راودت فكرة العالم المِثالي أو الفردوس الأرضي خيال الإنسان منذ قديم الزمان، وقدموا لها تصورات مختلفة لكنها متشابهة من حيث المبدأ. من بين هذه المدن بلدة الكوكاين [1] التي تكتسب شعبية كبيرة في الثقافة الأوروبية. فبلدة “الكوكاين” هو مكان خيالي يتسم بالرفاهة والمتعة، تعتبر جنة على الأرض، خالية من المجاعات والحروب، تعرف بأرض الاحتفالات والأعياد الدائمة. كل شيء فيها بمتناول اليد، خالِية من قسوة الحياة وقيودها، زُينت مبانيها بمختلف أنواع الأطعمة والمأكولات، حيث تفيض فيها الطبيعة بشتى أنواع الحلويات التي تُشكل معالمها. تعتبر الكوكاين بلد الكسالى إذ يحضر فيها العمل، فكلما زاد نومك زاد ربحك، كل ما عليك فعله هو مد يدك أو فتح فمك وسيصل الطعام جاهزًا. في التصور الفرنسي تعرف البلدة على أنها مصنوعة من الحلويات، خلافًا للتصور الهولندي الذي يصفها على أنها بلدة مصنوعة من اللحوم المطبوخة ومختلف أنواع الأجبان. تعود الجذور التاريخية لبلدة الكوكاين إلى العصور الوسطى، حيث كانت هذه البلدة حلم كل محتاج وفقير. خاصة الفلاحين الذين كانوا يشقون مقابل الحصول على طعام ضئيل، لذلك اختلقوا هذه البلدة الطوباوية حتى يعزّوا بها شقائهم، لتنموا شعبية الكوكاين في جميع أنحاء أوروبا باعتباره مهربًا من حقائق الحياة القاسية. في التصور الفرنسي تعرف هذه البلدة على أنها تتكون من منازل مصنوعة من سكر الشعير والكعك، وكانت الشوارع مرصوفة بالمعجنات، والمحلات فتقدم السلع دون مقابل. أما في التصور الهولندي فتوصف على أنها مدينة اللحوم والمملحات، حيث تتجول الخنازير المشويّة بينما السكاكين مغروسة في أعلى ظهورها، أما الإوز المشوي فيحلق مباشرة في اتجاه الأفواه، والأسماك المقليّة تقفز من الماء وتهبط عند أقدام المتساكنين، أما الشجيرات فتحمل لفائف مقرمشة بينما ينمو الجبن مثل الأعشاب، والنوافير مليئة بأفضل أنواع النبيذ وبالشمبانيا، وأما المنازل مغطاة بالفطائر، والأسوار مصنوعة من النقانق. إلى جانب الأطعمة نجد أجمل الملابس معلقة على أشجار الغابة، كما ترتدي الشجيّرات الخرز والدبابيس والخواتم. فالكوكاين أرض التناغم التام، حيث يعيش فيها الناس بسعادة وهناء. تعود أصول كلمة كوكاين إلى اللاتينية والتي اشتقت منها بقية اللّغات الأوروبية للإشارة إلى هاته البلدة الخيالية ولوصف أشياء مرتبطة بالأكل والشراهة، ففي اللغة الفرنسية تطلق كلمة كوكاين على اسم كعكة تباع للأطفال، أما في بلجيكيا فيشير المصطلح إلى الأرض الرائعة واللذيذة، أما في اللغة السويدية فهي صِفة تطلق على الشخص السمين والكسول. وبالتالي فضلاً عن ارتباط الكوكاين بمدينة الكسالى الفاضلة فهو كذلك مصطلح يطلق على الأشياء المرتبطة بالأكل والنهم والكسل. تكرّس بلدة الكوكاين لمبدأ الخمول والشراهة وعدم الإنتاجية، وهي مبادئ تتنافى مع مدينة أفلاطون الفاضلة التي تدعو إلى الإبداع والإنتاجية وضرورة كبح الشهوات من أجل تحقيق السمو الإنساني. إن مدينة الفلاسفة الفاضلة وإن كانت