ماذا يعني عدم تجاوب أسعار الذهب مع التحديات الاقتصادية؟

  • 9/26/2022
  • 17:16
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

عادة عندما تنشأ هناك أزمات اقتصادية وحروب وتقلبات سياسية حادة، يكون معدن الذهب هو الملاذ الآمن للمستثمرين الهاربين من العملات الورقية بحثا عن العائد المناسب، عندما تلوح في الأفق احتمالات تدهور لقيمة الأصول المالية. وهذا ما رأيناه عند اندلاع أزمة كورونا في أوائل 2020 حين ارتفع سعر أونصة الذهب من نحو 1500 دولار إلى فوق ألفي دولار خلال خمسة أشهر فقط. إلا أن الذهب هذا العام يبدو أنه خذل أتباعه ممن توقعوا ارتفاعات حادة في أسعار الذهب، نتيجة ارتفاع نسب التضخم حول العالم واندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. عدا ارتفاع بسيط لعدة أيام عقب انطلاق الحرب، استمر الذهب في النزول من نحو ألفي دولار إلى 1644 دولارا حاليا. في هذا التقرير سنكتشف معا سر هذا التراجع في أسعار الذهب، ونستفسر عما إذا كان الذهب قد فقد بريقه، ولم يعد الملاذ الآمن. أبرز أسباب تراجع سعر الذهب يمكننا تلخيص الأسباب في أنها تعود أولا إلى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام معظم العملات حول العالم، وذلك من شأنه أن يرفع من تكلفة شراء الذهب فيتراجع الإقبال على الذهب، ومن ناحية أخرى معروف أن الأصول المسعرة بعملة ما تنخفض أسعارها مع ارتفاع تلك العملة، وتنخفض مع انخفاض سعر العملة، والسبب الآخر هو أن العوائد الحالية والمحتملة من امتلاك السندات أخذت في الارتفاع الحاد خلال هذا العام، وبالتالي أصبحت منافسة قوية لامتلاك الذهب. كثير من المستثمرين يرون أن الحصول على عائد بنسبة 3.5 في المائة وأكثر من خلال السندات الحكومية الآمنة، يعد عائدا معقولا في ظل الظروف الاقتصادية الجارية. السبب الثالث في انخفاض أسعار الذهب يعود إلى تراجع ضخ الأموال في الصناديق الاستثمارية المتداولة الخاصة بالذهب، التي شهدت سحب بعض كبار المستثمرين أموالهم، كونهم يعاملون تلك الصناديق كالأسهم.. فعندما تتراجع أسعار الأسهم يبيعون أسهم تلك الصناديق، وبعض عمليات البيع هذه ينتج عنها بيع الذهب بشكل فعلي. الاحتفاظ بالثروات وتنظيم الاستهلاك والتبادل التجاري قبل العمل بنظام النقود الورقية كانت العمليات التجارية بين الأفراد تتم من خلال ما يعرف بالمقايضة، وهي استبدال سلعة بأخرى، لكن ظهر مع ذلك عدة تحديات منها عدم وجود مقياس ثابت وموحد لهذه السلع، علاوة على احتمال عدم مناسبة السلعة للمشتري والبائع، ما أدى إلى الحد من سرعة العمليات التجارية. جاء الذهب كبديل لتلك السلع المتعددة، نتيجة ما يتمتع به من خواص فيزيائية وكيميائية جعلته يلعب دور الوسيط في التعاملات التجارية، ومستودعا للثروة، ومع ظهور العملات الورقية تقلص دوره في التعاملات، إلا أنه استمر في لعب دور مستودع الثروة، وكذلك لعب دور الحامي ضد تضخم الأسعار، بسبب أن الذهب مرهون بعمليات استخراج شاقة من باطن الأرض، وليس بسهولة طباعة النقود التقليدية. الدليل على ذلك أن ما تم استخراجه من