تعيش المملكة العربية السعودية، منذ أعوام على وقع ثورة تحديثية هادئة لا تخطئها عين المراقب الخارجي، قوامها موجة تغيير جذري وتحول عارم، يغشى البلاد طولا وعرضا. فالإجماع منعقد، في الداخل قبل الخارج، على أن المملكة سائرة بعزم وثبات وخطا حثيثة، نحو تشييد دولة سعودية حديثة، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. يجود التاريخ بلحظات استثنائية على الأمم والشعوب، تمتزج فيها عناصر ذاتية "قيادة الدولة، تركيبة السكان، النسيج الاجتماعي ..." بعوامل موضوعية "موقع جيوستراتجي، إكراهات طبيعية، معطيات إقليمية ..."، وقبل ذلك كله وبعده الوعي والإرادة، أي: النباهة في اقتناص الفرصة، فما أكثر الفرض الضائعة في سير الشعوب وتاريخ الدول. أضف إلى ذلك شرط القدرة على التعبئة والحشد، حتى يذوب الجميع من أجل تحدي تحقيق الحلم، ويصير الرهان رهان وطن، بصيغة نحن "الأمة" لا بلفظ أنا. يبدو أن المملكة كانت في موعدها مع التاريخ، بإطلاق قيادة البلاد رؤية 2030 التي اجتمع فيها ما تفرق في غيرها من المشاريع والمخططات على مستوى التصور والتخطيط والتنفيذ. فإطلالة سريعة على الهندسة الكبرى لمحاور الرؤية، تثبت أن مهندس الرؤية سعى إلى أن تكون عابرة للزمن لا بدلالة روايات وأفلام الخيال العلمي، لكن بحرصها الشديد على تعزيز الحاضر بإسناد الماضي استعدادا للمستقبل. كانت استعادة الماضي، في مشروع الرؤية السعودية مميزة من ناحيتين، إحداهما: تعدي التاريخ القصير للمملكة نحو تاريخ موغل في القدم، ما يثبت عراقة أصول الأمة السعودية. فيما الأخرى مرتبطة بالاستعادة في حد ذاتها، فلم تكن بداعي التمجيد بقدر ما كانت من أجل إعادة الإحياء، بصيغ متناغمة وقوالب منسجمة مع تحديات العصر. تعد مناسبة اليوم الوطني للمملكة محطة لاستحضار معارك الآباء وتضحيات الأجداد من أجل بناء الوطن، والتذكير بحجم التحديات الداخلية والخارجية التي ظفر المؤسسون برهانها. وتبقى كذلك لحظة مثالية لتجسير الزمن، أي ربط الماضي بالحاضر، بالتأكيد أن رؤية 2030 توشك أن تصير في الأفق المنظور، فصلا من فصول تأسيس الدولة السعودية الحديثة بالنظر إلى كم الإكراهات التي تحف بها، وسقف الرهانات المرتبطة بها. نجحت قيادة المملكة في حياكة مشروع الرؤية، حتى أضحى بمنزلة وثيقة العقد الاجتماعي الجديد الذي يربط الدولة بالمواطنين، ويتطلع من خلاله السعوديون إلى المستقبل. يوصف مشروع الرؤية بالحلم، وإن كان واقعيا أقرب إلى المغامرة، فرهان انتقال الدولة إلى استراتيجية جديدة بدل استراتيجية الاقتصاد النفطي وحدها، تكفي لإرباك وخلط أوراق أي قائد أو زعيم سياسي غير محنك، مهما كانت شعبيته في الدولة، فالمخاطرة بقرار بهذا الحجم ينم عن حصافة ونظرة ثاقبة. أما وأن يتعزز ذلك بمشاريع ضخمة، من شأنها إنجازها يشكل علامة فارقة في التاريخ البشري برمته، وليس فقط المملكة العربية السعودية، من قبيل: إقامة مدينة "نيوم"، فيما يشبه "قفزة نحو المستقبل"، على