من الواضح أن التعبئة التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن تكون جزئية بأي شكل، رغم التطمينات التي قدّمها بوتين ووزير الدفاع الروسي حول استدعاء 300 ألف شخص فقط، أبرزهم جنود احتياط كانوا قد خدموا في الجيش وفي مناطق الصراع، بدأ الروس يلاحظون أن التجنيد الإجباري يطول الرجال من جميع الأعمار ومن مختلف مناطق البلد، لقد أصبحت التعبئة شبه عامة. حتى أشرس مناصري بوتين ونظامه يدركون أن الكرملين يسعى إلى استدعاء عدد أكبر بكثير (أكثر من مليون رجل على الأرجح)، مع أن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أنكر هذه المعلومة، إذ يسمح هذا الرقم بمضاعفة حجم الجيش الراهن، مما يعني أن يصل عدد العناصر بالزيّ العسكري إلى مليونَي شخص (على غرار الأدوية، أصبح اقتناء الزي العسكري صعباً، لذا يضطر المجندون لشراء زيّهم وتأمين الإسعافات الأولية بأنفسهم). يتوقف كل شيء طبعاً على القوة الإدارية التي تتمتع بها السلطات المسؤولة عن إدارة مكاتب التجنيد المحلية، فهي تستهدف في مناطق كثيرة جميع الرجال، بغض النظر عن عمرهم أو رتبتهم العسكرية أو خبرتهم. قد يعجز معظم الروس عن تجنّب هذه الحملة الواسعة، لا سيما بعدما أغلقت أوروبا أبوابها في وجههم ولم يبقَ أمامهم إلا محاولة الهرب إلى بلدان لا تفرض عليهم أي قيود لنيل التأشيرة، لكن ينعكس هذا الوضع سلباً على بوتين أيضاً، فهو جازف بكل ما لديه في هذه الحرب، فهو يعجز عن الفوز، لكنه لا يستطيع تحمّل كلفة الخسارة في الوقت نفسه، لذا يتكل على عناصر يسهل التضحية بهم، لكن بوتين نَسِي على ما يبدو أن مصدر الخطر الحقيقي على نظامه لا يتعلق بالمعارضة السياسية التي تعرّض معظم أعضائها للاعتقال أو أُجبِروا على السكوت بطرق أخرى، ولا بممثلي المجتمع المدني بعد إغلاق منظماتهم وقمع أصواتهم، بل بالشعب الروسي العادي الذي شكّل لفترة طويلة أساس حُكْمه. كان من الممكن الاستفادة من موافقة الروس على «العملية الخاصة» التي أطلقتها الحكومة، أو ضمان عدم معارضتهم لها على الأقل، طالما يحافظون على الاستقرار الاقتصادي ولا يتورطون في الصراع مباشرةً، لكن تغيّر الوضع الآن، وتبرز مؤشرات على ضعف قاعدة الدعم التي كان بوتين يتكل عليها. ويكشف استطلاع أجراه «مركز ليفادا» المستقل في نهاية شهر سبتمبر، بعد إعلان التعبئة، أن نسبة تأييد بوتين تراجعت بست نقاط، من 83 إلى 77 في المئة، حتى أن مستوى الثقة به انخفضت بأربع نقاط، من 44 إلى 40 في المئة، وقد تبدو هذه التحولات بسيطة، لكن بقيت أرقام بوتين شبه ثابتة منذ شهر أبريل الماضي، ولكن بدأ هذا الثبات يتزعزع الآن. تُعتبر التعبئة مؤشراً على يأس بوتين، وسيكون احتمال الهزيمة مهيناً لدرجة أن يفضّل متابعة الحرب بأي ثمن، علماً أنه لم يُحقق بعد الأهداف المبهمة التي حدّدها في شهر فبراير الماضي، وبما أن بوتين حوّل نظامه إلى ما يشبه السلطنة منذ ذلك الحين، فلا شيء ولا أحد يستطيع ردعه