الذهب منذ اكتشافه إلى يومنا هذا يقدر بنحو 187 ألف طن فقط، ما يعادل 11.2 تريليون دولار بأسعار اليوم! ومع استبدال نظام "بريتون وودز" في 1973 والعمل بنظام تعويم العملات بناء على العرض والطلب، أصبح الذهب شأنه شأن العملات الأخرى التي لديها قوة عرض وطلب، وهذه القوة يتم تحديدها بناء على عاملين، أحدهما مدى ارتباط العملة بالسلع والخدمات وهو ما يحدد حجم الطلب، والعامل الثاني هو مقدار المتوافر من هذه العملة في الأسواق وهو ما يحدد حجم المعروض. من هنا دخل الذهب في مرحلة جديدة تتحدد قوته فيها بناء على احتياج الأفراد إليه، ومدى ربط الدول إنتاجها المحلي به من عدمه. لاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مسؤولة في 1973 عن نحو 32 في المائة من الناتج المحلي العالمي، وكان حجم التجارة العالمية في ذلك الوقت فقط 1.3 تريليون دولار، وكان متوسط سعر الذهب في ذلك العام 97 دولارا للأونصة، ما يعني أن العالم كان بحاجة إلى 13.4 مليار أونصة ذهب لإتمام عمليات التبادل التجاري، في حال قرر الاستغناء عن النقود الورقية. ثبات السعر لأكثر من 140 عاما وتقلبات عنيفة خلال الـ 50 عاما الأخيرة تؤكد البيانات الإحصائية لمتوسط سعر الذهب على مدار القرنين الماضيين أن الذهب لم يشهد تقلبات عنيفة وسريعة إلا فيما بعد 1972! فما بين 1833 و1918 لم يتحرك سعر الذهب إلا بنسبة 0.3 في المائة، وحتى بعد هذا التاريخ لم تشهد أسعار الذهب أي تراجع كبير إلا بسبب الكساد الكبير، وتحديدا خلال 1931 حيث كان التراجع بنسبة 17 في المائة، وسرعان ما عادت الأسعار إلى مستوياتها في العام التالي وظلت تنمو بتدرج طبيعي. بحلول 1972 قفزت أسعار الذهب بمعدلات الضعف، وتخطت تراجعاته الـ25 في المائة دفعة واحدة خلال عام، بل ظلت إلى 2001 في ارتفاع وانخفاض سنوي، ثم أخذت في الارتفاع السريع بعد ذلك، فأصبح الذهب مجرد سلعة شأنها شأن العقار والنفط، أو حتى العملات الورقية، في أنه معرض لتقلبات السوق. العلاقة بين أسعار الفائدة وسعر الذهب تحكمها الظروف أحد العوامل التي ينظر إليها من ضمن المؤثرات القوية في أسعار الذهب هي معدلات الفائدة الأمريكية، التي من المفترض فيها أن يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تجنب الحاجة إلى الاستثمار في الذهب، بسبب وجود بديل استثماري مناسب. لكن هذه العلاقة ليست مطلقة، فهي تعتمد على سرعة تغير أسعار الفائدة ومقدارها. بالعودة إلى البيانات التاريخية منذ بداية 1975 نلاحظ أن الانخفاض في أسعار الفائدة كان أحيانا يقابله انخفاض في أسعار الذهب، وفي أوقات أخرى كان العكس، فمع ارتفاع سعر الفائدة في 2016 بمقدار الضعف عن 2015، ارتفع سعر الذهب بنحو 9 في المائة، ومع ارتفاع سعر الفائدة بنحو الضعف في 2017، ارتفع الذهب بنسبة 11 في المائة، ورغم تقلبات الفائدة في الأعوام التالية، ظل الذهب يرتفع في كل عام، فتارة العلاقة تكون طردية وتارة عكسية بين سعر الفائدة وسعر الذهب. هذا العام شهدنا ارتفاعات سريعة وكبيرة في معدلات الفائدة، لذا كان التأثير سلبيا في أسعار الذهب، ما يعني أن تأثير ارتفاع أسعار الفائدة في سعر الذهب يكون قويا وحادا متى تحركت أسعار الفائدة بشكل حاد وسريع. زيادة المعروض من الذهب لا تؤثر في سعر الذهب بشكل مباشر مبدأ العرض والطلب هو المسيطر على أسعار السلع والخدمات المختلفة، فما تأثير ذلك في أسعار الذهب؟ بمراجعة بيانات مجلس الذهب العالمي نلاحظ أن هذا المبدأ كان متوافقا مع أسعار الذهب، فبنهاية 2011 ومع وجود عجز في المعروض من الذهب بأكثر من 200 طن ارتفعت الأسعار بأكثر من 300 دولار للأونصة، وعندما تكرر هذا العجز في 2012 ارتفع سعر الأونصة مرة أخرى، لكن بنهاية 2013 ورغم وجود عجز في العرض مقابل الطلب إلا أن سعر الأونصة انخفض، وخلال الأعوام الثلاثة منذ الربع الأول من 2019 شهد معروض الذهب فائضا متتاليا، ورغم ذلك شهدت أسعاره ارتفاعات متتالية دون توقف من 1300 دولار إلى 1900 دولار. لذا صحيح أن العرض والطلب يلعبان دورا حيويا في أسعار الذهب، إلا أن أسعار الذهب تتأثر كذلك بعوامل أخرى خارج نطاق العرض والطلب المعتاد. نسبة التضخم هي التي تؤثر غالبا في أسعار الذهب ربما تكون معدلات التضخم هي أقرب السيناريوهات التي تؤثر في سعر الذهب، نتيجة لحالة عدم اليقين والقلق التي تنتاب كثيرا من الأفراد الذين يقررون بدورهم الاحتفاظ ببعض أموالهم في الذهب للحفاظ على قيمتها من الاضطرابات الاقتصادية. فمنذ 2012 عندما كان التضخم العالمي 3.7 في المائة ومن ثم واصل الهبوط المتتالي حتى بلغ 1.4 في المائة في 2015، انخفض سعر أونصة الذهب على نحو مماثل من 1668 إلى 1160 دولارا. وعلى الرغم من ذلك هناك حالات اتجهت فيها أسعار الذهب بشكل معاكس لنسبة التضخم، على سبيل المثال في الفترة ما بين 2011 و2012 التي شهدت انخفاضا في نسبة التضخم، واصل سعر الذهب نموه، بل إنه ارتفع إلى مستويات قياسية خلال 2019 و2020 رغم انخفاض معدلات التضخم، وفي الفترة الحاضرة اتخذ سعر الذهب مسارا هابطا رغم معدلات التضخم المرتفعة وغير المسبوقة منذ عقود! ربما سبب عدم ارتفاع سعر الذهب هذا العام، على الرغم من الارتفاع الحاد في نسبة التضخم، هو أن المستثمرين لا يعتقدون أن التضخم الحاصل حاليا سيستمر طويلا، كونه تضخما مؤقتا بسبب ظروف اقتصادية طارئة وحرب ربما تكون مؤقتة! استخدامات الذهب وتأثيرها في أسعار الذهب تراجعت الاستثمارات ومشتريات الحلي خلال الأعوام من 2016 إلى 2018، فمع ارتفاع معدلات التضخم العالمي كانت المشتريات والاستثمارات في انخفاض متتال، وجميع استخدامات الذهب في الطب والفضاء والحواسيب والهواتف، شكلت ما بين 7.4 إلى 11.1 في المائة من إجمالي الطلب السنوي، ولم ترتفع هذه النسب عن 9 في المائة خلال العقد الأخير. تكمن الغاية الحقيقية وراء الذهب في عمليات المضاربة التي تجرى عليه، التي يحاول كثير من المضاربين استخدام بعض العوامل الاقتصادية بعض الأحيان للاستفادة من فروقات الأسعار، لكن المؤكد في كل مرة هو أن للذهب ما يشبه الدورة السعرية التي حال بلوغها صعودا أو هبوطا لم يعد يتخطاها. تراجع عمليات استخراج الذهب هي أكبر الداعمين لأسعار الذهب على الرغم