منذ عهد الفلاسفة القدماء والمتأخرين وبعض المعاصرين والأخلاق كانت تشكِّل لهم هاجساً حاضراً في فكرهم على الدوام وهم كثيرون، أثرونا بالعديد من المؤلفات التي إلى الآن وهي وجبة ثابتة ومتداولة في الكثير من الجامعات والمراكز الثقافية المختلفة، سوف نعرج على فيلسوف معاصر له عالج موضوع الأخلاق بعمق من خلال كتابه (أسس التعامل والأخلاق للقرن الحادي والعشرين) إنه جون باينس ذو الأصل التشيلي، الذي يتمنى من خلال طرحه السمو بأخلاق الإنسان واعتماده منهجا أخلاقياً عالياً، سوف نلقي الضوء على أبرز ما ورد في كتابه عبر حلقات متتابعة بإيجاز واختصار مفيد. يقول هناك ما يعرف بالاستلاب التعريف المعجمي له هو (عملية يقوم بها فرد أو جماعة لتحويل وعيها لكي تجعل من نفسها نقيضاً لما يمكن أن يتوقّع من حالتها الموروثة). وأنا على قناعة تامة بأن النوع إجمالاً «لا يسلك كما يجب» على ضوء مستواه المفترض في الحضارة. ومن الواضح أن الصورة الثقافية الممثلنة للكائن البشري بعيدة جداً عن الواقع. فنحن أقل تحضراً وأقل وعياً مما نتظاهر به، وكذلك أقل عدلاً وأقل استقامة، فنحن نطالب بالعدالة في حين نتصرَّف على نحو جائر ونتلمس المساواة بدون أن نطبقها في تعاملنا الاجتماعي، ونحن، في الواقع، بالكاد بدأنا نتطور، وإحساسنا بالعظمة والقوة ينبثق من الفتوحات العلمية التي حققها الجنس البشري والتي لم تساهم في تحسين الطبيعة الداخلية للإنسان. ومن هذا المنظور «نحن بدائيون متحضرون» أطفال يركضون عبر الحياة، يعبثون بالمحطات الفضائية والرؤوس النووية، والشعور الخادع بالقوة الذي يولّده العلم والتكنولوجيا يشل قدرة الفرد على النقد الذاتي ويطمسها، وبالتالي، يمنعه من إدراك التناقض الهائل بين النسخة المقبولة عموماً للجنس المتحضّر والواقع المؤلم لعالم في حالة دائمة من الحرب والصراع مكان نرى فيه الموت جوعاً أو بممارسة العنف والجريمة هو نظام العصر في كثير من أجزاء كوكبنا، وانسلاب الإنسان جرده من الإرادة وبعد النظر الضروريين للتصرف بوعي، فقد أصبح السلوك الميكانيكي والمقولب هو المعيار، معيار يفسد ملكات الفرد العليا ويمنعه من إدراك القيمة الحقيقية للأشياء، وتمنعه أيضاً حالته الوسنة من إدارك مدى انسلابه. الانسلاب عملية غازية، فيها تخترق دماغ الفرد معلومات غربية ودخيلة، تستحوذ، في الطريقة الواقعية ذاتها، على عصبوناته بصيغة معلومات مستقلة لا تخضع إلى الـ»أنا» ومن تلك المرحلة وما بعد، تستخدم هذه العملية الغازية القوة على سلوك الفرد، فتجرده من إمكانية تخليص نفسه من تأثيراتها, وفي حالات كهذه، يمكن أن نتحدث عن اختراق دووعيي للعقل (أي دون وعي) وهو ما يحدث فعلاً. ويصبح هذا ممكناً عن طريق عملية التعلّم الخاطئة التي فيها تنسلخ الـ»أنا» عن الوعي في حين يقوم الدماغ بمعالجة المعلومات بصورة سلبية، وهذا يعني أن العقل بدلاً من أن يتلقى المعلومات بصورة طوعية، فإنها تخترقه وتستحوذ عليه، ولذلك يقوم بامتصاصها بدون تمييز. وعندئذ، نصبح متخمين بـ»نفاية معلوماتية» معلومات دووعية تبقى في عقلنا اللا واعي كمادة لا معنى لها، تعمل على تشويش وإضعاف الـ»أنا» الواعية، مما يؤدي إلى العجز عن التعرّف على الهوية الذاتية وإلى الصراعات العاطفية والنفسية. وكلما كان التشبع بالمعلومات أكبر، كان التمييز أدنى وما ينجم عنه من ترقي ضعف الـ»أنا» الواعية، والإنسان العادي في هذا الجانب، مجرد خادم، أداة سلبية لأوامر معلوماتية جبارة تختزن في دماغه، وهذه هي قوة الاستلاب التي تجرده تدريجياً من حالته الذاتية وتحوله إلى غريب عن نفسه، وتعمل كذلك على تثبيط السلوك الواعي لأنها تتحكم بقسوة بسلوك الفرد. إن أكبر تهديد يواجه العقل الحديث هو «الاحتقان المعلوماتي» من خلال إتخام المسالك العصبية، وهذا الاحتقان إلى عدم التناسب في نمو المعلومات العلمية والثقافية، واستمرار القصف الحسي للحواس، وخصوصاً حاستي السمع والبصر، وإلى المبالغات الطنانة للقائلين بالمذهب الحسي، والأسلوب الساحق لرسائل الإعلان، إن كل هذه العوامل تزحم المداخل إلى دماغ الفرد، فتعمل بنجاح على سد مراكزه العليا، إلى حد أن معظم الرسائل والمثيرات تكتسب صفة دووعية، فتعبر مباشرة إلى العقل اللا واعي بدون مراقبة أو تعويق. وهذا في الواقع ما يسعى الإعلان إلى إنجازه بدقة لكي يحقق أهدافه، إن ملايين البشر يتصرفون كالآلات، فيبيعون ويقتنون بعض المنتجات لأن الرسائل المستقلة التي تطغي على أدمغتهم بأسلوبها الإعلاني أقنعتهم بذلك بطريقة علمية، ويصبح الكثيرون لا أخلاقيين أو جانحين عن طريق تقليد النماذج التي تعرضها السينما أو التلفزيون، أو تحت تأثير الجرائم المتكررة التي تكشف عنها وسائل الإعلام، فهناك أفلام تشرح بالصورة كيف يكون المرء كفواً في السرقة، والاختلاس، والهجوم، وهناك ذوو الطبيعة الجنسية أو الشبقة، ممن يشجعون مختلف الماسوشية السادية أو الانحراف الجنسي، وتحجم الصحف عادة عن نشر الأنباء الحسنة، وتغلب عليها، بشكل ثابت، الأحداث المثيرة، والماسي، والقصص المريعة، وتعمل المثيرات البصرية والسمعية للمؤسسات الإعلامية، والسينما والتلفزيون على تسلية الناس، ولكنها في الوقت نفسه تعمل على سرقة أغلى ما يملكون وما هو أكثر عرضة للتأثر «أناهم» الخاصة.
مشاركة :