على ما يبدو، بما في ذلك مجموعة مستشاريه أو قادة الدول التي يعتبرها حليفة له، مثل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الذي أبعد نفسه علناً عن الحرب الروسية خلال لقاء جمعه مع بوتين، فقال إن الزمن الحاضر «ليس زمن حرب»؛ ولا حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شريك بوتين الانتهازي الذي اضطلع بدور صانع السلام ويحاول على ما يبدو استمالة ما تبقى من حس المنطق لدى الرئيس الروسي. كذلك شعر رئيس كازاخستان، قاسم جومارت توكاييف، بالقلق من الوضع القائم لدرجة أن يبعد نفسه عن الكرملين ويحاول توثيق علاقاته مع أوروبا، وفي الوقت نفسه، يتعامل قادة البلدان السوفياتية السابقة مع بوتين كشخصٍ خطير يعتبر نفسه رئيس إمبراطورية غير موجودة، ويدرك هؤلاء القادة أن رجلاً واحداً قاد روسيا إلى كارثة ديموغرافية وشيكة وجعل العالم على حافة حرب نووية. تتزامن التعبئة التي أعلنها بوتين والاضطرابات الناجمة عنها مع المرحلة التي تسبق بدء حملات الانتخابات الرئاسية لعام 2024، فمن ناحية معينة، بدأ التصويت منذ الآن: يصوّت الرجال من جميع الفئات العمرية بطريقة مختلفة عبر الهرب من البلد، لكن أغلبية واسعة تؤيد تحركات الحكومة حتى اليوم، إذ يلوم الكثيرون الرئيس الأميركي جو بايدن، وأوروبا، وحلف الناتو، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على تصعيد الوضع، مما يعني أن بوتين لم يعد يملك خيارات كثيرة. اعتاد الرأي العام في روسيا على الجمود منذ عقود، وتكشف التغيرات الضئيلة في نسبة تأييد بوتين أن هذا الشعب يميل إلى التغيّر بوتيرة شديدة البطء، ومن المتوقع أن يدعم معظم الناس (أي 50% من المعسكر الذي يؤيد الحرب حتى الآن بكامل قوته) جميع القرارات التي يتخذها النظام، حتى لو تطلّب الوضع توجيه ضربات نووية، وتطيع هذه الفئة من الشعب النظام حتى النهاية، لكن برأي 30% من الناس (إنه الفريق الذي يعتبر دعم النظام أسهل من معارضته، حتى الآن على الأقل)، قد تعطي تحركات بوتين عواقب أكثر خطورة، وتكثر الشكوك ومشاعر الاستياء وسط هذه الفئة من الروس، فقد اتّضح لهم أن التعبئة ليست جزئية، وإذا بدأ هذا الانطباع ينتشر على نطاق أوسع، فقد يتغير التوجه العام في المجتمع الروسي ككل بوتيرة تدريجية، فقد توصّل استطلاع «مركز ليفادا» الجديد إلى استنتاج لافت آخر، وهو تراجع نسبة الروس المقتنعين بأن البلد يسير في الاتجاه الصحيح، من 67% في أغسطس إلى 60% بعد مرور شهر واحد. حتى الآن، قرر بوتين تجميد خسائره في أسرع وقت، فوضعها في خانة المكتسبات والإنجازات، ويبدو أنه المنطق الكامن وراء السرعة المفرطة في تنظيم الاستفتاءات في شرق أوكرانيا. بعبارة أخرى، تبرز الحاجة إلى إعلان أي نوع من الانتصارات، وتُعتبر الاستفتاءات رداً مستعجلاً ومريراً آخر يتخذه بوتين استناداً إلى عواطفه القوية بدل الاحتكام إلى حس المنطق، بما يشبه جميع قراراته في السنوات الأخيرة، لكن