مما سبق عن احتمال فقدان الذهب بريقه، إلا أن هناك مستقبلا مشجعا للذهب، حيث تقدر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن المتبقي من الذهب والقابل للاستخراج يبلغ نحو 50 ألف طن فقط، أي 26 في المائة مما يمتلكه العالم الآن، وبمقارنة هذا الرقم بحجم الإنتاج في الأعوام الأخيرة الذي تخطى 3.5 ألف طن في العام، فإن ذلك يعني أن إنتاج الذهب من المناجم سينعدم أو سيكون شحيحا للغاية خلال 14 عاما! وإن حدث ذلك فلن يتبقى لتلبية الطلب إلا الذهب المعاد تدويره والاحتياطيات في البنوك المركزية أو ما لدى المستثمرين والأفراد، وعند ذلك قد تصل أسعار الذهب إلى مستويات فلكية. قارن ذلك بحقيقة أنه في 2021 شكل إنتاج الذهب نحو 76 في المائة من المعروض، فعندما ينخفض الإنتاج ستتغير الأسعار صعودا بقوة. أكبر الشركات العالمية في قطاع الذهب مجموعة ريو تينتو Rio Tinto تعمل المجموعة في استكشاف الموارد المعدنية كالذهب والنحاس والألماس، وتمتلك وتدير عددا من المناجم السطحية وتحت الأرض، إضافة إلى محطات طاقة ومصاف، تأسست منذ 150 عاما، وتقع في المملكة المتحدة ويعمل فيها 49 ألف موظف، ويقارب صافي أرباحها ثلث إيراداتها خلال الـ12 شهرا الماضية. فريبورت - مكموران Freeport تعمل هذه الشركة الأمريكية في التنقيب عن المعادن في الأمريكتين وإندونيسيا إضافة إلى عملها في النفط والغاز، وبنهاية العام الماضي كان لدى الشركة 135 بئرا، ويعمل لديها 25 ألف موظف. سوذرن كوبير Southern Copper تعمل الشركة الأمريكية في التعدين والاستكشاف للمعادن التي على رأسها النحاس، وتدير خمسة مناجم تحت الأرض لإنتاج الزنك والذهب والفضة والنحاس والرصاص، إضافة إلى منجم فحم ومصفاة زنك، وتمتلك أكثر من 2.1 مليون فدان للتنقيب في الأمريكتين، تم تأسيسها منذ 70 عاما ولديها 15 ألف موظف. نيومونت Newmont تشارك الشركة الأمريكية في إنتاج واستكشاف الذهب وعدد من المعادن الأساسية الأخرى، وبنهاية العام الماضي امتلكت الشركة احتياطيات ذهب بحجم 93 مليون أونصة وموقع أرض بمساحة 16 مليون فدان في الأمريكتين أيضا، ورغم إيراداتها الكبيرة إلا أن صافي أرباح الشركة لم يتخط 7 في المائة من إجمالي إيراداتها. باريك جولد Barrik Gold تعمل الشركة الكندية التي لم يتجاوز عمرها 40 عاما في التنقيب عن الذهب، الذي تقوم بتطويره وإنتاجه وبيعه، ولديها عدد من الحصص في مناجم تقع في إفريقيا والأمريكتين، ولديها أيضا ملكية في مناجم نحاس في السعودية. خاتمة في جميع الأحوال يظل الذهب معدنا نفيسا، له فوائده العملية وله فوائده الاستثمارية، يعلو سعره أحيانا وينخفض في أحيان أخرى، وغالبا ما يتحرك سعره صعودا وقت الأزمات الاقتصادية والتقلبات الجيوسياسية الحادة، لكنه هذا العام لم يرتفع كما كان متوقعا له، بل استمر في النزول. ذكرنا أن أهم أسباب عدم ارتفاع سعر الذهب يعود في المقام الأول إلى ارتفاع سعر الدولار، وعدم اعتقاد البعض أن التضخم الواقع حاليا دائم، وأخيرا لم يرتفع الذهب نتيجة وجود منافسة مناسبة من جهة السندات الحكومية الأمريكية.

مشاركة :