرائبيته جغرافيا الأمكنة دون تحديد مواقعها، وأن اتصلت بأقدام أبطالها تظل ضمن واقع السرد التجريبي عند جابر. وفي رسائله الأخرى تكون روايته أعماق الليل ضمن هذا المنهج، ولن يخطئ القارئ لغة جابر السردية لأنها مخالفة لما يكتبه بعض كتاب السرد، وقد أرى أن الروائي والأديب أمين صالح صحوة ذلك التجريب المحفز للروائي الحداثي، ومنهم جابر خمدن. وفي قصصه القصيرة أو ما كتبه للناشئة، اليافعين «نوارس وقطتها السوداء» أو ما وظفه في مجموعته القصصية «كيم هي» يؤكد لنا أن جابر خمدن يلعب على السرد التجريبي ويلعب على غرائبية اللغة ومخالفة واقعها لمعنى اللغة، وهذا ما يميز جابر ككاتب سارد للقصة القصيرة والرواية، لا أشك أن جابر خمدن من الكتاب الطموحين الذين بصمت يحبرون اكتظاظهم ويشعلون الوشيعة بذاكرة لا تغفو دون حكاية ينام عليها الصغار والكبار. وعبر كل ما أشرت إليه أثني على الروائي والناقد رسول درويش كونه قرأ تجربة جابر خمدن ولم يغفل: إن جابر سار عكس التيار لكنه لم يضع في أتون زوبعة الريح، بل جاور الحب بالحب من من مفهوم خالف تذكر، فكان الخلاف محموداً وكانت الرسائل التي احتفظ بها جابر هي ذلك الحصان العربي الأصيل الذي لم يضع سنابكه في معارك خرافية ولم يدرك الفجر الا من خلال الصراع، وكون الصراع ذا مفاهيم عنده، أبقت أصالتها في الفارس الشهم وفي سرد لا ينضب عند جابر، وهو على صحوة الكتابة يقظ، يحلب الضرع من أحرف النور ليشعل الجدل النافع في مدارس النقد، وهو أكبر إنجاز لدى جابر عندما حلم، فأوقظ الشمس في يوم غائم. هي ذاكرة تمسكت بخيوط حياكتها بين (الغرائبية والتغريب مما لم يفقده بُعد السرد في النص) أخيراً لديّ ملاحظة لابد من الإشارة إليها: أن الروائي والقاص جابر خمدن في روايته رأس على عقب جاء غلافه على غرار غلاف المبدع إدواردو غاليانو المترجم من امريكا اللاتينية، وهو روائي وكاتب مهم في عصرنا الحداثي، وهذا التشابه الكبير هل أدركه جابر خمدن؟ سؤال لابد منه حيث الشبه الكبير للغلافين والاسم. ومن الجدير ذكره، أن رواية ادواردو غاليانو صادرة عن دار المدى وقام بترجمتها، بسام البزاز، ورواية جابر خمدن صادرة عن دار السكرية بمصر. ويعد غاليانو أحد أبرز كتاب أمريكا اللاتينية ويوصف بأنه رجل الحروف البارز، بقول المترجم: «منذ أن بدأتُ بترجمة كتاب إدواردو غاليانو المعنون «رأسا على عقب» وأنا أكتشف كم في هذا العالم من ظلم وكم فيه من كذب وزيف. صحيح أنّ عنوانه «رأسا على عقب» لكنّه يضع الكثير من الحالات والسياسات في وضعها الواضح. إنّه كتاب خير من ألف رواية، لأنّه يفتح الذهن والعين على ما يجري حولنا. a.astrawi@gmail.com
مشاركة :