اتّضح الهدف من هذه الخطوة فوراً، إذ لم تعد السلطات الروسية تخجل من الكشف عن نواياها: بعد إنهاء الاستفتاءات التي تفتقر إلى أي أساس قانوني ولا يمكن التأكد من نتائجها، ستُعتبر الأراضي المحتلة روسية، وفي تلك المرحلة، سيكون أي رد أوكراني ضد تلك الأراضي بمنزلة هجوم على روسيا بحد ذاتها. هذه التطورات قد تُسبب عواقب كبرى وقد تصل إلى حد استخدام الأسلحة النووية، لقد أصبح التكلم عن قدرات روسيا النووية مألوفاً ومتكرراً لدرجة أن يعكس جانباً طبيعياً جديداً من خطابات الكرملين والمواقف التي تروّج لها حملاته الدعائية. يبدو أن تهديدات بوتين القاتمة باستعمال «جميع الوسائل المتاحة» تهدف إلى زعزعة الشعب وتحضيره للمعركة، لكنها قد تعطي أثراً معاكساً في مرحلة معيّنة: إلى أي حد يمكن الوثوق بزعيم يجرّ البلد كله إلى شتاء نووي؟ قد تصبح مخاوف الروس من أي حرب نووية محتملة أكبر من خوفهم من بوتين شخصياً، ولن يرغب الكثيرون في التعامل مع نسخة جديدة وغير محدودة من أزمة الصواريخ الكوبية. من الواضح أن بوتين يأخذ مجازفة كبرى، فقد أصبح الوضع الاقتصادي سيئاً ولا يمكن أن يتحسّن عبر إرسال أعداد هائلة وإضافية من الناس لارتكاب المجازر، وفي غضون ذلك، اتضحت المشاكل التي تشوب الميزانية الفدرالية، إذ من المتوقع أن تتراجع العائدات (هل سيبقى شعبٌ لدفع الضرائب؟) ويضطر الكرملين لإنفاق جزء إضافي من ميزانيته على الحرب، ونتيجةً لذلك لا مفر من أن تنكمش موارده التي كان يستعملها لشراء ولاء الشعب، وفي هذه الظروف، ما الرسالة التي يستطيع الدكتاتور توجيهها إلى الناس فيما يسعى إلى إطالة مدة حُكمه رغم كل ما يحصل؟ اختار بوتين أن يوسّع نطاق الحرب، فزاد بذلك فرص هزيمته. بعد إعلان التعبئة، قد تتزامن هزيمة روسيا النفسية والمعنوية في أوكرانيا مع انهيار الأوهام التي يتمسك بها السكان المحليون حتى الآن حول «العملية الروسية الخاصة». من ناحية معيّنة، سبق أن انتصرت أوكرانيا بعدما اكتسبت هوية وطنية ووحّدت جميع فئات الشعب، لكن حتى أبسط انتصار لأوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة قد يزعج بوتين ويدفعه إلى الرد عشوائياً، من دون خجل أو حياء. حتى هذه المرحلة، تتراجع المؤشرات على احتمال بدء محادثات سلام (لا سيما بعد الاستفتاءات الروسية الصُوَرية شرقاً)، أو إنهاء الحرب وإعلان أحد الطرفَين انتصاره، وقد يستمر هذا الصراع المريع في أوروبا رغم نفاد موارد بوتين، البشرية منها والنفسية. يمكن التوصّل إلى نتيجة أفضل من هذا السيناريو، مع أن بوتين زاد صعوبة تحقيقها بعدما ورّط البلد كله في حربه، وتعني تلك النتيجة أن تبدأ روسيا بالانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية، وإذا تحقق هذا الانتصار بطريقة ما، فسيكون إنجازاً مشتركاً لأوكرانيا، وأوروبا، والغرب، والعالم أجمع، بما في ذلك موسكو، لأنه يعني تحرر روسيا من بوتين و«البوتينية» *أندريه كوليسنيكوف
مشاركة :