مساحة بحجم دولة بلجيكا، مشروع فريد من نوعه أشبه بتحفة فنية من شأنها تغيير اقتصاد المملكة العربية، بالاعتماد على أحدث التقنيات التي يمكن ستحدث ثورة في الحياة اليومية. وكذلك الأمر مع مشروع الدرعية، الذي يمثل "عودة إلى الماضي" لاستلهام معالم أكبر مشروع ثقافي في العالم، يهدف إلى تطوير التراث الحجازي ... وغيرها من الخطط والمشاريع، فدلالة ذلك أن القيادة مبدعة وملهمة، وقبل ذلك واثقة من قدرات وطاقات أبناء وبنات الوطن. ثقة تفيد التجارب التاريخية أنها ثابت من ثوابت نجاح أي مشروع تغيير أو مخطط تطوير في العالم. وقد كانت القيادة واعية بهذا المعطى، وبدا ذلك من خلال حرص مشروع الرؤية على إبداع حلول من بنات أفكار المواطنين، استنادا إلى البيئة والثقافة والتراث والتجربة ... السعودية، دون الحاجة إلى تقليد الآخرين واستنساخ تجاربهم أو استجدائهم -بشكل شخصي- لاجتراح حلول وبدائل للوطن والمواطنين. لذا اتشحت مشاريع التغيير والتحديث في البلد بلمسة سعودية خالصة، قلما تجد لها نظيرا في مكان آخر في العالم. ترقى الأحداث أعلاه، بمعية ما تعيشه المملكة العربية السعودية على وقعه، في الأعوام الأخيرة، إلى مقام تأسيس جديد للدولة. فما يحدث مرشح أن يصبح في المستقبل القريب محطة في سجل التطور والنهضة، لا يمكن تجاوزها في تاريخ بناء الدولة السعودية. لا سيما مع قيادة شابة طموحة لا تعترف بالمستحيل، فقد جاء جوابها فلسفيا حين سئلت تاريخ الفراغ من تنزيل الرؤية، أي موعد نهاية البناء الجديد للدولة، فكان جوابه "إنني أرى خط النهاية، فهذا الأمر يعني أنني قائد سيئ، فخط النهاية يعد شيئا بعيدا، كل ما عليك القيام به هو الركض، والاستمرار بالركض بسرعة أعلى، والمواصلة في إيجاد مزيد من خطوط النهاية، والاستمرار في الركض". هكذا تصنع المملكة إذن ثورة حقيقة مستندة في ذلك إلى ثلاث ركائز: على رأسها الخصوصية الحضارية بإرثها التاريخي الكبير والمتنوع، وعمقها العربي والإسلامي، ومكانتها الدينية العالمية. إلى جانب الموقع الاستراتيجي المثالي بجغرافية وسط ثلاث قارات، ومساحة شاسعة، أكبر دولة في الشرق الأوسط "12 عالميا"، ومؤهلات طبيعية استثنائية، وموارد البشرية فتية ونشيطة إذ العقول والأنامل السعودية من تصنع التغيير للظفر بمعركة التحديث. علاوة على القوة الاقتصادية، فهي تنمي عضو في مجموعة العشرين الكبار G20، وواحدة من أكبر الاقتصادات العالمية. فضلا عن الثقل السياسي للمملكة، خليجيا وعربيا وإسلاميا، فكانت دوما الوجهة المثلى بحثا عن حلول لأزمات المنطقة برمتها. تكتب صفحة جديدة في تاريخ المملكة العربية السعودية بثورة هادئة متكاملة، بعيدا عن الإيديولوجيا الفارغة والجلجلة الصاخبة والشعارات الرنانة. ثورة يتوقع أن تتراخى آثارها خارج حدود البلاد، لتشمل منطقة الخليج برمتها، فالقواسم المشتركة بين دول المنطقة عصية عن العد، ما سينعكس على تطلعات الشعوب دول المجلس ورهانات قادتها كذلك.
مشاركة :