أسفرت انتخابات سبتمبر 2022 في إيطاليا عن تشكيل أكثر حكومة يمينية متطرفة في البلاد منذ سقوط نظام الدكتاتور الفاشي بينيتو موسوليني في عام 1945، بقيادة جيورجيا ميلوني، من حزب إخوان إيطاليا (فراتيللي ديتاليا)، بدعم من حزب (الرابطة)، بقيادة نائب رئيس الوزراء القومي السابق ماتيو سالفيني، وحزب (فورزا إيطاليا)، بقيادة رئيس الوزراء السابق المثير للجدل سيلفيو برلسكوني. ووفقًا لصحيفة فاينانشيال تايمز، فإن هذه النتيجة، التي حققت حصة إجمالية تبلغ 44 من الأصوات النهائية؛ توفر للائتلاف اليميني المتطرف «أغلبية برلمانية مريحة» لكنها لا تمنحه تأثيرًا كافيًا لإجراء إصلاحات دستورية. وعلى الرغم من أن ميلوني أصبحت أول رئيسة للوزراء في إيطاليا، إلا أن صعودها السياسي لم يلق ترحيبًا حارًّا من قِبَل المراقبين الغربيين، الذين سلطوا الضوء على روابطها وحزبها بإرث الفاشية في الخطاب السياسي الإيطالي، في حين نأت رئيسة الوزراء الجديدة بنفسها عن مثل هذه الاتهامات وحاولت تقديم نفسها على أنها سياسية محافظة، مشيرة إلى أن إخوان إيطاليا أصبحوا الآن أقرب إلى المحافظين البريطانيين والجمهوريين الأمريكيين والليكود الإسرائيلي، وأنها محافظة تسعى إلى الترويج لمفاهيم الحرية الفردية، والمشاريع الخاصة في الاقتصاد والحرية التعليمية ومركزية الأسرة ودورها في مجتمعنا وكذلك حماية الحدود من الهجرة غير المقيدة والدفاع عن الهوية الوطنية الإيطالية. يعكس الانتصار الأخير لليمين المتطرف في إيطاليا نمطًا أوسع للتخبط السياسي في السياسة الغربية، والذي يتميز بارتفاع في الشعبوية وانخفاض ملحوظ في تأثير وقوة أحزاب الوسط. وفي الانتخابات السويدية العامة في سبتمبر 2022، على سبيل المثال، أطاحت أحزاب ائتلافية فضفاضة بحكومة يسار الوسط في البلاد من السلطة، مع دفع الديمقراطيين السويديين المعادين للهجرة في السابق إلى أن يصبحوا ثاني أكبر حزب في الهيئة التشريعية بالبلاد، وفقًا لما أوردته صحيفة واشنطن بوست. كما تولى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان السلطة في الانتخابات البرلمانية في أبريل، حيث حصل حزبه (فيدز) على 88 مقعدًا من أصل 106 مقاعد في المجلس التشريعي للبلاد، وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022، حصلت مارين لوبان من حزب التجمع الوطني على نسبة عالية بلغت 41.8 من مجموع الأصوات في جولة الإعادة مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وفيما يتعلق بالسياسة، يجب مراعاة الاختلافات الصارخة بين الاستراتيجيات الانتخابية لليمين المتطرف والوسط واليسار، وقد أوضحت جين كيربي، من موقع فوكس، أن الميزة الكبيرة للجناح اليميني الإيطالي في انتخابات عام 2022 أنه كان قادرًا على الوقوف خلف مرشح واحد موحد بينما خصومهم في اليسار والوسط لم يتمكنوا من الاتفاق على موقف مشترك ووقفوا بشكل منفصل. وبالمثل، ترى بن غيات، أستاذة التاريخ والدراسات الإيطالية في جامعة نيويورك، أن شعبية أحزاب اليمين المتطرف في السياسة الإيطالية تشير إلى ضعف يسار الوسط الإيطالي في الكيفية التي كافح بها لتجميع أفكاره بطرق تواصل مع الناخبين. في الواقع، حصل الحزب الديمقراطي اليساري على 19 فقط من الأصوات النهائية، وسجلت صحيفة فاينانشال تايمز كيف ألقى المحللون باللوم على زعيم الحزب إنريكو ليتا بشأن سوء إدارة المفاوضات مع الأحزاب المتحالفة أيديولوجيًّا بشأن تشكيل ائتلاف كان من الممكن أن يخوض معركة أكثر فعالية أمام الكتلة اليمينية الموحدة. ويجب أيضًا مراعاة اللامبالاة المتزايدة في السياسة الداخلية من قِبَل