صعبة المنال إلا أنها تمتلك قدرا من العقلانية، حيث قام أفلاطون في كتاباته بسن مجموعة من القواعد الاجتماعية والسياسية التي تمكننا من تحقيق حلم المدينة الفاضلة على أرض الواقع أو حتى تحصيل جزء بسيط منها. خلافًا لبلدة الكوكاين التي تعرف بمدينة الفقراء الفاضلة، والتي نجد فيها غلوًا في المثالية وإسرافًا في الخيال بطريقة تقطع مع نواميس الكون وسننه. لكن رغم ذلك، آمن القدماء بوجود هذه المدينة الفعلي حيث تم إنشاء رحلات كبرى للبحث عنها والعيش فيها. كما كان بعض الأثرياء يبررون ثراءهم المفاجئ كونهم اكتسبوها بعد عودتهم من بلدة الكوكاين. Thumbnail في العصور الغابرة كان الناس سريعي التصديق لكل ما يحكى لهم خاصة إذا ما ارتبط بقصص عجائبية وخارقة للعادة. في ظل نقص المعرفة العلمية سيطرت العقلية الخيالية على فكر إنسان العصور الوسطى، إذ كانوا يغذون نقصهم المعرفي من خلال الأساطير والخرافات الشعبية. مع مر العصور وتطور الفكر البشري أضحت بلدة الكوكاين مجرد خرافة تروى للأطفال قبل النوم. ليصبح بلدا طوباويا خاصا بهم فقط، ما عزز ذلك البرامج الترفيهية والرسوم الكرتونية التي تروي قصصًا عن أطفال يعيشون في عوالم مصنوعة من الحلويات الملونة ذات الرمال اللذيذة والهضاب القطنية القابلة للأكل. بل وحتى تم تشييد مدن ألعاب كبرى مستلهمة من بلدة الكوكاين ذات تصاميم فولاذية تأخذ أشكل المثلجات ومختلف أنواع الحلوى والسكاكر. في الفن المعاصر قام الفنانون بمحاولة تمثيل معالم هذه المدينة واقعيًا، عبر العودة إلى الكتابات الأدبية واللوحات الزيتية القديمة لاقتباس البعض من معالمها أو تشييدها على أرض الواقع في شكل تجهيزات نحتية عملاقة. من بين هؤلاء الفنانين نستحضر الفنانة الأسترالية تانيا شولتز التي تعرف باسم الشُهرة Pip & Pop التي قامت بإنجاز أعمال فنية في شكل تنصيبات تأخذ حيزا كبيرا من الفضاء الذي تبني فوقه عالمًا من السكر الملون، والسكاكر اللامعة، والأحجار الكريمة ذات ألوان قوس قزح. لتجتمع معًا وتجسد هضابا وتلالا و بحيرات ذات ألوان الباستيل الطفولية. تتكون تنصيبتها من أكوام من السكر المصبوغ الذي تصنع به أشكالًا زخرفية كالخطوط الحلزونية والدوائر والمانديلا، التي تجاور فيما بينها مما تعطي إيحاء بأنها مشاهد طبيعية ذات ألوان ساحرة وأشكال مبهجة تأسر بها المتلقي. قامت الفنانة ببناء عالمها الخاص المستوحى من بلد الكوكاين الأسطورية. تعتمد الفنانة على التاريخ الغني للعوالم الأخرى الذي يُروى من خلال الأساطير والحكايات الشعبية وأدب الأطفال، الذي ينبثق من نفس الحاجة الثقافية للخيال والسحر. تجتمع الأساطير وأحلام الأطفال لتشكل تضاريس عالمها الذي تسعى إلى التطوير فيه مع كل معرض، حيث أضحت مدينة السكر متلألئة تحت الأضواء المتغيرة، كما أصبحت تتخللها أجزاء متحركة، فالجبال تدور والصخور تتأرجح. عمل مبهج ولذيذ يفتح بابًا من الذكريات والأحلام الوردية. ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
مشاركة :