نشرت مجلة نيويوركر New Yorker ذائعة الصيت في الأول من شهر أغسطس 2022م مقالاً مطولاً لنيكل كريشنن Nikhil Krishnan حول المشاعر الإنسانية والنعوت التي نستخدمها في وصف تلك المشاعر، فنحن نقول إن فلاناً حزين، وآخر مكتئب، وثالثاً مسكون بالهموم، وآخر تغشاه الكآبة، وخامساً يجلله الهمّ، إلى آخر تلك التوصيفات التي نرى أنها تعكس «مشاعر إنسانية» بغض النظر عن أي اعتبارات جغرافية أو اجتماعية أو دينية أو ثقافية. أعادت لي المقالة بعض الأفكار التي قرأتها في كتاب نُشر قبل سنوات لجيوفاني فرازيتو Giovanni Frazzetto بعنوان «المرح والإثم والغضب والحب»، وآخر فرعي «ماذا ينبئنا علم الأعصاب عن تلك المشاعر؟». كان الكتاب متعة فكرية بحق، وسردية باذخة الجمال، طَوْيتُ صفحاته وأنا على قناعة أن هذه المشاعر التي تحدث عنها الكتاب بشرية صرفة تتخطى حواجز الثقافات واللغات. وما هي إلا أيام حتى وقع بصري على جدل بين عدة أشخاص في أحد الأوعية الإلكترونية حول مفهومين في اللغة الإنجليزية هما guilt وshame، وكما جرت العادة فإنني أفزع إلى قاموس متخصص يجلي لي ما غَمُض من لطيف المعاني التي تميز كل عبارة عن الأخرى. وجدت أن القاموس الإنجليزي يعرف مفردة guilt بأنها شعور بالذنب ينتابنا بعد إيقاع الأذى بالآخرين، وأن عبارة shame تعني شعوراً قاسياً بالأسى وتقريعاً للذات بسبب ذنب اقترفناه. عند تعريب معاني هاتين المفردتين يتبين لنا أن هناك بوناً شاسعاً بين دلالة الألفاظ في الإنجليزية ومقابلها في العربية، فإن ترجمنا guilt بالذنب، فإن ذلك مجاف للحقيقة، فذنب في العربية ذات حمولة دينية واضحة، وقد لا تشير بالضرورة إلى عمل ما ضد آخرين، وعبارة shame لا تقل غموضاً عن سالفتها، إذ إن بعض المعاجم العربية تترجمها بالعار أو السلوك المشين الذي يؤنب صاحبه، ولو تأملنا مفردة «العار» لوجدناها ذات دلالة ثقافية مختلفة، فما هو «عار» في بيئة اجتماعية بعينها قد يكون تصرفاً طبيعياً في بيئة أخرى والعكس صحيح. أيضاً نجد عبارة honor والتي تترجم بعبارة «الشرف»، فنحن نقول: «إنه لشرف عظيم لي أن ألقاك It’s an honor to meet you، وأيضاً نقول إن هناك جريمة قتل بدافع «الشرف» an honor killing، وهي عبارة تكاد تقال عن ذلك النوع من الجرائم في المجتمعات الشرقية، ويكاد لا يكون لها نظير في المجتمعات الغربية. لكن لماذا عاد موضوع دراسة وفحص المشاعر الإنسانية بهذا الزخم؟ يذكر كرشنن في مقالته في النيويوركر أن ذلك ربما يُفسَر في ظل تنامي ظاهرة الهجرة والأعداد الكبيرة من الأشخاص الذي ينزحون عن بلدانهم إما طوعاً بدافع البحث عن العمل أو التعليم، أو اضطراراً بدافع الحروب والنزاعات المسلحة. ولذا كانت النتيجة نشوء مجتمعات جديدة هي خليط في ثقافات ولغات متعددة نلاحظها بجلاء في محاضن «الانصهار الاجتماعي»، مثل: المدارس والجامعات وأماكن العمل، تشكلت نتيجة لهذا الاختلاط أنماط وسلوكيات متباينة، ولاحظ الباحثون تبايناً حاداً في الطباع بين المجموعات البشرية، وصل إلى حد أن المشاعر والأحاسيس التي ظل العلماء لفترة من الزمن يعتقدون أنها عابرة للجغرافيا والثقافة أصبح يُنظر إليها على أنها ربيبة الثقافة المحلية بكل عناصرها، ومنها: اللغة والعادات والأنماط التي تميز كل مجمع. ترى مسكويتا Mesquita الباحثة في علم النفس في كتابها «فيما بيننا: كيف تصنع الثقافات المشاعر» أن المشاعر الإنسانية تتفجر وليدة اللحظة، ولذا فهي «سائلة» لا ترهن نفسها بثقافة محددة أو مجتمع بعينه. وعلى هذا الأساس فإنها -أي المشاعر الإنسانية- ذهنية مكتسبة، ويمكن للمرء تعلمها خارج إطار الثقافة وسياج المجتمع. لكن هناك من يرى أن للمشاعر الإنسانية مستويات متعددة منها ما هو ثابت لا يتزحزح، ومنها متغير بتغير الزمان والمكان، خذ مراحل الحزن والأسى التي تعصف بنا عند موت قريب أو صديق، وقد أشار بعض العلماء إلى خمسة مستويات، فنحن عندما يقع علينا خبر وفاة قريب لنا نفزع إلى الإنكار denial، ولقد أجاز المتنبي وصف تلك الحالة عندما قال: طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ تتلبسنا بعد ذلك حالة من الأسى الشديد anger، تخور فيها قوى الإنسان ويدخل في أتون حالة من الهستيريا تطول نسبياً حتى تفسح المجال لحالة من المقايضة bargaining، يضع فيها المكلوم قدمه على أولى عتبات النسيان. ثم تأتي حالة من السقوط في وهدة الاكتئاب الحاد depression، وهي كما يقول علماء النفس: إنها من أخطر المراحل وأطولها على الإطلاق ولكنها تفسح المجال في النهاية للفصل الأخير من الحزن وهو القبول بالأمر الواقع acceptance، حتى هذه الفصول الخاصة بدورة الحزن والأسى يدور حولها جدل كبير، فهناك من يرى أنها صحيحة ولكنها ليست ثابتة، فهناك نكوص، إذ إن الإنسان في مرحلة الاكتئاب قد يعود القهقرى إلى مرحلة المقايضة، وقد يختلط بالقبول -المرحلة الأخيرة- نوع من الاكتئاب (المرحلة الرابعة) وهكذا. وهناك فريق يقول: إن كل مرحلة من هذه المراحل شبكة من الانفعالات المعقدة جداً ووضعها في خانة واحدة تسطيح لظاهرة متشعبة. أعتقد أن هذا اللغط الذي يدور حول المشاعر الإنسانية يعود بالدرجة الأولى إلى القصور الحاد في دراسة عمل الدماغ الذي يعتبر مستودع المشاعر الإنسانية الذي يفصح عنها بطرق معقدة، فتارة عن طريق اللغة، وتارة عن طريق الإيماءات وتارة ثالثة عن طريق الزفرات، وتارة رابعة عن طريق قسمات الوجه، وتارة خامسة عن طريق الصمت المطبق. إن فتح مغاليق الدماغ، والذي قال عنه تشومسكي إنه آخر مغاليق المعرفة، سيشي بالكثير خصوصاً موضوع المشاعر الإنسانية.
مشاركة :