الناخبين، حيث أوضح فاليريو ألفونسو برونو، من مركز تحليل اليمين الراديكالي -ومقره المملكة المتحدة- التصور القائل بين الناخبين بأنه سواء صوّتنا أو لم نصوّت، فلا شيء يتغير حقًّا، وأن جميع السياسيين سواء مضيفًا أن الكثير من الإيطاليين ينظرون إلى السياسة بهذه الطريقة، كما أشار وينتور إلى أن خروج حزبي فورزا إيطاليا والرابطة من هذه الانتخابات -حيث حصل كلاهما على أقل من 9 من الأصوات، وربما تراجع كل منهما- ساعد بشكل ما في صعود ميلوني السياسي حاليًا. وتجدر الإشارة إلى أن إخوان إيطاليا حصل على 26 من الأصوات في عام 2022، مقارنة بـ4 فقط في انتخابات 2018. وبغض النظر عن الانتكاسات التي واجهت الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى، فقد لقي فوز ميلوني برئاسة إيطاليا ترحيبًا حارًّا من قِبَل الحكومات والأحزاب اليمينية المتطرفة والقومية الأخرى في أنحاء أوروبا، فقد أشاد حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف بهذا الفوز معتبرًا إياه انتصارًا للمنطق السليم، كما علق زعيم حزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف سانتياغو أباسكال، على أن الانتصار أظهر أوروبا ككيان يشعر بالفخر، وأن دولها حرة وأممها ذات سيادة. كما أعلنت لوبان كيف أن الأمة الإيطالية قررت أن تقرر مصيرها بأيديها من خلال انتخاب حكومة قومية ذات سيادة. وعلى جانب آخر وجّه بعض القادة الأوروبيين اليساريين والوسطيين انتقادات قوية إزاء انتصار ميلوني، حيث أوضح وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس عضو الحزب الاشتراكي في البلاد، أن الشعبوية تنتهي دائمًا بكارثة، كما أصرّت رئيسة الوزراء الفرنسية الجديدة إليزابيث بورن على ضرورة تركيز باريس وبروكسل على ملفات حقوق الإنسان، وعدم التغاضي عن التصدي لمواقف ميلوني بشأن الهجرة والقضايا الاجتماعية الأخرى. ومن المتوقع الآن حدوث خلاف بين روما وبروكسل، حيث لطالما تحدثت ميلوني سابقًا عن عدم حاجتها للاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، وسلط المحلل السياسي في مركز الإصلاح الأوروبي لويجي سكاتيري الضوء على الخلافات حول ما إذا كانت بروكسل ستستمر في خطة الإنعاش الأوروبية الضخمة لإيطاليا، وخاصة أن الأمر مرتبط باستكمال الإصلاحات القضائية وإجراءات الخدمة المدنية التي كان قد بدأها سلف ميلوني. بالإضافة إلى ذلك، كتبت الدكتورة ليلى سيمونا تالاني، بـ«كينجز كوليدج» لندن، كيف أن قادة الحكومة الجديدة ليست لديهم حنكة اقتصادية، وأن التخفيضات الضريبية المخطط لها ستترك روما بلا شك بإيرادات أقل من المتوقع، فضلاً عن مواجهة مشكلات مع كل الأسواق المالية الأوروبية، علاوة على ذلك، أضافت صحيفة الجارديان أن التكتل المكون من 27 دولة بات يعاني بالفعل من تحديات مثل ارتفاع تكاليف الطاقة ومعدلات التضخم، وهو الآن حذر من أن الزعيمة الإيطالية قد تكون داعمًا قويًّا للقومية داخل الاتحاد. وبالنسبة إلى التحالف الغربي، وخاصة فيما يتعلق بالوحدة الأوروبية حيال الحرب الأوكرانية، فإن الصورة أكثر تعقيدًا؛ حيث ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن ميلوني كانت تنتقد بشدة الغزو الروسي وتتعهد بالحفاظ على نهج صارم ضد موسكو، خاصة مع بقاء الزعيمة نفسها، حتى تاريخه، ملتزمة بعضوية الناتو، وتصر على أن موقع إيطاليا المستقبلي لن يتجاوز المعسكر الموالي للغرب، ومع ذلك، فقد وُصف شريك ميلوني في التحالف اليميني الثلاثي ماتيو سالفيني بأنه معجب ببوتين منذ فترة طويلة، وهذا بعد أن وصف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014 بأنه مشروع، كما أعرب برلسكوني مؤخرًا عن اعتقاده أن بوتين دُفع إلى الحرب ليحل محل الحكومة الأوكرانية المنتخبة لـفولوديمير زيلينسكي بـ«شخصيات» أكثر احترامًا ثم سرعان ما سيغادر، ونظرًا إلى وجود مثل هذه الأصوات المتعاطفة مع الروس، فلا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن يرحب الكرملين ذاته بنتائج الانتخابات الإيطالية، حيث علق السكرتير الصحفي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف على أن تلك النتائج توفر قوة سياسية قادرة على إظهار نفسها بشكل أكثر إيجابية بطريقة تعزز العلاقات مع الجانب الروسي. ورأت كاثلين دوهرتي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابقة لشؤون الاتحاد الأوروبي، أنه رغم مناهضة شركائها في الائتلاف للاتحاد الأوروبي وتحالف الأطلسي إلا أن ميلوني سياسية ماهرة قد تكافح من أجل السيطرة على حزبها، وبقية ائتلافها، وأنصاره من دون أدنى تعارض. ولعل الأهم من ذلك بالنسبة إلى الأمن الغربي، أن انتشار الدعم الروسي بين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا ليس أمرًا سائدًا، حيث أشار وينتور إلى أن حزب القانون والعدالة البولندي، الذي يتوافق في مبادئه مع حزب إخوان إيطاليا، لا يزال على رأس أكثر الأعضاء بمنظمة حلف شمال الأطلسي المناهضين لبوتين، وأوضح جيمي أوكيسون، زعيم حزب الديمقراطيين السويديين، أن الكرملين في عهد بوتين يعتبر بمثابة دكتاتورية واسعة النطاق مسؤولة عن ارتكاب العديد من الجرائم ضد القانون الدولي وضد جيرانه. ومع ذلك، بات واضحًا أن بوتين، مثلما هو الحال مع ألمانيا، ينظر إلى إيطاليا على أنها حلقة ضعيفة في تعزيز الوحدة الغربية تجاه الاعتداءات الروسية، ولا شك أن الاختبار الأول للحكومة الجديدة سيكون الدعم الإيطالي لأي عقوبات جديدة من جانب الاتحاد الأوروبي ضد المسؤولين الروس. ومما يزيد الأمور تعقيدًا أن الدعم الشعبي الإيطالي لإرسال المساعدات إلى أوكرانيا كان دائمًا أقل من بقية دول أوروبا منذ بداية الصراع، حيث وجد استطلاع مركز إبسوس للرأي في أبريل 2022 أن 32% فقط من الإيطاليين يدعمون حكومتهم بشأن إرسال مساعدات عسكرية إلى كييف، بالإضافة إلى تأييد 50% فقط لفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية لمعاقبة موسكو. وفيما يتعلق بتعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وإيطاليا لمعالجة هذا الضعف الاستراتيجي، حثت صحيفة فورين بوليسي إدارة بايدن على الانخراط ومحاولة التأثير في هذا التحالف الثلاثي، من خلال تعيين سفير جديد في روما، وهو منصب تركته واشنطن شاغرًا منذ يناير 2021. في النهاية يبدو أن انتخاب ائتلاف يميني متطرف في إيطاليا قد أدى إلى قلق كبير لدى المعلقين السياسيين الغربيين والحكومات الوسطية، وخاصة أنه يعزز تصور تنامي الانجذاب نحو اليمين السياسي في جميع أنحاء أوروبا، ويتوقع معلقون عدم نجاح البرنامج السياسي لرئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة في اختراق البيروقراطية الصارمة من أجل سنّ إصلاحات دستورية شاملة، بناء على صلة إخوان إيطاليا بالفاشية القديمة والشعور بعدم الارتياح في بروكسل والقلق من اتجاهات الإصلاح السياسية وسياسة الحكومة الإيطالية الجديدة عبر القارة، كما لا يمكن للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي السماح لإيطاليا بأن تصبح الحلقة الأضعف بالحلف من خلال استسلامها للنفوذ الروسي، وهو الأمر الذي قد يقلل من دعم الأمة الأوروبية لمحنة أوكرانيا ويقوض الغرب وحده جهوده وراء كييف في هذه الشأن.
مشاركة :